وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا... الضمير يعود لمشركي العرب وهم وثنيون يعترفون بأن الله تعالى خالق الكون ولكن لا يعترفون بربوبيته المطلقة ولا بالمعاد. وقيل القائل بهذا الكلام الدهريون المنكرون للخالق وذلك لان قولهم (وما يهلكنا الا الدهر) ليس من كلام المعترفين بان الله هو الخالق للكون. وسيأتي البحث عنه.
ومهما كان فضمير (هي) يعود الى الحياة وهي معلومة من السياق اي ليست الحياة الا حياتنا الدنيا وليست هناك حياة اخرى بعد الموت. وأمّا قولهم (نموت ونحيا) فالظاهر أنّ المراد به موت جيل ونشأة جيل آخر وليس فيه اعتراف بالحياة بعد الموت كما يتوهم مع أن مجرد ذكر الحياة بعد الموت لا دلالة فيه على الترتيب الزمني فلا يختلف في التعبير عن تعاقب الحالتين في المجتمع البشري بين تقديم اي منهما فالمهم بيان هذا التعاقب للدلالة على أنه ليس وراءهما حياة اخرى ولعل اختيار هذا التعبير لتناسب القافية مع الدنيا.
وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ... الدهر ــ كما في العين ــ هو الابد الممدود. وفي المفردات (مدة وجود العالم من ابتدائه الى انقضائه) وهو في الواقع تفسير لما في العين. واسناد الاهلاك الى الزمان المستمر مجازي كاسناد امور اخرى اليه في الشعر ونحوه مع انها مستندة في الظاهر الى عواملها الطبيعية فمعنى كلامهم اسناد الموت الى العوامل الطبيعية وانكار إسناده الى الاله المدبر للكون المحيي المميت ولذلك سيأتي جوابهم بأنّ الله تعالى هو المحيي والمميت ولا يلازم ذلك إنكار وجوده تعالى او إنكار خالقيته ليصح القول بأن المراد بالقائلين الملحدون وانما يلازم إنكار ربوبيته المطلقة.
وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ... من الطبيعي ان المنكر للمعاد وهو الهدف الاساس من قولهم المذكور لا يمكن ان يستند الى دليل علمي لان غاية ما يصل اليه علم الانسان في هذا المجال هو عدم العلم بشيء ولا يمكنه نفي ما وراء هذه الحياة فالمنكرون انما يستندون الى انهم لم يجدوا دليلا مقنعا وأوّل جواب عنهم انه يكفي للانسان ان يحتمل ذلك فهو احتمال خطير يبعث العاقل الى الاحتياط واجتناب الخطر. والمراد بالظن الاعتقاد الذي لا يستند الى دليل علمي ولا الى رؤية واحساس مباشر.
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ... اي اذا تليت عليهم آيات القرآن المشتملة على الادلة الواضحة البينة المثبتة للمعاد لم يكن لهم في المقابل حجة لانكاره الا المطالبة بإحياء الآباء السابقين الذين اصبحوا ترابا في الارض او تبدلوا الى اشياء اخرى وهذه حجة متكررة من منكري المعاد. وهي ليست بحجة كما هو واضح بل هو كلام باطل اذ لا يُغيّر الله سنّة الكون ليثبت لهم امكان المعاد مع وجود البراهين الواضحة.
وتوصيف كلامهم الباطل بالحجة للتاكيد على نفي اي حجة لهم اي ليس لهم حجة الا هذا الكلام الذي ليس بحجة كما تقول فلان ليس له ذنب الا حب اهل البيت عليهم السلام. وقولهم (ائتوا..) خطاب للمؤمنين لأنهم كانوا يذكرون هذا المضمون في مختلف المحادثات الاحتجاجية التي تحدث بين الفريقين.
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ... وهذه حجة واضحة على ان الله تعالى قادر على اعادة الخلق وذلك لانه هو الذي أحياكم أول مرة وخلق الحياة من مادة ميتة فهو قادر على اعادتها في مرحلة اخرى من التطور. والإحياء عملية مستمرة في الطبيعة ولذلك أتى بالفعل المضارع فالخطاب للمجموع لا لكل فرد. ثم هو الذي يميتكم وليس الدهر وذلك لان الموت بفعل العوامل الطبيعية وهي كلها طوع ارادته فهو يحييكم مرة اخرى ويجمعكم الى يوم القيامة اي يجمع كل الاجيال البشرية اليه.
قالوا ان (الى) بمعنى (في). ولكن الظاهر ان التعبير به لمناسبة معنى الجمع وتضمينه معنى الانتهاء اذ يدل ذلك على انهم متفرقون فهو يجمعهم وينتهي بهم الى مجمع واحد يوم القيامة. وقوله (لا ريب فيه) تأكيد منه تعالى حتى لا يتوهم أحد أنه من الوعيد والتهديد بأمر يمكن ان لا يقع او يحدث فيه تغيير والسبب في حتميته كما ورد في آيات اخرى أنه مما تقتضيه العدل والحكمة اما العدل فلِكَي ينال كل احد جزاءه ويوضع موضعه واما الحكمة لانه لولا ذلك لم يكن لخلق الانسان بل الكون اي هدف وغاية.
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ... اي يجهلون هذه الادلة والبراهين ولا يعلمون ان الاعادة يوم القيامة مقتضى العدل والحكمة. واكثر الناس حتى المؤمنين لا يعلمون فالايمان بالآخرة ضعيف فينا والا لعملنا لها اكثر مما نعمل لدنيانا، وقلّ من نوّر الله قلبه للايمان فهو يرى اهل الجنة في نعيمهم واهل النار في عذابهم كما مر في الرواية المعتبرة.