سورة الجنّ سورة مكّيّة بلا خلاف وموضوعها قصّة استماع الجنّ الى القرآن وإيمانهم به وبالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم. واختلفت الروايات في تاريخ حدوث القصّة. وورد نظيرها في آخر سورة الاحقاف وقيل باتحاد قصتهما ولم يثبت.
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ... الأمر بالقول يفيد أنّ الإخبار بهذا الأمر لغرض يترتّب عليه. وحيث إنّ السورة مكّيّة فقد ورد في التفاسير أنّ المراد إعلام الأمر للمشركين تنديدا لهم بأنّه حتّى الجنّ آمنوا بالقرآن وهم كذّبوا به.
ومن الممكن أن يكون الغرض إعلام المؤمنين بذلك فإنّ الكافر لا يصدّق الخبر ولا يتأثّر منه بل ربّما يزيده كفرا وعنادا لعدم وجود أمارة تدلّ على حدوثه. فلعلّ المراد تقوية عزائم المؤمنين بأن لا يشعروا بالوحدة وقلة العدد في مقابل المشركين فإنّ هناك من يتبع طريقهم من غير البشر ايضا.
ويستفاد من قوله (اُوحي الي) أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم لم يرهم ولم يسمع كلامهم ابتداءا وانما اطّلع على حضورهم واستماعهم عن طريق الوحي. وأمّا أقوالهم المحكية فسيأتي البحث عن المخاطب فيها إن شاء اللّه تعالى.
والنَفَر ــ على ما قالوا ــ يطلق على الجماعة من البشر وإطلاقه على الجنّ من باب المشابهة. وقيل: يختص بما دون العشرة. ولكن الظاهر عدم الاختصاص. ولم يرد ذكر مفعول لاستماعهم واكتفي بدلالة الجملة التالية عليه حيث تدلّ على أنهم استمعوا للقرآن بقراءة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم.
والجنّ موجود عاقل مكلف ولكنه مستور غير مرئي، ومن هنا اُطلق عليه هذا اللفظ لانه مأخوذ من جنّ بمعنى ستر. والقرآن يصرّح بوجوده فلا يصغى لمن ينكره لمجرّد عدم الرؤية كما ينكر الملاحدة وجود اللّه تعالى شأنه، وكما ينكر من لا يؤمن بكلام الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وجود الامام المهدي سلام اللّه عليه وعجّل اللّه فرجه.
ولكنّ كل حقيقة غير مرئية تحوم حولها الخرافات والاخبار غير الصحيحة والاوهام. ومن ذلك ما انتشر بين الناس من أخبار الجنّ حتى إنّ بعضهم نشر صورة وادّعى أنّه صورة جنّي مع أنّ القرآن يصرّح بأنه لا يرى فلا يمكن تصويره طبعا. قال تعالى (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ).
وهناك من يدّعي أنّ بعض الصحابة صارع جنّيا فصرعه. ومن النساء من تدّعي أنها تزوجت ملك الجنّ وأنّه يأتيها كل ليلة او أنّها تلبّست بالجنّ ونحو ذلك. ولعل بعضهنّ تتستّر بهذه الدعوى وأمثالها على ممارساتها غير المشروعة.
ولكن هناك حقائق تنقل عن الثقات مما لا يمكن انكارها ولا تشتمل على رؤية ولا على تجسّم ومن ذلك ما حكاه بعض الثقات عن بعض العلماء أنّه أبدل بيته القديم في منطقة سكنية قديمة في قم وانتقل الى منطقة اخرى لما كان يتأذى به من تصرفات بعض الجانّ في تلك الدار القديمة، واللّه العالم.
والمتيقّن المؤكّد من أخبارهم ما ورد في القرآن الكريم والروايات الصحيحة، فالقرآن صرّح بأنه مخلوق من نار وأنّه خلق قبل الانسان، قال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) وأنّ من هذا الجنس ابليس (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) وأنّه موجود ذي شعور ومكلّف كما يستفاد من آيات عديدة ومنها هذه السورة. وفيها حقائق اُخرى عنهم.
وقد وقع الكلام في أنّه هل بعث اللّه منهم رسلا ام لا؟ والذي يظهر بوضوح من هذه السورة وآخر سورة الاحقاف أنهم يتبعون شرائع البشر وليست لهم شريعة خاصة قال تعالى (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى..) مما يدلّ على أنّهم كانوا يتبعون شريعة موسى عليه السلام الى أن سمع بعضهم آيات القرآن الكريم فآمنوا برسالة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم.
وانما لم يذكروا عيسى عليه السلام مع أنّه أقرب لأنّ الانجيل لا يشتمل على شريعة متفاوتة عن التوراة وانما ورد فيه رفع بعض التكاليف الشاقّة التي كلّف بها بنواسرائيل لبغيهم. ولعلّ الجنّ لم يكلّفوا بها قال تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ..) وقال تعالى (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ..)
وربما يستدل على وجود رسل منهم بقوله تعالى (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي..) ولكن يمكن أن يكون الخطاب باعتبار وجود رسل في مجموع الفريقين ولا يجب أن يكون من كل فريق وانما تدل الآية على أنّ الرسل أبلغوا كلا الفريقين آياته تعالى بواسطة او بدونها كما أنّ أكثر البشر ايضا تلقوا الرسالة بالواسطة.
ويمكن أن يكون المراد بالرسل ما يعمّ المبلّغين عن رسل السماء ومنهم هؤلاء النفر الذين صرفهم اللّه تعالى لسماع القرآن قال تعالى (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ..) وما تحكيه الآيات عنهم يعبّر عن رسالة كاملة.
وورد في الميزان أنّه يستفاد ممّا ورد في القرآن الكريم حولهم أنّ فيهم ذكورا وإناثا وأنّهم يتكاثرون بالتوالد والتناسل واستدل بقوله تعالى: (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِن) واستدلّ بعضهم على ذلك ايضا بقوله تعالى (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ..).
ولكن التعبير بالرجال قد يكون من باب المشاكلة كما في قوله تعالى (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ..) كما أنّ التعبير بالذرية قد يكون تجوّزا عن الأتباع كما قيل. ويؤيّده أنّه تعالى اعتبر ذريته جميعا أعداء الانسان مع أنّ الجنّ ليسوا كلهم أعداءا لهم لو اريد جنس الجن من الذرية.
ومهما كان فلا دليل على تكاثر الجنّ أساسا فضلا عن انقسامهم الى ذكر وانثى وتزاوجهم وتناسلهم كالانسان وسائر الحيوان ولا سبيل لنا الى معرفة هذه الخصوصيات عنهم ما لم يرد في نصّ معتبر.
ووقع البحث ايضا عن دخولهم الجنّة فالثابت من الآيات أنّ كفارهم وفسقتهم يدخلون النار وأمّا أنّ الصالحين منهم يدخلون الجنّة فلا دليل عليه بالخصوص من الكتاب وان اقتضاه العدل الالهي كما هو واضح.
وهناك آيات تنقل عن الجنّ امورا عجيبة في شأنهم مع سليمان عليه السلام في سورة البقرة والانبياء والنمل وسبأ وص. والآيات كثيرة حول تأثير الشيطان على الانسان وإغوائه له ووسوسته. وأعجبها قوله تعالى (قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا).
وأما الروايات التي وردت في قصص الجن فهي كثيرة قلّ ما يصح منها شيء فممّا يعتبر صحيحا عند بعض العلماء وان كان فيه تأمل ما رواه في الكافي عن فضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول:
(إن نفرا من المسلمين خرجوا إلى سفر لهم فضلّوا الطريق فأصابهم عطش شديد فتكفنوا ولزموا أصول الشجر فجاءهم شيخ وعليه ثياب بيض. فقال: قوموا فلا بأس عليكم فهذا الماء فقاموا وشربوا وارتووا فقالوا: من أنت يرحمك اللّه ؟ فقال: أنا من الجنّ الذين بايعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم إني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم يقول: المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله فلم تكونوا تضيعوا بحضرتي).
فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا... اختلف المفسرون في المخاطب بهذا القول، فقيل: إنّ المراد أنّهم قالوه لقومهم حينما رجعوا اليهم كما ورد في قوله تعالى (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) وهذا محتمل ولكن لا دليل من الآيات على وحدة القصّة. ويمكن أن يكون هذا القول ممّا تداولوه فيما بينهم بعد الاستماع كما قيل.
ويحتمل أن يكون خطابهم موجّها للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم خصوصا بملاحظة ما ذكروه من خصائصهم ممّا يقتضي محاولة التعريف بأنفسهم حيث أخبروا بأنّهم على طوائف: منهم المسلمون ومنهم القاسطون ومنهم الصالحون ومنهم دون ذلك وأنّهم مُنعوا من الوصول الى السماء وغير ذلك ممّا يقتضي أنّ الخطاب لمن ليس منهم فإنّهم يعلمون هذه الخصائص من أنفسهم.
ولا ينافي ذلك ما مرّ من أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم انما علم بخبرهم من الوحي فمن الممكن أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم اطّلع من الوحي على استماعهم للقرآن ليكون مستعدّا للقائهم والاستماع الى أقوالهم.
ويؤيّد هذا الاحتمال أنّهم لا يتمّ ايمانهم الا بالحضور لديه صلى اللّه عليه وآله وسلّم والتشهد على يديه مع الامكان بل ومبايعته كما ورد في الرواية التي نقلناها.
ولكن هناك احتمال آخر لعله الاقوى وهو أن يكون إسناد القول اليهم من باب بيان حالهم وما كان يدور في خُلدهم، وفي القرآن موارد كثيرة من القول يحتمل فيها ذلك كبعض موارد اسناده الى الملائكة ومخاطبتهم للّه كقوله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فلا يحتمل في مثل هذه الآية أنّ الملائكة خاطبوه تعالى بصوت واحد (أتجعل فيها..) بل ربما لا يكون التعبير مناسبا لمخاطبة الملائكة له تعالى فلعل ذلك انما دار في خُلدهم فعُبّر عنه بالقول.
ولعل من ذلك بعض موارد تخاطب الناس يوم القيامة سواء ما حكاه اللّه تعالى عن المستكبرين والمستضعفين من اهل النار او ما حكاه من تخاطب اهل الجنة بعضهم مع بعض او تخاطب الفريقين.
ولعل من ذلك بعض موارد التخاطب بينه تعالى وبين الرسل عليهم السلام مثل قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) اذ لا شك في أنّهم لم يكونوا مجتمعين حين هذا الخطاب ليقولوا معا (اقررنا) ويخاطبوا بالامر بالشهادة بل لا حاجة الى هذا التأكيد والاستشهاد بينه تعالى وبين الرسل عليهم السلام فيمكن أن يكون هذا كله تأكيدا في مقام الحكاية وبيانا للحال.
ولعل من ذلك ايضا قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) بناءا على أنّ المراد بمضمون الآية ما أودعه اللّه تعالى في فطرة الانسان.
كما أن هذا الاحتمال يقوى في جميع موارد التخاطب بينه تعالى وبين ابليس لعنه اللّه بل إن هذا الاحتمال هو الاقرب في كثير من موارد الخطاب الجماعي الذي يحكيه اللّه تعالى في كتابه الكريم عن الامم السالفة لرسلهم خصوصا ما يحكيه بصيغة موحّدة بين جميع الاقوام فلا يبعد أن يكون كل ذلك من قبيل لسان الحال.
و(قرآنا) مصدر بمعنى اسم المفعول اي مقروءا. والعجب ايضا مصدر اُطلق على الذات من باب المبالغة اي أنّه موجب للعجب الشديد. والإعجاب من جهة ما يشتمل عليه من الحقائق الغيبية والاحكام الشرعية وبيان صفات اللّه تعالى وغير ذلك من وجوه الاعجاز ومنها أنّه أتى به رجل اُمّيّ لم يقرأ ولم يكتب قبل ذلك شيئا.
وأمّا الاعجاب من حيث اللفظ وقوّة البيان فلا نعلم هل الجنّ يدرك هذه الامور وفي خصوص اللغة العربية أو أنّ الجنّ الساكنين في كل بلد يتعلّمون لغة أهله أم لا؟
وأمّا إسناد القول اليهم في هذه الآيات فلا يدلّ على أنّهم تكلّموا بهذه الألفاظ كما مرّ بل لا يبعد أن لا يكون التفاهم في ما بينهم بالنطق فلعلّه بوسائل اُخرى كالحيوانات وقد اُسند القول اليها في القرآن كقوله تعالى (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ..).
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ... الرُشد والرَشَد: الطريق الصحيح. والمراد طريق السعادة في الآخرة وإنّما اكتشفوا ذلك من جهة إعجازه الدالّ على أنّه من اللّه تعالى، وحيث إنّ مضامينه سبل العمل بالوظائف الشرعية المنتهية الى رضا اللّه تعالى والفوز بثوابه استنتجوا أنه كتاب يهدي الى الطريق الصحيح.
ولمّا علموا ذلك كان من الطبيعي أن يؤمنوا به فالفاء في قولهم المحكيّ (فآمنّا به) للترتّب الطبيعي فإن الايمان يترتّب بالطبع على هذا العلم ومن لم يؤمن به فانما منعته نزعة الكبر والحسد ومتابعة الاهواء.
وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا... (لن) للنفي في المستقبل وفيه تأكيد. وقيل انه للنفي المؤبّد ولم يثبت. وربّما يُفهم من قولهم أنّهم كانوا مشركين قبل ذلك فهذه الجملة توبة منهم وعزم على عدم العود.
ولم تتبيّن حقيقة العقيدة الشركيّة الموجودة لديهم ولم يثبت أنّهم كانوا يعبدون الاصنام ويعتقدون أنها تمثّل أربابا يؤثّرون في الكون فلعلّهم كانوا يعتقدون بربوبيّة تلك الارباب من دون تمثيل بالصنم او كانوا يعتقدون ربوبية كبرائهم كما هو الحال في بعض البشر او غير ذلك ويمكن ان يكونوا مشركين في العقيدة فحسب لا في العبادة فربما كانوا يعتقدون أنّ في الكون مؤثرات اخرى بالاستقلال كالثنوية.
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا... اختلف القرّاء في قراءة هذه الآية وبعض آخر من الآيات بين (إنّ) و(أنّ). فان قرئت بالكسر كان من عطف الجملة على الجملة وكل منها مقول للجنّ الا ما ليس من كلامهم وهو واضح، وأما بالفتح ــ وهي القراءة المتداولة ــ فلا تكون جملة لأنّ (أنّ) تُأوّل مع ما بعدها الى المصدر.
وقد اختلفوا في توجيهها، فقيل: إنّها معطوفة على الضمير المجرور في قولهم (فآمنّا به) اي وآمنّا بأنّه تعالى جدّ ربّنا.. واعترض عليه في الميزان بأنّه لا يتمّ في أكثر الآيات التالية وان صح في هذه الآية اذ لا معنى لهذه الجملة (وآمنّا أنا ظننا ان لن تقول الانس والجن على اللّه كذبا) وهكذا بل الصحيح أنّه لا يتم في شيء منها مما هو من كلام الجن واما ما ليس من كلامهم فواضح.
ولكن يمكن تقدير الفعل المناسب في كل آية ففي الآية المذكورة يمكن تقدير ما يدل على الاعتراف فالتقدير مثلا وقالوا نعترف أنّا ظننا ان لن تقول الانس والجن.. كما يمكن تقدير حرف الجر في كل ذلك مع تعميم معنى القول ليشمل الاعتقاد اي واعتقدوا بأنه تعالى جدّ ربنا وهكذا.. ويمكن ايضا أن يضمّن القول معنى الاعتقاد والاعتراف فتكون كل ذلك معطوفا على قوله تعالى (إنّا سمعنا) بتضمين معنى الاعتقاد والاعتراف.
وبناءا على ما مرّ في إسناد القول اليهم من احتمال أن تكون الآيات في مقام بيان حالهم وما يدور في خلدهم من دون أن يكون خطابا لأحد او مقولا لقول فالامر واضح فإنّ القول بناءا على ذلك ليس بمعنى الكلام حتى يكون ما بعده جملة بل بمعنى الاعتقاد.
ويلاحظ أن هذه الجمل المتعاطفة ليست كلها من كلام الجنّ بل بعضها من كلامه تعالى وهذا وارد في موارد كثيرة من القرآن الكريم حيث يأتي كلامه تعالى بعد حكاية كلام الآخرين من دون أن يؤتى بفاصل يتبيّن منه أنّه من كلامه تعالى يعقّب به على كلامهم او يذكر أمرا مناسبا للسياق، فمن ذلك قوله تعالى في حكاية كلام موسى عليه السلام (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) فان الضمائر في قوله تعالى فاخرجنا.. خلقناكم.. نعيدكم.. نخرجكم.. تدل على ان الكلام من اللّه تعالى مع أن أوله من موسى عليه السلام وهو كلام متصل.
والسر في ذلك أنّه تعالى لا ينقل كلام الآخرين بما هو كلام وانما ينقل مضمونه بل ربما ينقل معتقده بصورة كلام كما اسلفنا ولذلك يختلف الكلام المنقول من شخص واحد وفي واقعة واحدة من سورة الى سورة. وعليه فما كان من كلامه تعالى في هذه الآيات فهو معطوف على قوله (أنّه استمع..) فيكون مما اوحي اليه صلى اللّه عليه وآله وسلّم.
والجدّ بمعنى العظمة قال في معجم المقاييس (يقال جَدَّ الرجُل في عيني أي عَظُم. قال أنسُ بنُ مالكٍ: "كان الرجلُ إذا قرأ سورةَ البقرة وآلِ عِمرانَ جَدَّ فينا" أي عَظُم في صُدورِنا) فالمعنى تعالت عظمة ربنا. والجملة المنفية التي بعدها تتعلق بها فالمراد تعالت عظمته وجلّ شأنه من أن يتخذ صاحبة او ولدا.
ويحتمل أن يكون الوجه في اهتمام الجنّ بالتبرّي من إسناد اتّخاذ الصاحبة ــ اي الزوجة ــ والولد الى اللّه تعالى شأنه الردّ على بعض العقائد الخرافية المحكية عن بعض العرب من أنّه تعالى تزوّج الجنّ وولدت له الملائكة، وان لم تثبت صحة هذه الحكاية.
وفي مجمع البيان عن الربيع بن أنس أنه قال (ليس لله تعالى جدّ وإنما قالته الجن بجهالة فحكاه سبحانه كما قالت) ثم قال الطبرسي رحمه اللّه: وروي ذلك عن أبي جعفر الباقر وأبي عبد اللّه عليهما السلام.
والظاهر أنّ المراد بالجدّ الذي نُفي عنه تعالى: الحظّ، ففي تفسير علي بن ابراهيم القمي (ومعنى جدّ ربنا أي بخت ربنا). والبخت: الحظّ وهي كلمة فارسية، ووجه الاستنكار واضح فإن له تعالى ما في السماوات والارض ولا يمكن أن يقال إنه تعالى له حظّ عظيم متعال في الكون او له النصيب الاكبر ولكن اذا فسّر الجدّ بالعظمة وهو المعنى المناسب في هذه الجملة حيث تكون مقدّمة لنفي الصاحبة والولد فلا اشكال فيه.
ثم روى القمي قال (حدثنا علي بن الحسين عن أحمد بن أبي عبد اللّه عن الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد عن عبد اللّه بن سنان [سيار] عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قول الجن: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا. فقال شيء كذبه الجن فقصّه اللّه كما قال).
والرواية ضعيفة ولا أقلّ من جهة عدم ثبوت استناد الكتاب الى القمي.
وروى الصدوق رحمه اللّه في الفقيه قال: وقال الصادق عليه السلام: (أفسد ابن مسعود على الناس صلاتهم بشيئين بقوله " تبارك اسمك وتعالى جدك " وهذا شيء قالته الجن بجهالة فحكاه اللّه تعالى عنها وبقوله: السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين).
والرواية مرسلة لا يعتدّ بها.
وروى في الخصال قال حَدَّثَنَا أَبِي رَضِيَ اللّه عَنْهُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللّه عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ مَيْسَرَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: (شَيْئَانِ يُفْسِدُ النَّاسُ بِهِمَا صَلَاتَهُمْ قَوْلُ الرَّجُلِ تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ قَالَتْهُ الْجِنُّ بِجَهَالَةٍ فَحَكَى اللّه عَنْهُمْ وَقَوْلُ الرَّجُلِ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللّه الصَّالِحِينَ).
ورواه الشیخ رحمه اللّه عن احمد بن محمد بن عیسی عن ابن أبي نصر عن ثعلبة بن ميمون عن ميسر عن أبي جعفر عليه السلام قال: شيئان يفسد الناس بهما صلاتهم قول الرجل (تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) وإنما هو شيء قالته الجن بجهالة فحكى اللّه عز وجل عنهم، وقول الرجل (السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين).
والمراد بالجملة الاخيرة اي قوله عليه السلام (وقول الرجل السلام علينا..) أن هذا التسليم مخرج عن الصلاة وهم يقولونه في اول التشهد فيكون كل ما يقع بعده خارج الصلاة فتبطل بذلك صلاتهم.
والظاهر اعتبار سند الرواية ولم أجد ما يطعن به على السند الا أنّ المتن لا يخلو من شيء فأوّل ما يفسد صلاة القوم في الظاهر وضوؤهم حيث يخالفون به صريح القرآن ويغسلون أرجلهم بدلا عن المسح ولا صلاة الا بطهور.
مضافا الى استبعاد أن يحكي اللّه تعالى أمرا خاطئا عن قوم من دون الردّ عليه بل حتى الاشارة الى كونه خاطئا ومن دون ضرورة تدعو الى هذه الحكاية خصوصا في ما يتعلّق بذاته المتعالية وصفاته الكريمة وما يمكن إسناده اليه تعالى من الافعال والاوصاف.
قال العلامة المجلسي قدس سره: (والمنع لانّ الجن أرادوا بقولهم هذا: البخت ولا يجوز إطلاق ذلك عليه تعالى وابن مسعود لما أراد به ما هو المراد في الآية جهلا فكأنه أراد هذا المعنى أو يقال: إنه وإن لم يقصد هذا المعنى وأراد به العظمة أو غيرها فلمّا كان موهما لهذا المعنى لا ينبغي إطلاقه على اللّه لا سيما في الصلاة وما ورد في بعض الأدعية فلعله أيضا من طريق المخالفين أو أريد به معنى آخر أو يقال: لا ينبغي ذكر مثل ذلك في الصلاة وإن جاز في غيرها).
ولكن يلاحظ عليه رحمه اللّه أنّ المناسب من معنى الجدّ في كلام الجنّ هو العظمة لا الحظّ فلماذا يحمل على المعنى غير المناسب مضافا الى انه لو كانوا أرادوا ذلك فكان الاولى ان يردّ عليهم بوجه. وأمّا ما ذكره من أنّ الادعية لعلها من طريق المخالفين فهو بعيد جدا كما يلاحظ وروده في روايات كثيرة وادعية مختلفة.
فقد ورد هذا التعبير في دعاء الجوشن الكبير وان كان هذا الدعاء لم يرد في الكتب القديمة وقال المجلسي في البحار (رواه جماعة من متاخري اصحابنا رضوان الله عليهم) وكذلك ورد في بعض الروايات منها ما في نهج البلاغة عن امير المؤمنين عليه السلام قال (الحمد اللّه الفاشي حمده، والغالب جنده، والمتعالي جدّه..)
ومنها ما رواه المجلسي رحمه اللّه عن نهج البلاغة عنه عليه السلام أنه قال: إن اللّه سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما متع به غني، واللّه تعالى جدّه سائلهم عن ذلك). وورد مثل ذلك في نقل مستدرك الوسائل عن نهج البلاغة. وكذلك في جامع احاديث الشيعة. ولكن لم ترد جملة (وتعالى جده) في النهج المطبوع حاليا.
وروى المجلسي ايضا عن نهج البلاغة حديثا حول الرزق وفيه (فان تكن السنة من عمرك فان اللّه تعالى جدّه سيؤتيك في كل غد جديد ما قُسِّم لك..) ومثله ورد ايضا في المستدرك ولكنها لم ترد في النهج المطبوع، ووردت الجملة في الموردين او احدهما في النهج المطبوع مع بعض الشروح كشرح القطب الراوندي وابن ابي الحديد وميرزا حبيب اللّه الخوئي مما يدل على اختلاف النسخ. واللّه العالم بحقيقة الحال.
ووردت هذه الجملة في دعاء منسوب الى امير المؤمنين عليه السلام حيث قال (سبحان من تعالى جده وتقدست أسماؤه..) وهو منقول كذلك في مصادر مختلفة. وورد في دعاء الامام الحسين عليه السلام في يوم عرفة قوله (فلك الحمد والمجد وعلوّ الجدّ..).
والحاصل أن معنى (تعالى جدّه): تعالت عظمته، فلها معنى صحيح ومناسب لما ترتّب عليها من نفي الصاحبة والولد. والروايات التي ورد فيها أن هذه الجملة تبطل الصلاة ونحو ذلك لا وثوق بها حتى لو صحّ السند ظاهرا.
ومهما كان فمعنى الآية أنّه تعالى أجلّ من أن يتّخذ صاحبة او ولدا. والصاحبة: الزوجة. ونفي الولد ورد في موارد عديدة من الكتاب العزيز ردّا على النصارى حيث اعتبروا المسيح ابنا له تعالى وعلى المشركين حيث اعتبروا الملائكة بنات له سبحانه وتعالى عما يصفون بل ورد من دون ردّ على أحد باعتبار أنّه تعالى لا يمكن أن يولد من شيء او يولد منه شيء كما في سورة التوحيد (لم يلد ولم يولد).
وأمّا نفي الصاحبة فلم يرد الا هنا وفي قوله تعالى (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ) الانعام:101. وهو ايضا ردّ على المشركين حيث خرقوا له بنين وبنات كما في الآية التي قبلها فردّهم بطريق مفهوم لديهم وهو أنّ الولد يتوقّف على التزاوج واللّه تعالى لا زوج له. ويبدو منه أنّ عدم اتّخاذ الصاحبة كان مسلّما عندهم لما فيه من الحاجة الواضحة ومن وجود المشابه له تعالى وان نسب اليهم أنّهم كانوا يقولون بمصاهرة الجنّ له تعالى وأنّ الملائكة ولدوا منهم فإن إسناد هذا القول اليهم لا مستند له.
وهناك فرق بين ان يقال له ولد وان يقال اتّخذ ولدا وبعض العقائد الخرافية لدى البشر لا تقول بانه تعالى له ولد ولكنهم يقولون اتخذ ولدا ومن هؤلاء من يصحح العقيدة المسيحية بأنا لا نقول بأن المسيح عليه السلام ابنه تعالى فهو امر مستحيل ولكن نقول بأن له من القرب لدى اللّه تعالى انه اتخذه ولدا وهذه العقيدة المحكية عن الجن تنفي اتخاذ الولد فان اتخاذ الولد ايضا يحكي عن نوع من الحاجة تعالى اللّه عنها.
وهناك من يقول بانا لا نقول حتى بالاتخاذ المستلزم للحاجة وانما نقول بانه تعالى عبّر عن شدة العلاقة والارتباط بين المسيح وربه بالبنوة كالتعبير عن علاقته تعالى بابراهيم بالخُلّة قال تعالى (وَاتَّخَذَ اللّه إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) وكالتعبير عن يد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بانه يد اللّه قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّه يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ..).
وهذا لا يمكن ردّه بأنّه مستحيل وإنما الرد بالنفي وأنّ اللّه تعالى لم يقل ذلك فهذا مما لم ينزل اللّه به من سلطان وهو كقول بعض المشركين عن اصنامهم (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى) واللّه تعالى يرد عليهم بقوله (إِنَّ اللّه لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) فهذا كذب وافتراء على اللّه تعالى.
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا... الآية ترتبط بما قبلها اي نفي الشريك عنه تعالى ونفي الصاحبة والولد والمعنى واضح وهو أنّ إسناد هذه الامور اليه تعالى انما كان من قبل سفهائنا ولا يقول به عقلاء الجن فالغرض التبري من هذه العقائد الفاسدة. والسفاهة: الخفّة في العقل او الحلم. والمراد به هنا الاول اي لا يقول بمثل هذا الكلام الا خفيف العقل. والشطط هو البعد. والمراد به هنا الكلام البعيد عن الحق.
ولعل الغرض من بيان ذلك تنبيه الانس على أنّ الجنّ مثلكم فيهم سفهاء وفيهم عقلاء بل لا يبعد ان تكون السفاهة وضعف الادراك الصفة الغالبة عليهم ولكن البشر لعدم الارتباط المباشر معهم لا يدركون حقيقتهم فيتصورون ان لهم مزية على الانسان فيلجأون اليهم كما سيأتي ذكره ان شاء اللّه تعالى.
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا... الظنّ: كل اعتقاد لا يستند الى دليل ملموس سواء كان حقا ام باطلا وسواء اوجب الاطمئنان ام لم يوجب. وهذا اعتذار منهم عن الاعتقاد الخاطئ الذي كان لديهم من الشرك ومن إسناد الصاحبة والولد اليه تعالى.
وعذرهم في هذا الامر أنّهم أحسنوا الظنّ بسفهائهم الذين قالوا بذلك او أنّهم لاستعظامهم الكذب على اللّه تعالى لم يصدّقوا أنّ أحدا يجرؤ في اسناد الكذب اليه فلمّا تبيّن لهم كذبهم تركوا هذه الآراء الفاسدة. ولعلّهم ذكروا الانس مع الجنّ تنبيها للمشركين بأنّهم ايضا لا ينبغي لهم أن يستسلموا للآراء الفاسدة التي يقول بها السفهاء المستكبرون.
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا... العوذ: اللجوء. والرهق: الغشيان ولكنه لا يستعمل الا في المكروه قال تعالى (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) اي تعلوهم الذلة والانكسار ولعل المراد به هنا التعب والمذلة فهم عاذوا بالجنّ متعبين أذلّاء فازدادوا بذلك تعبا وذلّا.
ولعل التعبير بأنّ رجالا من الانس عاذوا بالجنّ مع أنّ النساء أسرع الى هذه الامور لمزيد من الاستغراب فإنّ ذلك من الرجال موضع غرابة أشدّ كما أنّ التعبير بالرجال في جانب الجنّ مع أنّه لا خصوصية في رجالهم ــ لو فرض انقسامهم الى رجال ونساء ــ ومع أنّ البشر لا يميّزون ذلك ولا يعلمون لمن يعوذون منهم لعلّه للتنبيه على أنّه لا فرق بين العائذ والمُعاذ به فكلاهما في صفّ واحد من الضعف. والجنّ لا يملك ما لا يملكه البشر.
والظاهر أنّ ضمير الفاعل في قوله (فزادوهم رهقا) يعود الى الجنّ والمفعول الى الانس فالمعنى أنّ الجنّ لم ينفعوا الانس العائذين بهم بل زادوهم تعبا ومذلّة. والغرض بيان أنّ الناس يخطئون في رجوعهم الى الجنّ لحلّ مشاكلهم.
ويبدو من تاريخ العرب وقصصهم أنّهم كانوا يلجأون اليهم في موارد عديدة منها الرجوع الى الكهنة باعتبارهم يخبرون عن الغيب باللجوء الى الجنّ واستخبارهم أخبار السماء من الملائكة وقد وردت الاشارة الى ذلك في هذه السورة كما سيأتي ان شاء اللّه تعالى. ومرّ بعض الكلام حوله في تفسير قوله تعالى (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ).
وفي مجمع البيان في تفسير هذه الآية (وكان الرجل من العرب إذا نزل الوادي في سفره ليلا قال أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه. عن الحسن ومجاهد وقتادة. وكان هذا منهم على حسب اعتقادهم أنّ الجن تحفظهم. قال مقاتل وأول من تعوذ بالجن قوم من اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا في العرب).
ويحتمل أن لا تكون هذه الجملة والتي تليها من كلام الجن او اعترافاتهم او عقائدهم بل هما مما عقّب اللّه تعالى به كلامهم كما مرّ الكلام حوله.
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا... بناءا على ما مرّ آنفا من احتمال أن تكون هذه الجملة والتي قبلها من كلامه تعالى فالمعنى واضح والضمير في (ظنوا) يعود الى الجن وفي (ظننتم) خطاب للبشر. والغرض بيان أنّ الجنّ لا يختلفون عن البشر في هذه الأوهام والعقائد الفاسدة فلا ينبغي للبشر أن يعظّموا الجنّ وأفكارهم وعقائدهم.
وأمّا بناءا على كون هذه الجملة وسابقتها من ضمن أقوال الجن او عقائدهم واعترافاتهم فقد اختلفوا في أنها هل وردت خطابا لأبناء جنسهم فيكون الضمير في (ظنوا) يعود الى الإنس ام وردت خطابا للانس فينعكس الامر؟ ولا جدوى لهذا الخلاف.
واختلف ايضا في المراد بالبعث وأنّه هل هو بعث الرسول او البعث والنشور يوم القيامة والانكار في كلا الموردين مشهور بين البشر قديما وحديثا فالجنّ ايضا كذلك.
والظّنّ ــ كما مر ــ كل عقيدة لا يستند الى دليل او لا يستند الى إدراك مباشر فالذي ينفي الرسالة او ينفي النشور لا يمكن أن يستند في ذلك الى إحساس وإدراك مباشر إذ أنّ كليهما من الامور الغيبية التي لا يدركها البشر بأحاسيسه فالإنكار ليس الا ظنّا مستندا الى الاستبعاد لعدم الاُنس بهذه المفاهيم.