مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءا غدقا لنفتنهم فيه... ظاهر السياق أنّ هذا وما بعده من كلامه تعالى. وقيل انه نقل لكلام الجن كأنّهم ينقلون عن اللّه تعالى. وهو بعيد عن سياق الآيات خصوصا قوله تعالى (وأنّ المساجد لله) اذ لا علاقة لمضمونه بالجن.

و(أن) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن اي وأنّ الشأن لو استقاموا.. وهي معطوفة على قوله تعالى (أنه استمع) فهذا ايضا مما اوحي الى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم وامر بتبليغه والضمير في قوله تعالى (استقاموا) يعود الى القاسطين في الآية السابقة كما قيل او الى المشركين باعتبار أن الخطاب لهم كما قيل ايضا. ولا يبعد ان يعود الى الجن والانس جميعا فان الخطاب لا يختص بقوم دون قوم.

ومن هذه الآية يبدأ السياق في التعرض للغرض الاساس من السورة المباركة فان التعرض لقصة الجن انما كان من اجل تسلية المؤمنين وتقوية عزائمهم او التنديد بالمشركين حيث لم يتأثروا بالقرآن مع أن الجن وهم جنس آخر تنبّهوا لاعجازه وآمنوا به. والمراد بالاستقامة على الطريقة سلوك طريقة الايمان والنهج الذي أراده اللّه تعالى لهداية البشر والاستمرار عليه وعدم الانحياز الى ما تدعو اليه الاهواء والاحزاب.

والغدق: الماء الكثير فهو كقوله تعالى (يرسل السماء عليكم مدرارا) ووفور المطر بنفسه سبب لسعة الرزق بل هو من أهم مقومات الحياة فإن الماء العذب الذي يحتاج اليه الانسان والحيوان والنبات ليس له مصدر الا ماء السماء. ومن هنا ربما يعبّر في القرآن الكريم بانزال المطر كناية عن سعة الرزق في مختلف المجالات. وعليه فالآية نظير قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ..) الاعراف: 96، وغيرها من الآيات التي تفيد نفس المضمون.  

ومن المفسرين من أرجع الضمير الى القاسطين وفسّر الاستقامة على الطريقة بقاءهم على جورهم وكفرهم فالاستقامة بمعنى الثبات، والطريقة طريقتهم في الكفر والضلال. فالآية بمعنى قوله تعالى (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) الزخرف: 33.

وانما اضطر الى ذلك مع انه خلاف ظاهر الاستقامة وخلاف ظاهر التعبير بالطريقة لأنه استبعد اشتراط نزول النعمة الوافرة بالاستقامة على الايمان حيث ان المشهود ان النعمة المادية على الكفار متوفرة اكثر من المسلمين وانهم كلما زادوا ايمانا قلت مواردهم وهو في ما يحصل بالاختيار أمر طبيعي لأن المؤمن الملتزم بدينه لا يسعه ان يدخل في كل معاملة ويستحصل كل ربح بخلاف الكافر والفاسق.

ولكن الصحيح أن المراد بالآية وفور النعم المادية اذا تحول المجتمع الى مجتمع صالح مستقيم على الطريقة والشريعة وهو لطف من اللّه تعالى مع انه ايضا يتبع العلل الطبيعية لان ضعف موارد المؤمن الملتزم انما يكون في مجتمع غير ملتزم حيث يغلبه في المنافسة من لا يلتزم باحكام دينه اما اذا كان المجتمع تحكمه قوانين الشريعة فكلما كان الانسان اقرب الى الدين كثرت موارد رزقه ولا يكون امامه منافس يتمكن من استخدام الظروف الاباحية لترويج منتوجاته او بضائعه التجارية ونحو ذلك.

والحاصل أنّ المراد بالآية كثرة وجود النعم او نزول المطر المغدق في ما اذا استقام المجتمع على الطريقة والشريعة الالهية.

وقوله تعالى (لنفتنهم فيه) تعقيب سريع ينبّه الانسان بأنّ النعمة الواقعية تكون في الآخرة وأما المطر فهي نعمة يحبّها الانسان ولكنها مع أنها نعمة الا أنها حيث كانت في الدنيا فهي مثار فتنة وامتحان كما قال تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً..) الانبياء: 35.

وانما قلنا (تعقيب سريع) لانه لم يات به في جملة مستقلة بل ضمن اكمال الجملة الاولى التي هي المقصودة بالذات وبصورة تعليل لتحقق الجزاء فكأنّه مكمّل للمقصود بالجملة الاولى مع أنه ليس كذلك بل هو معنى مستقل ورد تعقيبا لمضمون الجملة الاولى فكأنه تعالى قال (وانما نسقيهم ماءا غدقا لنفتنهم فيه).

والامتحان بالخير أصعب بكثير من الامتحان بالشر ولكن الانسان لجهله بالنتيجة يرجّح الاول دائما ويدعو ربه باصرار ان يغدق عليه النعم وهو غافل عن تبعاتها. والفتنة ليست لمعرفة جواهر البشر فحسب وان كانت الجواهر تبدو بها كما قال امير المؤمنين عليه السلام على ما في نهج البلاغة (فِي تَقَلُّبِ الْأَحْوَالِ عِلْمُ جَوَاهِرِ الرِّجَالِ) الا أنّ شخصية الانسان تتبلور وتتكيف في الفتن والحوادث سواء ما كان منها خيرا وما كان شرا. فالذي يصنع شخصية الانسان طيلة حياته هو تفاعله مع ما يعرض عليه من نعمة وبلاء.

وكثيرا ما نجد انسانا صالحا ورعا تقيا وليس ذلك منه تظاهرا وخداعا ولكنه يبتلى ببعض شؤون الدنيا فيفقد ورعه ويرتكب أعظم الكبائر وهو لا يتحول في عشية او ضحاها بل ربما يحاول البقاء على ورعه والتزامه ويقاوم النفس الامارة ولكنه يتحول تدريجا ويختلق الاعذار في بداية الامر ثم يجد نفسه بعد التكرر قد تخلى عن كل ما كان يمنعه من ارتكاب الكبائر وأصبح كل جريمة له امرا في غاية البساطة حتى انه يقتل الابرياء او يامر بقتلهم للحفاظ على ما ناله من الدنيا ولا يشعر بالذنب.

وهذا الخطر العظيم لا يحصل بالفقر والمرض والسجن وفقدان الاعزة ونحو ذلك من البلايا وانما يحصل بكثرة المال وبالجلوس على اريكة الحكم والرئاسة في اي مرحلة من مراحله والطباع مختلفة في ذلك فهناك من الناس من لا يتحمل ان يترأس مجموعة من العمال حتى في مكتبه الخاص فيخرج عن طوره ويرتكب ما لا يجوز له ويشمخ بانفه ويتكبر عليهم وعلى الناس ،وهناك من ينسى نفسه ودينه في مرحلة عالية من الرئاسة فاذا اعطي من الصلاحيات ما لا يتحملها الا المعصوم او رأى له أتباعا يُقبّلون موضع قدمه ويتبركون بكل ما يرتبط به يتصور انه مخول من قبل اللّه تعالى وانه يجوز له ارتكاب اي جريمة للحفاظ على منصبه.

كما نجد من الناس من لا يؤثر فيه شيء من ذلك بل كلما زاد في الناس عظمة ومجدا ازداد في نفسه خضوعا لله تعالى وخوفا وورعا وفي حياته الشخصية زهدا وقناعة وتقشفا وفي تعامله مع الناس احتراما لهم وتواضعا واستماعا لاقوالهم.  

وهكذا المال والجمال والسمعة الحسنة والقوة البدنية والسلامة ونحوها من النعم الالهية فان الانسان مفتون بهذه النعم وعليه ان يتواضع في نفسه ويشكر ربه ويعمل بكل ما هو مطلوب منه تجاه هذه النعم.

وهكذا في جانب الشر فمن الناس من يكفر بربه اذا ابتلي بمصيبة عظيمة كفقدان عزيز او فقر او ظلم واعتداء من الآخرين ومنهم من تدعوه الحاجة والفقر الى الظلم والعدوان او يدعوه الغضب والحرج الشديد الى اتّخاذ مواقف شاذّة كما أن منهم من يتحمل أشدّ المصائب والمشاكل بحلم منقطع النظير. الى غير ذلك من ردود الفعل المختلفة التي نشاهدها من الناس في مقابلة حوادث الدهر وبلاياه.

وكل هذا من مقومات شخصية الانسان فهو صنيعة الحوادث. وتأثير الخير والشر في تكوين شخصيته اكثر بكثير من تاثير العوامل الاخرى كالجينات الوراثية والتربية والبيئة وكثيرا ما يتحول الانسان الى عنصر مخالف لما كونته هذه العوامل بتأثير حوادث الحياة.       

ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا... قابل الاستقامة على الطريقة بالاعراض عن ذكره تعالى مما ينبئ عن ان الطريقة في الآية السابقة هي ذكر اللّه تعالى والمراد به عدم النسيان لا الذكر اللفظي وهو يتم بتقوى اللّه دائما وفي كل حال. والاعراض عن الذكر ان ينسى ربه في كل موقف فلا يرجع اليه ابدا حتى في مضائق الحياة وأما الذي ينسى تارة ويذكر اخرى فليس من الفريقين وهم أكثر الناس.

وكان السياق يقتضي بظاهره ان يقال عن ذكرنا لقوله قبل ذلك (لاسقيناهم) ولكنه عدل الى الاسم الظاهر وركّز على ذكر الرب ليكون بيانا لوجه استحقاقه للعذاب حيث نسي من ينعم عليه باستمرار ويربيه ليوصله الى غاية الكمال.

و(يسلكه) بمعنى يُدخله فالعذاب مفعول ثان او منصوب بنزع الخافض والاصل يسلكه في عذاب صعد. والصعد مصدر من صعِد يصعَد بمعنى السير في ارتفاع وفي التفاسير أنه كناية عن المشقة فالمعنى يدخله عذابا شاقا استعير من الصعود الى مرتفع حيث يتم بمشقة.

ولكن لا يبعد أن يكون الصعد بمعناه الحقيقي فهو مصدر بمعنى اسم الفاعل اي عذابا صاعدا والمراد أنه عذاب متصاعد يتدرج الى ما هو اشد ويمكن ان يكون التعبير بالصعد للاشارة الى أن عذابه في الآخرة أشدّ من عذاب الدنيا. والتعبير بالسلوك ايضا يناسب هذا المعنى لان السلوك ــ على ما يبدو ــ ليس بمعنى مطلق الادخال بل الادخال في طريق يسير فيه ولذلك فسره في المفردات بأنه النفاذ في الطريق.

فيكون مفاد الآية كقوله تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) طه: 124، حيث تدل على أن من أعرض عن ذكره تعالى يعذب في الدنيا والآخرة وعذابه في الدنيا ضيق المعيشة ويرقى في الآخرة الى العمى.

ولا يراد بضيق المعيشة الضيق من حيث المال بل المراد أنّه حيث لا يستند الى ركن وثيق ولا يجد للحياة في هذه الدنيا هدفا وهي لا تخلو من مصاعب ومصائب فانه يشعر بالضيق يكتنفه من كل جانب ولا يمكنه ان يلجأ الى شيء الا الى ما يلهيه وينسيه كل شؤون الحياة من مسكر او مخدر ونحوهما وكلما عاد الى رشده عاد به الضيق. وهذا امر طبيعي ولا يغرنك ما تجده من رغد العيش لدى الكفار فاكثر الناس حتى من بين هؤلاء لا ينسون ربهم نسيانا تاما بل يعودون اليه تعالى في المضايق على الاقل ومن لا يرجع اليه تعالى فانه يعيش عيشة ضيقة اذا ضاقت به السبل في الحياة وهو امر لا مناص منه وانما يحاول اكثرهم التهرب من الواقع المر الذي يعيشه بالاشتغال بالملاهي ويعود الى مرارته اذا خلا بنفسه ومن هنا يكثر في هؤلاء الانتحار.

والضيق ياتي الناسي ربه حتى من جهة المال نفسه فان المال بنفسه ليس وسيلة للسعادة التامة قال تعالى (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) التوبة: 55 والانسان اذا كثر ماله فانه لا يبحث عن شيء الا زيادة المال كما نجده في كثير من الاثرياء وهو لا يلاحظ من دونه بل يلاحظ من فوقه فان زادت ملايين احد من البشر على ملايينه فانه لا يهدأ له بال وتجده كالفقير الشحاذ الذي يبحث عن لقمة عيشه يسعى يمينا وشمالا ولا يتورع عن اي سبيل لزيادة ماله.

والواقع أن الانسان لا يرضيه شيء في هذه الحياة وهو يتعب نفسه سعيا وراء السعادة ولا يجدها في اي شيء يصل اليه.. يبحث عنها في كسب المال فيجمع ويجمع ويجمع ولا يستريح ولا يجد منيته ويسعى وراء القدرة والسلطة ويبلغ اعلى مستوياتها ولا يجد فيها بغيته قال تعالى (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) الانشقاق: 6. والكدح: التعب. فالذي يبحث عنه الانسان في الواقع هو ربه ولذلك لا يجد بغيته في كل ما في هذا الكون مهما سعى ومهما بلغت قدرته وانما يستريح حينما يلاقي ربه ولكنه يحشر اعمى فلا يرى ربه وهذا هو العذاب الاكبر الذي يلقاه الناسي ربه يوم القيامة، فلا يبعد ان يكون المراد بالعذاب الصعد ان عذابه يتحول يوم القيامة الى عذاب اشد حيث يجد نفسه اعمى (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) طه: 125- 126.

والعمى لا يقصد به عمى العين فان الانسان لا يرى الاشياء هناك بعينه بل يدرك الحقائق بكل وجوده وغاية ما ينعم به هناك لقاء ربه فلعل المراد بالعمى انه لا يحظى بلقاء ربه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين وفي الحديث انه لا يرى الحق.

وهذه الحقائق القرآنية في غاية الاهمية ونحن نغفل عنها عادة ويشغلنا عنها امور الدنيا بل حتى ما نرى انها امور الآخرة فيجب على الانسان ان يتدبر القرآن ويقف عند هذه المواقف ليرى ما هي حقيقة الحياة وما هي حقيقة السعادة.

وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع اللّه أحدا... عطف على ما سبق والظاهر أنه من كلامه تعالى فهو مما اوحي الى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم ويؤيد ذلك ما ورد في الروايات من الاستشهاد بهذه الجملة على بعض الاحكام الفقهية.

والمساجد معروفة وكونها لله تعالى بمعنى اختصاصها بعبادته تعالى وأنّه لا يجوز استعمالها في ما ينافي عبادته من الشرك كما كان يفعل المشركون في أعظم المساجد وهو المسجد الحرام حيث نصبوا على الكعبة أصنامهم فمعنى الآية واضح والغرض منها ايضا واضح وهو التنديد بتعامل المشركين مع المسجد الحرام وقد مر أن هذه الآيات هي التي تتعرض للغرض الاساس من السورة المباركة.

وذكر المفسرون احتمالات في معنى المساجد لا موجب لها بعد وضوح معنى المساجد وعدم المانع من ارادته فقيل باختصاصه بالمسجد الحرام مع ان ارادته خاصة تنافي صيغة الجمع وقيل المراد المسجد الحرام وبيت المقدس. وقيل ان المراد بها كل الارض لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم جعلت لي الارض مسجدا وطهورا.

وورد في بعض رواياتنا تفسيرها بمواضع السجود من اعضاء الانسان اي الجبهة والكفين والركبتين والابهامين:

منها صحيحة حماد بن عيسى عن ابي عبداللّه عليه السلام وهي طويلة ينقل فيها عمل الامام عليه السلام في تعليم الصلاة (وفيها): (وسجد على ثمانية أعظم الكفين والركبتين وأنامل إبهامي الرجلين والجبهة والانف وقال: سبعة منها فرض يسجد عليها وهي التي ذكرها اللّه في كتابه فقال: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع اللّه أحدا) وهي الجبهة والكفان والركبتان والابهامان ووضع الانف على الارض سنة... الحديث[1]

وفي حديث طويل عن ابي عبد اللّه عليه السلام حول وظائف الجوارح قال عليه السلام: (وفرض على الوجه السجود له بالليل والنهار في مواقيت الصلاة فقال: "يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون" فهذه فريضة جامعة على الوجه واليدين والرجلين وقال في موضع آخر: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع اللّه أحدا..)[2]

وفي وصية امير المؤمنين عليه السلام لابنه محمد (وقال عز وجل : " وأن المساجد لله فلا تدعوا مع اللّه أحدا " يعني بالمساجد الوجه واليدين والركبتين والابهامين).[3]

ولا مانع من ارادة المعنيين فيكون المراد بالمساجد اماكن الصلاة ومواضع السجدة من اعضاء الانسان الا أنه بناءا على المعنى الاول فمعنى قوله تعالى (فلا تدعوا مع اللّه أحدا) اي لا تعبدوا غيره تعالى في المساجد تعريضا بالمشركين وأما بناءا على كون المراد بها مواضع السجدة فلعل المراد النهي عن السجود لغير اللّه تعالى فتكون هذه الروايات من ادلة تحريمه وان كان موضع بحث في الفقه.

ولكن هناك رواية تقتضي أن تحمل هذه الجملة على معنى آخر فقد ورد في حديث طويل مرسل عن ابن ابي داود نختصرها قال (ان سارقا أقر على نفسه بالسرقة في عهد المعتصم فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع؟ قال: فقلت من الكرسوع لقول اللّه في التيمم: "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم" وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق لقوله تعالى "وأيديكم إلى المرافق" فالتفت إلى محمد بن علي الجواد عليه السلام فقال ما تقول في هذا يا أباجعفر؟ فقال: إنهم أخطأوا فيه السنة فان القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف. قال: وما الحجة في ذلك؟ قال: قول رسول اللّه عليه وآله السلام السجود على سبعة أعضاء الوجه واليدين والركبتين والرجلين فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها وقال اللّه تبارك وتعالى: "وان المساجد لله" يعنى به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها "فلا تدعوا مع اللّه أحدا" وما كان لله لم يقطع..).[4]

فبناءا على هذه الرواية يشمل معنى الجملة عدم القطع في الحدود وهو بعيد مع أنّ ابهام الرجل يقطع في السرقة الثانية وهو ايضا من مواضع السجود والرواية ضعيفة مرسلة.

وانه لما قام عبد اللّه يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا... معطوف على (انه استمع) فهو ايضا مما اوحي الى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم واُمر بتبليغه وهو المراد بعبد اللّه ايضا والتعبير عنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم بهذه الصفة مع أنه كان مقتضى السياق ان يقال (واني لما قمت) او يقال (وانك لما قمت) يدل على عناية خاصة بهذه الصفة في تكريم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كما ورد في قوله تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا..) الاسراء: 1، كما أن في التركيز عليه عناية خاصة في مواجهة المشركين عبدة الاصنام.

وضمير (يدعوه) يعود الى اسم الجلالة. والظاهر أن المراد بالدعاء الصلاة كما يقتضيه التعبير بالقيام. واللبد جمع لبدة بكسر اللام وضمها بمعنى الشيء المتراكم ومنه لبدة الاسد. والمراد تشبيه القوم بشيء واحد متراكم حيث تجمعوا على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم يركب بعضهم بعضا. واختلف في المراد بهؤلاء فقيل انهم هم الجن تجمعوا على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم يستمعون القرآن وقيل المراد اصحابه.

والصحيح أن المراد بهم المشركون لانه لم يفرض التجمع حين قراءة القرآن بل حين الصلاة كما مرّ فلا يمكن ان يراد بهم الجن ولا المؤمنون اذ لا موجب لتجمعهم عليه. وربما يستبعد ارادة المشركين لانهم كانوا ينفرون منه ويمنعون الاخرين ايضا من التجمع حوله. ولكن الظاهر ان المراد به اول ما قام الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم الى الصلاة فاستغربوا هذا العمل وتجمعوا عليه ينظرون اليه.

وتدل عليه الآيات التالية خصوصا قوله تعالى (قل انما ادعو ربي..) فانه صلى اللّه عليه وآله وسلّم يردّ بذلك على استغرابهم. مضافا الى أنّ الحديث عن قصة الجن قد انتهى وتحول الكلام الى التعرض للغرض الاساس كما مر وهو توجيه التنديد الى المشركين. وقوله تعالى (كادوا يكونون عليه لبدا) يدل على غاية استغرابهم وتطلعهم للنظر اليه صلى اللّه عليه وآله وسلّم بحيث يكاد بعضهم يركب بعضا حيث رأوا منه أمرا غريبا يعبد ويصلي ويسجد وليس أمامه صنم. فلمن هذا الخضوع؟

قل انما ادعو ربّي ولا اشرك به أحدا... اي لا وجه لاستغرابكم من عملي فاني انما ادعو ربي وهو اللّه تعالى ولا اعمل شيئا يضركم او يستفزّكم ولا ادعو غيره. فالحصر ــ بناءا على إفادة (انما) للحصر ــ من جهتين من جهة انه لا يعمل شيئا غير العبادة، ومن جهة انه لا يعبد غير اللّه تعالى ولا يشرك احدا في عبادته فالعمل خالص لوجهه تعالى.

وفي التعبير بالرب اشارة الى دليل عبادته تعالى فانه هو الرب الذي يربي الانسان جسما وروحا حتى يوصله الى الكمال المنشود.

 


[1] الكافي ج3 ص312

[2] الكافي ج2 ص37

[3] من لا يحضره الفقيه ج2 ص 626

[4] تفسير العياشي ج1 ص320