قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا... اُمر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ان يبرّئ ذمته من كل ما يصيبهم او من هدايتهم فالامر كله الى اللّه تعالى وهو لا دور له في ما يحدث او يتوقع ان يحدث الا دور المبلغ والرسول.
ويظهر من ذلك أنّهم كانوا يخافون أن تكون هذه الدعوة وهذه الدعوى مقدمة لتغير جذري في البلد او في المنطقة ويترتّب عليه اما هداية الى الخير ان صحت الدعوى وآمنوا به او عذاب من اللّه تعالى يستأصل العرب ان حاربوه فامر اللّه تعالى نبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم أن يخبرهم أن العذاب بيد اللّه تعالى ينزله على من يستحقه من الامم وليس للرسل دور في ذلك والهداية ايضا بيده تعالى فهو الذي يقلّب القلوب ويقذف النور في قلب من يشاء.
ومن هنا يتبين الوجه في مقابلة الضرّ اي الضرر بالرشد وهو الهداية ولكن المفسرين اختلفوا قديما وحديثا فمنهم من قال إنّ المراد بالضر الغيّ تسمية للسبب باسم المسبب لان الغي والضلال سبب نزول العذاب فمقابلة الضر والرشد على الاصل. وأيدوا هذا الاحتمال بقراءة اُبيّ (غيا ولا رشدا).
ومنهم من قال المراد بالرشد الخير تسمية للمسبب باسم السبب فالهداية سبب الخير ومنهم من قال ان الاصل في الجملة ضرا ولا خيرا، ولا غيا ولا رشدا، فحذف من كل من المجموعتين احد الشقين لدلالة الآخر عليه.
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللّه أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا... الإجارة: إعطاء العهد والأمان فقد كانت العرب تجير من يستجير بها فربما أتى احدهم من يكون مطلوبا بشيء فيقول المجير فلان في جواري ومعناه أنه يحميه عمن يطالبه.
والرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم اُمر في هذه الآية ان يعلن أنه لا يستطيع التسامح في تبليغ الرسالة لأنه مطلوب من اللّه تعالى واللّه لا يجار عليه قال تعالى (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) اي لا يمكن لأحد أن يمنع أحدا من عذابه تعالى اذا اراده. ولذلك كرّر الامر بالقول لاختلاف مضمون الجملتين فهو في الاولى يبرّئ نفسه مما يصيبهم وفي الثانية يواجههم بصلابة ويعلن عدم المداهنة.
والملتحد: الملجأ، مأخوذ من اللحد وهو الميل ومنه الإلحاد اي الميل عن الحق وذلك لأن الهارب من امر مخوف او مضر يميل عن الطريق الى ملجأ يأوي اليه فالمعنى أنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم اذا لم يفعل ما أمره اللّه تعالى لم يجد ملجأً يأوي اليه من سطوته فالامر كله بيده والكون كله تحت سلطانه.
وقوله (من دونه) اي بدلا عنه فهو الملجأ من كل شيء ولا ملجأ سواه. والفرق بين الجملتين أنّ الاولى تنفي وجود أحد يستجير به والثانية تنفي وجود مكان يلجأ اليه. والنتيجة وان كانت واحدة الا أن المضمون يتأكد بالتعبيرين.
وبهذا البيان الخطير يعلن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وبأمر من اللّه تعالى أنّ الامر ليس بيده ولا تمكنه المداهنة في ما أمر اللّه تعالى فقطع بذلك طمعهم في أن يتمكنوا من الوصول الى مساومة وحلّ وسط.
إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللّه وَرِسَالَاتِهِ... الظاهر أنه استثناء من الملتحد اي ليس لي ملجأ من اللّه تعالى الا أن اُبلّغ عنه ما حمّلنيه من الرسالة اليكم والى البشرية جمعاء بمعنى أنه لا مناص من التبليغ فهو مأمور من قبله تعالى ومسؤول أمامه.
وقيل انه استثناء من قوله (لا املك لكم ضرا ولا رشدا) اي انه لا يمكنه هدايتهم وارشادهم بمعنى حملهم على قبول الحق وانما ذلك الى اللّه تعالى فالذي يملكه في الارشاد هو البلاغ فحسب. وعليه فيكون الاستثناء منقطعا لانه ليس من قبيل الرشد المستثنى منه فانه اي المستثنى منه بمعنى الإلجاء على الاهتداء لا إراءة الطريق ويمكن ان يكون متصلا اذا اريد بالرشد ما يعمّ الامرين.
والذي يبعّد هذا القول استلزامه للفصل بين المستثنى والمستثنى منه بما لا موجب له.
والظاهر أن المراد بالبلاغ الانذار الكافي الصادر من اللّه تعالى فهو من البلوغ بمعنى الكفاية. ومنه قوله تعالى (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ)
و(من اللّه) متعلق بمحذوف اي بلاغا صادرا من اللّه تعالى. وقيل (من) بمعنى (عن). وهو بعيد اذ لا موجب للعدول. والمعنى بناءا على ذلك (ليس لي ملجأ من اللّه تعالى الاهذا الانذار البليغ المتمثل في القرآن بأن اُوصله اليكم).
ويمكن أن يكون البلاغ اسم مصدر بمعنى الابلاغ والتبليغ فالمعنى (..الا إبلاغا صادرا من اللّه تعالى) ويكون دور الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم أنه يوصل هذا الابلاغ. والظاهر أنّ قوله تعالى (ورسالاته) عطف على البلاغ. والفرق بينهما أنّ المراد بالبلاغ الانذار بما هم في غفلة منه وبالرسالات تفاصيل الاحكام والشريعة.
وقد ذكر المفسرون وجوها كثيرة في تفسير هذه الآية وإعرابها والظاهر أن ما اخترناه هو الاوضح والمعنى واضح على كل حال.
وَمَنْ يَعْصِ اللّه وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا... الظاهر أنها جملة معطوفة على قوله تعالى (قل إنّي لن يجيرني..) وليست من ضمن القول المأمور به. والضمير في (له) يعود الى الموصول واُفرد باعتبار اللفظ وقوله (خالدين) حال منه ايضا ولكنه أتى به جمعا باعتبار المصداق.
والغرض منه إكمال الإبلاغ والإنذار بأنّ من يكذّب بالرسالة ولا يؤمن باللّه ورسوله فقد أعدّ اللّه له العذاب الشديد وهو نار جهنّم وهو خالد فيها أبدا. والواقع أنّ من لا يستجيب للدّعوة فإنه يعصي اللّه تعالى وإنما اعتبر عصيانا للرسول ايضا من جهة أنّه المباشر للدّعوة وفيه تكريم من اللّه لرسوله كأنّه اعتبر شريكا في الدعوة.
وربما توهم بعضهم أنّ الآية مما تدل على خلود العصاة جميعا في النار ولكنّ الظاهر من السياق أنّ المراد بهم من عصوا الدعوة من الأساس وهم الكافرون بالرسالة.
حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا... (حتى) لبيان الغاية ولكن لم يسبق ما يكون مغيى بها فلا بدّ من تقدير جملة وهي ما يدل عليه قوله (فسيعلمون من أضعف ناصرا..) حيث إنّ المشركين كانوا يستقلّون عدد المؤمنين ويعتبرون الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم فاقدا لمن ينصره لأنّ الذين حوله على قلّة عددهم فقراء ضعفاء.
وهذه المقارنة ورثوها من الاُمم السالفة كما قال تعالى حكاية عن قوم نوح عليه السلام (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ..) بل هذا هو سيرة الناس الى يومنا هذا فانهم يهتمّون بنوعيّة الأتباع وعددهم فاذا رأوا قائدا اجتمع عليه عدد كبير من الناس واتّبعوه او كان من أتباعه من يُعتبرون في البلد شخصيات مرموقة فإنّ الرجل يكبر في أعينهم واذا رأوا أتباعه من سفلة الناس او كان عددهم قليلا فانه يُحتقر ولا يهتمّ به أحد حتى في المؤسسات الرسمية والعالمية.
وهذا الامر يسري حتى في تقييم مراجع الدين والعلماء فيقال إنّ فلانا يُعتبر مرجعا في المذهب لأنّ له أتباعا او يُعتبر أعلى مرجع ديني لأنّ أتباعه أكثر ولا يُلاحظ في ذلك حظّه من العلم او سبقه في خدمة الدين والمذهب او كثرة تلاميذه وتآليفه.
والآية الكريمة تهدّد المشركين بأنّهم سوف يرون ما يوعدون من العذاب وآنذاك يعلمون أنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم يتمتّع بأقوى ناصر وهو اللّه تعالى وهو يُغنيه عن كل ناصر وسيرون أنّ كثرة عددهم لن تنفعهم شيئا.
والمؤمنون كانوا ضعفاء في مكة كما قالوا وعددهم قليل جدّا بالنسبة لهم بل حتى بعد أن هاجر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم واجتمع عليه المؤمنون كانوا بالقياس الى مشركي قريش أقلّ عددا وعُدّة ولذلك لم يكونوا متكافئين في غزوة بدر حسب الظاهر ولكنّ اللّه تعالى نصرهم وجعل لهم الغلبة.
والمراد بما يوعدون عذاب الدنيا او عذاب الآخرة او كلاهما فإنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان يتوعّدهم بما نزل من الآيات وفيها تهديد بعذاب الدنيا ايضا فقد قال تعالى (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) والعذاب الدنيوي ليس دائما بالصاعقة فقد يؤخذون من حيث لا يحتسبون واللّه تعالى سلّط عليهم هذا القوم الذين استضعفوهم فقتلوا كبراءهم في غزوة بدر ورموهم في القليب وآنذاك تبيّن لمن بقي منهم او لمن يلاحظ الوضع عن كَثَب مَن أضعف ناصرا وأقل عددا فالناصر هو اللّه تعالى والعدد وان قلّ الا أنهم متماسكون أقوياء يملأ قلوبهم الايمان وحب الشهادة في سبيل اللّه.
وكان النصر الالهي في بدر كمعجزة بل هو فعلا معجزة لأنّه تعالى أرسل الملائكة لنصرة المسلمين وان كانوا لم يقاتلوا بالطبع وانما كانوا يثبّطون عزائم المشركين ويثـبّـتون المؤمنين كما قال تعالى (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) أما حين يرون العذاب يوم القيامة فالامر واضح.
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا... (إن) نافية اي لا أعلم موعد نزول العذاب او موعد يوم القيامة. وهذان هما مورد سؤالهم المتكرر (متى هذا الوعد ان كنتم صادقين) واللّه تعالى أمر رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم أن يُظهر لهم عدم معرفته بالموعد في الامرين ومن الحكمة ان يكون الامر مبهما. و(الامد) المدة والغاية الزمنية وجعل الأمد بمعنى تأخير الامر الى موعد آخر.<