عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا... اي هو عالم الغيب. والغرض ذكر الدليل على نفي علمه صلى اللّه عليه وآله وسلّم بقرب الموعد وبعده المذكور في الآية السابقة فهو لا يعلمه لأنه من الغيب والغيب لا يعلمه الا اللّه تعالى. ومن هنا يتبين أن التعبير لا بدّ من أن يفيد الحصر، وهو كذلك من جهة تقدير الضمير اي هو عالم الغيب اي ليس غيره وخصوصا بملاحظة نفي العلم في الآية السابقة.
والفاء في قوله تعالى (فلا يظهر) لترتّب عدم الإظهار على اختصاص الغيب به تعالى وذلك لأنّ العلم بأيّ شيء لا يتمّ الا بإذنه كأيّ حادث آخر وحيث إنّه تعالى استأثر بعلم الغيب وأراد اختصاصه بنفسه فلا يظهر على غيبه أحدا.
وهنا موضع سؤال وهو أنه ما معنى اختصاص الغيب باللّه تعالى؟ وكيف يجمع بينه وبين إخبار الرسل بالمغيبات بل غير الرسل ايضا كالاولياء والجن كما مرّ الحديث عنه وحتى التفرّس الذي يحظى به كثير من الناس بل ربما يتصور التنافي بينه وبين بعض ما توصّل اليه العلم كمعرفة نوع الجنين مع انه تعالى قال (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ)؟
وللإجابة على ذلك يجب ان نعلم أنّ الغيب بمعنى المستور وهو أمر نسبي فما هو مستور لأحد قد يكون مكشوفا لغيره فعلم الاول به علم بالغيب دون الثاني واذا تبين الشيء لاحد بطريق علميّ خرج عن كونه غيبا بالنسبة له فمن يعلم نوع الجنين بالسونار لا يعلم الغيب بل أصبح نوع الجنين له شهودا.
واللّه تعالى محيط بكل شيء وكل شيء حاضر عنده فليس له غيب فالتعبير بأنّه يعلم الغيب يراد به أنه تعالى لا يغيب عنه شيء ومن الطريف توصيفه تعالى بقوله (عالم الغيب والشهادة) كما ورد في موارد عديدة من القرآن الكريم. والعلم بالشهادة لا يختص به تعالى فيعلم من ذلك أنّ المراد بهذا التعبير أنه تعالى ليس له غيب وشهادة فكل ما في الكون مشهود له بل حاضر عنده بتمام كيانه ووجوده بل هو تحت إحاطته ومتعلق به.
وهذا الامر خاص به تعالى لا يمكن أن يشاركه فيه احد بل ليس ذلك لاحد حتى جزئيا فعلم غيره تعالى بالأشياء ليس من قبيل الإحاطة والحضور بل إنّما يتمّ العلم بوساطة تصوّرات وأحاسيس وليس علما مباشرا. نعم علم الانسان بنفسه علم مباشر وهو المعبّر عنه بالعلم الحضوري وهو في نفس الوقت علم بنفس الذات من دون إحاطة بالتفاصيل.
والاظهار على الغيب بمعنى اطّلاعه وتسليطه عليه وحيث أضاف الغيب الى نفسه يتبين أن المراد إظهاره على الغيب الخاصّ به الذي لا يمكن ان يعلم به أحد فهو غيب لكل ما سوى اللّه تعالى وليس لاحد طريق الى معرفته الا بإعلام خاص منه تعالى والمراد أن اللّه لم يأذن لاحد ان يعلمه الا للخواصّ من عباده وإلّا فعلم كل احد أيّ شيء لا يتم الا باذنه كغيره من حوادث الكون.
إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا... (من) في قوله (من رسول) بيانية وليست للتبعيض فان الرسل بأجمعهم مستثنون من هذا المنع العام ولعلّ التعبير بالارتضاء للتأكيد على اختصاص الاظهار على هذا الغيب بمن يرتضيه اللّه تعالى ويجتبيه لذلك مما يدل على غاية الخصوصية في هذا الغيب وهو الرسالة.
والدليل على ذلك من لفظ الآية تذييل الاستثناء بأنّه تعالى يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا مع تصديره بالفاء مما يدلّ على أنّه المراد بالاستثناء لا ما سبقه من الاظهار على الغيب فمعنى الاستثناء ولكن من ارتضاه من رسول يسلك من بين يديه.. لا أنّ من ارتضاه من رسول يخبره عن الغيب مع أنّ ذلك أمر واضح إذ الرسالة بذاتها من الغيب ولكنّ الغرض من هذا الاستثناء هو التنبيه على أنّ ما يُبلّغونه من الغيب تحت رقابة مشدّدة.
فالمذكور بالصراحة ليس هو الاظهار على الغيب وانما هو الرصد والمراقبة ولكن يعلم من ذلك أنه تعالى يُطلعهم على بعض الغيب فهو نظير قوله تعالى (وَمَا كَانَ اللّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّه يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ..) فإنّ الاستدراك لا يصرّح بانه تعالى يُطلعهم على الغيب بل يجتبي من يشاء لرسالته ويتبين منه أنه يُطلعهم على غيبه.
والرَّصَد مصدر بمعنى الراصد ولذلك يستوي فيه المفرد والجمع والمراد أنه تعالى يجعل أمامه وخلفه مراقبين من الملائكة والمراد بالامام والخلف الإحاطة به من كل جانب بحيث لا يبقى موضع لورود غير الوحي.
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ... تعليل لهذه المراقبة الشديدة وبيان لشدّة الامر لقطع أمل المشركين في المهادنة فالرسول مراقَب بشدّة حتى يبلّغ ما حُمّل من الرسالات الى الناس من دون نقص او زيادة او تحريف او تغيير. واللّه تعالى عالم بكل شيء قبل وجوده فالغرض من المراقبة ليس هو تحصيل العلم وانما الغرض بيان شدّة الموقف وعدم امكان اي مزايدة فيه.
وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا... اي إنّ الرصد والمراقبة لا يزيد شيئا على علمه تعالى فهو محيط بما لديهم كأيّ شيء آخر فالرصد بمعنى وجود قوى تمنع تدخّل الشياطين في الوحي لتبقى آياته تعالى سليمة من ايّ نقص او زيادة. ولذلك ذكر الاحاطة والاحصاء بصيغة الماضي للدلالة على كونهما أزليين.
والإحصاء بمعنى العدّ الدقيق حيث كان العرب يعدّون الاشياء بالحصى فعبّر عن العدّ بالاحصاء و(عددا) تمييز والمراد إحاطته تعالى بحقيقة كل الأشياء وكل أجزائها وجزيئاتها وذرّاتها وقواها وهذا الامر لا يمكن لأحد الا اللّه جلّ شأنه وتقّدست أسماؤه.
والحمد لله ربّ العالمين وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله الطاهرين الهداة المهديين.