مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا... تتعرض الآية لبني اسرائيل وما أنعم الله تعالى عليهم حيث أنزل عليهم التوراة وحمّلهم كتابه وشريعته وأحكامه وجعل منهم الرسل الذين بلّغوا سائر البشر أمانته ونشروا دعوته ولكن بني اسرائيل طغوا وأخذتهم الحمية القومية واستأثروا بما لديهم من العلم وادّعوا أنهم هم شعب الله المختار ولم يعملوا بما أمرهم الله تعالى في شريعته فسلب الله منهم هذه النعمة.

وشبّههم هنا بالحمار الذي يحمل كتبا وهو لا يعلم بما فيها وهؤلاء يعلمون ولكنهم حيث لا يعملون بما فيها فكأنهم لا يعلمون. وهذا المثل لا يختص بهم فكل من يحمل علما من الله تعالى ولا يعمل به فمثله كمثل الحمار حامل الكتب حيث لا يتأثر بها وبما فيها. والاسفار جمع سفر بالكسر اي الكتاب سمي به لانه يسفر عن الحقائق. والإسفار: الكشف. وهذا التمثيل غاية في التوبيخ والذم وهو في نفس الوقت واضح الانطباق بل شأن حامل العلم الذي لا يعمل به دون شأن الحمار لانه لا يعلم واقعا.

ومعنى أنهم حمّلوا التوراة اي حمّلهم الله تعالى كتابه حيث أرسله اليهم وجعلهم حاملي رسالته الى سائر الامم والاجيال الآتية. وأتى بالفعل مبنيّا للمجهول تفاديا عن ذكر الاسم الجليل الذي يوجب لهم ميزة وارتباطا به تعالى. ومعنى عدم حملهم لها تركهم للعمل بما فيها وفسقهم وأهم من كل ذلك خيانتهم في تبليغ كل ما فيها واخفائهم للبشارات التي تنطبق على الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم حقدا وحسدا. و(ثم) للتراخي اي بعد ان تحملوا الكتاب لتبليغه والعمل به لم يحملوه ولم يعملوا به. 

والتعرّض لحال بني اسرائيل وموقفهم تجاه احكام الله تعالى وشريعته وكتابه يترتب عليه أمران:

الاول: التنبيه على أن بعث الرسول الامي في الاميين مما دلت عليه الكتب السابقة وأن البشارة به صلى الله عليه وآله وسلّم وردت في التوراة ولكن الذين حمّلوها لم يحملوها بل خانوا الامانة.

والثاني: تحذير المؤمنين من الوقوع في نفس الطريق الخاطئ. والغرض اتمام الحجّة عليهم ولعلّ السبب في اختيار تلك المرحلة للتنبيه هو ما تعرّض له في آخر السورة من أن بعضهم ترك الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم قائما يخطب في الناس طلبا للّهو والتجارة فان ذلك من بوادر عدم الاهتمام بشأن الدين وحقائق الشريعة فكان من اللازم قبل التنبيه عليه ذكر المثل من بني اسرائيل واتخاذ هذا الموقف الصريح والشديد في مواجهة استخفافهم بالدين ليكون حافزا قويا للمؤمنين للاحتفاظ بالامانة التي حمّلهم الله تعالى ليبلّغوها سائر الامم والاجيال.

بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ... المخصوص بالذم محذوف اي بئس هذا المثل وهو تشبيههم بالحمار الحامل للاسفار مثلهم او بئست الصفة صفتهم و(مثل القوم) فاعل (بئس). وتوصيف القوم بأنهم كذّبوا بآيات الله بمنزلة التعليل فتكذيبهم بآياته تعالى هو السبب في استحقاقهم لهذا التمثيل والظاهر أن المراد بآيات الله ما وجدوه من صفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في كتبهم فكذّبوا بها ولم يؤمنوا بالرسالة حقدا وحسدا ويمكن ان يكون المراد بها المعجزات التي تدل على الرسالة او آيات القرآن بعد ما تبين لهم انه الحق.

والباء لتأكيد التعدية واللصوق على ما قيل فان التكذيب يتعدى بنفسه ويمكن ان يقال ان التكذيب اذا تعدى الى الشخص تعدى بنفسه فكأنه بمعنى اعتباره كاذبا واذا تعدى بما رواه او حكاه تعدى بالباء فكأنها للسببية اي انه يكذّب القائل بسبب هذا الكلام ويلاحظ ان التكذيب مع كثرة تكراره في القرآن لم يتعد الى القائل بالباء ولم يتعد الى الكلام بدونها.

والجملة الاخيرة بمنزلة التعليل لما سبق فانهم حرموا من هداية الله تعالى وطبع على قلوبهم وذلك بسبب ظلمهم وانكارهم للحق الواضح الذي وجدوه في صفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. ويكفي الانسان ضلالا ان لا يهديه الله ومن يضلل الله فما له من هاد. فهذه الجملة ترفع الاستغراب من وصول الانسان الى هذه المرحلة من السقوط بحيث يكون كالانعام بل اضل سبيلا.

قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ... أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أن يخاطبهم بذلك ولم يخاطبهم مباشرة تأكيدا على نفي ما زعموه من انهم اولياؤه تعالى فهم بعيدون عن عنايته بحيث لا يستحقون الخطاب.

وقد تكرر في القرآن الكريم ذكر الذين هادوا فهو اما بمعنى أنهم اتّخذوا اليهودية دينا اومن الهَود بمعنى الرجوع والتوبة لانهم تابوا من عبادة العجل قال تعالى في حكاية دعاء موسى عليه السلام (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ..).[1] والمراد بهم هنا الذين اتبعوا دين اليهودية المحرفة.

وقد ورد في غير هذه الآية ايضا دعواهم الاختصاص بالله تعالى بنحو من الانحاء كقوله تعالى (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[2] وقوله تعالى (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً..)[3] وبمعناه قوله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ..).[4]

وورد مثل هذه الدعوى من اليهود والنصارى معا كقوله تعالى (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ..)[5] وقوله تعالى (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ..)[6] وغير ذلك مما يدلّ على أنهم كانوا يدّعون ميزة على سائر البشر وهم الى يومنا هذا يزعمون أنهم شعب الله المختار. وقوله تعالى (من دون الناس) اي ان هذه الولاية لا تشمل أحدا من الناس غيرهم.

وهذه الآية تتحدّاهم بأن هذه الدعوى لو صحّت وأنتم تعتقدون بذلك وواثقون من اختصاصكم بهذه الولاية فينبغي ان تتمنوا الموت لانّه موعد الانسان للقائه بربه كما قال تعالى (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ..)[7] وفي دعاء ابي حمزة (اللهم حبب اليّ لقاءك وأحبب لقائي واجعل لي في لقائك الراحة والفرج والكرامة) وفي زيارة أمين الله (اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك... مشتاقة الى فرحة لقائك).

وهذا الامر لا ينافي ما ورد من النهي عن تمني الموت اذ يمكن أن يكون المراد بموارد النهي ما اذا كان تمني الموت تهربا من مصائب الدنيا ومصاعبها ولا ينبغي للمؤمن أن يتمنى الموت لذلك وأما تمنيه شوقا الى لقاء الله تعالى فهو غاية الكمال. والمراد باللقاء تخلّص الروح الانساني من حصار الجسم ومحبس الطبيعة واتصاله بحقيقة الكون اتصالا مباشرا فيدرك حينئذ بكل وجوده كل حقائق الكون وانما عبّر عن هذا الادراك باللقاء لانه ليس علما من قبيل التصور والتصديق بل هو علم حضوري نظير علم الانسان بنفسه.

وقوله (ان كنتم صادقين) شرط جزاؤه محذوف يدل عليه الطلب السابق اي ان كنتم صادقين في دعواكم أنكم اولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت لان الولي يحب لقاء الولي.   

وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ... اي لا يتمنون الموت الى الابد فهم يطمعون في الخلود والسبب في فرارهم من الموت ما عملوه من آثام وجرائم وهي المراد بما قدمت ايديهم فان الاعمال تسبق الانسان وتسجّل عليه قبل الموت فكأنه قدّمها على نفسه. وهذا تعبير كنائي عن كل الاعمال مع ان العمل قد يكون بسائر الاعضاء الا أنه حيث كان غالبا بتوسط اليد صح هذا التعبير.

والحاصل أنهم لا يتمنون الموت تخوفا من العذاب المتوقع على اعمالهم. وهذا يدل اولا على شيوع الاثم فيهم وبعدهم عن التقوى وقد ورد التنويه على ذلك في عدة من الآيات كقوله تعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ)[8] وقوله تعالى (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).[9] ويدل ثانيا على يأسهم من رحمة الله تعالى وهو من أكبر الذنوب ولعلّه أكبرها بعد الشرك.

وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ... اي لا ينفعهم تأخر الموت فان الله تعالى عليم بما فعلوه من الظلم في حياتهم ومعذبهم عليها عاجلا أم آجلا. وفي الآية التالية تصريح بذلك.

قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ... ورود الفاء على خبر (ان) بلحاظ معنى الشرط فكأنه قال ان كنتم تفرون من الموت فلا ينفعكم الفرار لانه ملاقيكم لا محالة وأعاد حرف (إنّ) على الجواب لزيادة التأكيد. والتعبير بالفرار كناية عن شدة حذر الانسان ومحاولته الابقاء على نفسه في هذه الحياة فان الفرار واقعا غير ممكن. و(ثم) للتراخي فان الاحضار للحساب متأخر عن الموت.

ويلاحظ أن القرآن يؤكد على التعبير عن الحضور لدى الله تعالى بالرد والرجوع مع أنه كغيره لم ينفصل ولم يستقل في وجوده لحظة. ولعلّ السبب أن الانسان بسبب هذا الاختيار الذي منحه الله تعالى يشعر خطأً أنه مستقل بل يغفل عن ربّه بالمرة فاذا حضر في تلك النشأة فانه يتذكّر مبدأ وجوده ويشعر بالرجوع الى أصله فلعل المصحح للتعبير هو حالة الانسان وتصوره. ولعله أتى بالفعل المبني للمجهول لأنهم لا يرجعون باختيارهم بل لا يريدون ذلك لما قدّمت أيديهم وانما يُرجعون قسرا وعنوة.

وذكر الوصف (عالم الغيب والشهادة) بدلا عن اسم الجلالة للتنبيه على عدم الجدوى في التخفي عن الله تعالى فانه لا يختلف لديه الغيب والشهادة. وقد مر الكلام حول هذا الوصف في سورة الحشر وقلنا إن كل شيء مشهود لديه تعالى فليس هناك غيب وشهادة وانما توصف الاشياء بهما بلحاظ حالات الانسان فهناك أشياء غائبة عن بعض ومشهودة لبعض آخر او غائبة عن الجميع.

والظاهر أن المراد بانبائه تعالى بأعمال الانسان تبيّن حقائق الاعمال للجميع بوضوح في الآخرة فان الانسان مهما حاول أن يحاسب نفسه في الحياة الدنيا الا أنه لا يدرك حقيقة أعماله ومدى تأثيرها في جانبي الصلاح والفساد وهناك يوم تبلى السرائر ويكشف الغطاء وتحدّ الابصار تتبيّن حقائق الاعمال.

هذا وقد ورد نظير هذه الآيات في قوله تعالى (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ).[10]

 

[1] الاعراف: 156

[2] ال عمران: 75

[3] البقرة: 80

[4] ال عمران: 24

[5] المائدة: 18

[6] البقرة: 111

[7] العنكبوت: 5

[8] المائدة: 59

[9] المائدة: 62

[10] البقرة: 94- 96