مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة الكافرون مكية بمقتضى موضوعها وهو قطع كل رجاء في قلوب المشركين بان يتنازل الرسول صلى الله عليه واله وسلم لهم ويقبل عبادة الاصنام ولو جزئيا وكان هذا غاية امنيتهم لانهم بذلك كانوا يثبتون صحة عملهم ويتم الصلح بينهم.

والسبب ان المشركين كانوا يعتبرون الاختلاف بينهم وبين الرسول صلى الله عليه واله وسلم سياسيا ويحاولون التقارب معه لانهم يهابون من ان تحدث حرب بين الفريقين والرسول صلى الله عليه واله وسلم حسبما اُمر به كان يحاول اقناعهم بان الاختلاف ليس سياسيا وانما هو في العقيدة وما تستتبعه من عمل ولذلك فان هذه السورة تحمل من المعنى ما يجعلها ممتازة في القرآن وهذا هو السر فيما ورد في شأنها:

روى الكليني بسند صحيح عن ابي عبدالله عليه السلام قال (كان ابي صلوات الله عليه يقول قل هو الله احد ثلث القرآن وقل يا ايها الكافرون ربع القرآن).[1]

وفي رواية اخرى عنه عليه السلام انه قال (من قرأ اذا أوى الى فراشه قل ياايها الكافرون وقل هو الله احد كتب الله عز وجل له براءة من الشرك).[2]

وهناك عدة روايات فيها صحاح في استحباب قراءتها في الفرائض والنوافل وانه يجوز للمصلي أن يرجع من كل سورة الا من قل هو الله احد وقل ياايها الكافرون.[3]

وقد افتى بموجبها فقهاؤنا فيجوز ترك أيّ سورة بدأت بها قبل ان تتجاوز النصف الا هاتين السورتين فلا يجوز العدول عنهما الى غيرهما.

والروايات في فضلها وفضل قراءتها وانها ربع القران كثيرة جدا في كتب الفريقين وفي كثير منها الارتباط بينها وبين سورة التوحيد.

روى الكليني قدس سره بسند معتبر عن معاذ بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال (لا تدع أن تقرأ بقل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون في سبع مواطن في الركعتين قبل الفجر وركعتي الزوال وركعتين بعد المغرب وركعتين من أول صلاة الليل وركعتي الاحرام والفجر إذا أصبحت بها وركعتي الطواف).[4]

والظاهر ان السر في كل ذلك هذا المضمون الاساس في الدين وهو قطع كل علاقة بين ما اتى به الرسول صلى الله عليه واله وسلم وما يعتقده المشركون.

ويشاهد ان بعض الكتّاب يحاول ان يعتبر ذلك اساسا لمقاطعة سياسية ولكنه غير صحيح فالهدف الاساس هو تبرئة الدين من التأثّر بالعوامل السياسية وإعلام انه حتى لو تم الصلح والتعايش السلمي بين الفريقين فلا مجال للمداهنة في العقيدة لان الدين لم يأت لفتح البلدان وبسط السيطرة وانما جاء لإصلاح البشر وهدايتهم.

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ...

المعروف بين المفسرين أنّ الخطاب في الآية لقوم خاص من المشركين ذكروهم باسمائهم والسبب في الاصرار على ذلك التهرب من اشكال توهموه وهو ان بعض الكافرين في زمان النزول اسلموا بعد ذلك فكيف يخاطبون بعدم عبادة ما يعبده الرسول صلى الله عليه واله وسلم.

قال في المجمع (نزلت السورة في نفر من قريش منهم الحارث بن قيس السهمي والعاص ابن أبي وائل والوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب بن أسد وأمية بن خلف قالوا هلمّ يا محمد فاتبع ديننا نتبع دينك ونشركك في أمرنا كله تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه. فقال صلى الله عليه واله وسلم معاذ الله أن أشرك به غيره قالوا فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك فقال حتى أنظر ما يأتي من عند ربي فنزل قل يا أيها الكافرون السورة فعدل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى المسجد الحرام و فيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة فأيسوا عند ذلك فآذوه وآذوا أصحابه..).

وقال العلامة رحمه الله (الظاهر أن هؤلاء قوم معهودون لا كل كافر ويدل على ذلك أمره صلى الله عليه واله وسلم أن يخاطبهم ببراءته من دينهم وامتناعهم من دينه).

وروى المفسرون العامة ايضا روايات في ذلك وقالوا لم يسلم احد من هؤلاء المشركين.

ولكن الصحيح ان الآية عامة والخطاب عام والا لما استحقت السورة كل هذا الاهتمام فالخطاب لكل من يكفر بهذه الرسالة ولذلك لم يعبّر عنهم بالمشركين.

والمعنى ان الكفر لا يجتمع مع هذه العقيدة الجديدة ولا يخالطها ولا يشترك معها في شيء ولا علاقة لهذا المعنى بعبادة الاشخاص ولا بإسلامهم ولا بعقيدة اولئك النفر ولا عقيدة المشركين باجمعهم بل كل ما ينطبق عليه الكفر فالكافر مادام كافرا لا يعبد ما نعبده ولا نعبد ما يعبده.

وهذا يشمل حتى اهل الكتاب لانهم وان عبدوا الله الا انهم لا يطيعونه. والعبادة: الطاعة. ولذلك ورد الخطاب لهم (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)[5] وهم قد تولوا لانه مقتضى دينهم فهم كانوا يتخذون الاحبار والرهبان اربابا ويطيعونهم طاعة عمياء.

والامر بالقول في بدو الخطاب من جهة ان هذه السورة ترسم الخط الصحيح والمنهج المستقيم للرسول صلى الله عليه واله وسلم في مواجهة قومه فلا بد من ان يكون بصورة خطاب شخصي منه لهم ليحدد معهم موقفه العقائدي ويؤيسهم من التنازل.

ولذلك لم ينزل الخطاب بالنهي عن عبادة ما يعبدون لان الامر لا يرتبط بالعمل الشخصي له صلى الله عليه واله وسلم بل بطريقة التعامل مع عقيدة الكفر وهذا امر راسخ في كيان الدين فلا بد من اعلام موقفه الدائم بما انه صاحب الرسالة مع الكفر بكل انواعه وفي كل العصور والدهور.

لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ...

قيل انه خاص بالمستقبل اي لا اعبد في المستقبل ما تعبدونه لان (لا) اذا وردت على المضارع اختص بالمستقبل ولا يشمل الحال.

ولكن الظاهر أنه يشمل الحال والاستقبال وما ذكر قد يكون امرا غالبيا وانما ذكروا ذلك تهربا من القول بالتكرار في هذه الآيات. وهناك اختلاف في التفاسير قديما وحديثا في أن التكرار في هذه الآيات هل هي للتأكيد ام أن لكل منها معنى خاص؟

وقد حاولوا تفسير بعضها بالمستقبل وبعضها بالماضي فمن قال بان (لا اعبد) خاص بالمستقبل كما في الكشاف وغيره يخصصون الاية التالية ايضا بالمستقبل بقرينة ورودها بعد هذه الآية مع انها لا تدل على الاستقبال بذاتها.

ثم ذكروا ان الآية الثالثة باعتبار كونها جملة اسمية تدل على الدوام والاستمرار فهي تدل على انه صلى الله عليه واله وسلم لم يعبد صنما قط ولن يعبد ابدا.

ثم الاية الرابعة مع انها لا تختلف عن الثانية ولكنها بقرينة الثالثة تدل على انهم ايضا لن يسلموا ابدا ولن يعبدوا الله تعالى كما لم يعبدوه فيما مضى.

وقالوا بان هذا من معجزات القرآن لانه اخبر عنهم بانهم لن يسلموا ابدا والمخاطبون وهم حسب الفرض جماعة خاصة من مشركي مكة لم يسلموا ابدا.

ولكن الظاهر ان التكرار ليس الا للتاكيد ونظائره كثيرة في القران الكريم وفي كلام العرب ويلاحظ تكرار اية واحدة في سورة الرحمن عدة مرات وكذا في سورة المرسلات.

والصحيح كما مر أن الغرض لا يتعلق بالماضي والحال والاستقبال بل الغرض نفي التلاقي بين العقيدتين بصورة مطلقة ولا تشير الايات الى نفي الموافقة على اقتراح من الكفار فحسب كما قالوا ووردت به الروايات بل تصرح بالبعد الشاسع بين الكفر والايمان وعدم تلاقيهما نهائيا فليس المراد رفض العبادة في المستقبل او الاخبار عن الماضي بل المراد ان هذا الخط لا يتلاقى مع ذلك الخط ابدا.

وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ...

اي ما دمتم على عقيدتكم لان العبادة ليست مجرد طقوس فلا اثر لسجودكم مع المسلمين والدخول بين صفوف صلاتهم لو فرض تحقق هذه المبادرة انما العبادة الايمان بالله تعالى والتسليم لامره ولامر رسوله وهذا مالا يمكن ان يحصل منكم ما دمتم كفارا.

وعبّر عن معبوده وهو الله تعالى بـ (ما) ولم يقل (من) للمشاكلة بين هذه الجملة وسابقتها او لان (ما) اعم كما قيل او للابهام تعظيما له تعالى.

قال الشيخ الطوسي قدس سره في تفسير قوله تعالى (والسماء وما بناها): (وقال ابو عمرو بن العلا: هي بمعنى الذي، وأهل مكة يقولون إذا سمعوا صوت الرعد: سبحان ما سبحت له بمعنى سبحان من سبحت له).

وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ...

تأكيد وتكرار كما مر وما ذكروه من الفرق لا دليل عليه ولا موجب له ولا فائدة فيه ولا يترتب عليه الا الابتعاد عن الغرض الاساس لهذه السورة العظيمة التي هي ربع القرآن كما ورد في روايات الفريقين.

وانما وصفت بذلك لان موضوعها اساسي كالتوحيد الذي هو موضوع سورة التوحيد ولهذا ايضا كانتا متعادلتين فهي تتكفل الجانب السلبي في التوحيد وهو لا يقل اهمية من الجانب الايجابي.

لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ...

النون مكسورة لتدل على الياء المحذوفة اي ديني.

وهذا قطع نهائي وانه لا اختلاط بين ديني ودينكم لا آخذ منكم شيئا ولا تاخذون مني شيئا بمعنى انكم حتى لو عملتم ببعض ما اقول به فليس هذا اخذا من ديني وليس هذا متابعة لعقيدتي لان هذه العقيدة لا تفريق فيها ولا يمكن الاخذ ببعضها دون بعض ولا يمكن الايمان ببعض الكتاب فمن يكفر باي جزء من الكتاب او الرسالة فقد كفر بكله وبكلها.

وهذا امر خطير يوسع دائرة الكافرين المخاطبين في هذه السورة ليشمل بعض المسلمين او كثيرا منهم من ذلك اليوم والى يومنا هذا فما اكثر المنافقين قديما وحديثا؟!!!

وما اكثر من رفض الايمان والتسليم لبعض ما قاله الرسول صلى الله عليه واله وسلم في حياته والى يومنا هذا؟!!!

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد واله الطاهرين

 


[1] الكافي ج2 ص 621 باب فضل القرآن

[2] الكافي ج 2 ص 626 باب فضل القرآن

[3] راجع وسائل الشيعة ج 6 ص 99 باب عدم جواز الرجوع عن قراءة الجحد والتوحيد

[4] الكافي ج 3 ص 316 باب قراءة القران

[5] ال عمران : 63