المشهور أن السورة مكية والسياق يقتضي ذلك. وقيل إنّ الآيتين (والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم) مدنيتان لعدم تشريع الزكاة في مكة. ولو صح هذا القول لاقتضى أن تكون المجموعة التي وردت فيها الآيتان كلها مدنية.
ولكن مضمون الآيتين لا يختص بالزكاة، بل ورد في الحديث أن المراد بهذا الحق ما يعتاده الانسان، ويفرضه على نفسه من الصدقة في الشهر او اليوم او الاسبوع، كما سيأتي ان شاء الله تعالى.
سأل سائل بعذاب واقع... السؤال: الطلب والاستدعاء. والباء زائدة او للتعدي فالمعنى أن سائلا سأل عذابا وهو واقع عليه لا محالة. وقد تكرر هذا المعنى في القرآن كقوله تعالى (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ..) العنكبوت: 53. والسؤال هنا ليس على حقيقته، بل هو استهزاء وكفر وانكار.
وتوصيف العذاب بأنه واقع ردّ لطلبه بصورة التوصيف، فكأنّه يطلب شيئا واقعا، وهو نوع من التهكّم، فيمكن أن يكون التوصيف بلحاظ وقت الوقوع في المستقبل، فيكون المعنى أنه يطلب أمرا واقعا في ظرفه لا محالة، ويمكن ان يكون بلحاظ الحال وان لم يكن العذاب واقعا آنذاك، ولكنه لكونه قطعيا يوصف بالوقوع فكأنّه واقع حين السؤال.
والظاهر أن المراد به عذاب الآخرة، وان كان السائل ربما طلب عذاب الدنيا مستهزئا ولكن حيث كان طلبه مطلقا اجيب بوقوع العذاب لا محالة وان كان ذلك في نشأة اخرى.
وفي المجمع عن جعفر بن محمد الصادق عن آبائه عليهم السلام قال لما نصب رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلّم عليا عليه السلام يوم غدير خم وقال من كنت مولاه فعلي مولاه طار ذلك في البلاد فقدم على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم النعمان بن الحرث الفهري فقال أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله و أمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت من كنت مولاه فعلي مولاه فهذا شيء منك أو أمر من عند الله فقال والله الذي لا إله إلا هو إنّ هذا من الله فولى النعمان بن الحرث وهو يقول اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله وأنزل الله تعالى «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ».
وفي كتب العامة روايات تدلّ على أنّ المراد به رجل خاصّ وهو الذي عُني بقوله تعالى (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) الانفال: 32، ففي بعضها أنه ابوجهل وفي بعضها النضر بن الحارث وفي بعضها الحارث بن علقمة ومهما كان فالحادث وقع في غزوة بدر حسب هذه الروايات.
ولم يثبت شيء مما مرّ من الاحاديث بسند معتبر، ولكن التعبير في الآية الكريمة يوحي بأن السائل شخص معين حيث لم ينسب القول الى ضمير الجمع او الى جماعة، ولكن انطباقه على من ذكر بعيد من جهة كون السورة مكية كما هو الظاهر من السياق وكل ما ذكر من الاحاديث في شأن النزول حدث بعد الهجرة.
وهناك محاولات لاثبات كونها مدنية وهذا وان كان محتملا الا أنه لا موجب لرفع اليد عن ظاهر سياق الآيات المقتضي لكونها مكية حتى نفس هذه المجموعة التي افتتحت بها السورة. نعم لو ثبت شيء من هذه الروايات كان لا بدّ من رفع اليد عن ظاهر السياق ولو في خصوص هذه الآيات.
والحاصل أن المراد بالسائل قد يكون أحد المذكورين او غيرهم. ولكن لا يبعد أن يكون المراد كل من يسأل ذلك من الكفار فان ذلك كان متكررا فيهم ولعلّ أكثرهم كانوا على نفس تلك الصفة وان لم يظهر الا على لسان بعضهم.
للكافرين ليس له دافع... (للكافرين) متعلق بقوله (واقع). وجملة (ليس له دافع) صفة اخرى للعذاب. وهو تأكيد على ثبوته فان التوصيف الاول لعله يحمل على وجود المقتضي فيأمل السامع أن يمنع من حدوثه مانع وهذه الصفة تردّ عليه بأنه لا يمكن دفعه والدليل عليه ما يأتي في الآية التالية...
من الله ذي المعارج... متعلق بقوله (دافع) اي لا يدفعه ويمنعه من امر الله شيء، اذ لا يقاوم ارادته تعالى شيء، او متعلق بقوله (واقع) اي العذاب واقع من الله تعالى. وعلى كل حال يدل هذا التوصيف بأنه ليس له دافع لأنه من الله تعالى.
والمعارج جمع مِعرَج، اي وسيلة العروج والصعود وهي الدرجات. ويحتمل لهذا الوصف ثلاثة معان:
الأول: أنّ طرق الصعود اليه تعالى مختلفة، فهناك معارج كثيرة يتوصّل بها الخلق اليه تعالى، وتختلف معارج الملائكة عن معارج البشر، ومعارج بعضهم عن بعض. والمراد بالمعارج طرق الوصول الى الله تعالى اي التقرب والزلفى لديه.
الثاني: أنّ الصعود اليه تعالى لا يتمّ دفعة، بل لا بدّ من الصعود في مراتب كثيرة متفاوتة. وبناءا على هذا المعنى تدل الكلمة على أنه لا بد من التدرج في الوصول الى الله تعالى.
الثالث: أن هذا الوصف كناية عن علوّ مقامه تعالى وبعده عن اوهام الناس. وبناءا على هذا المعنى فالتعبير بكونه تعالى ذا المعارج قريب جدا من قوله تعالى في سورة غافر/15 (رفيع الدرجات) بمعنى أنّه تعالى صاحب الدرجات الرفيعة، وهو ايضا كناية عن بعده من نيل الاوهام. وذلك لأنّ الوصول الى معرفته بالمقدار الممكن للانسان يتوقف على الصعود في معارج ودرجات رفيعة لا يتيسّر الا للاوحدي من الناس. وهذا الاحتمال هو الأقرب لما سيأتي إن شاء الله تعالى في تفسير الآية التالية.
ولا ينافي ذلك أنّه تعالى قريب يجيب دعوة الداع، بل هو أقرب الى الانسان من حبل الوريد، اي اقرب اليه من نفسه. وكذلك سائر الأشياء، فالله تعالى أقرب الى كل شيء من نفسه، بمعنى أنّ تأثيره في كل شيء أسرع وأقوى من تأثير الشيء بنفسه في نفسه. وهو واضح. ولعل له معنى أدقّ.
ومهما كان فالبعد انما هو من جهة المخلوق. وهذا الأمر ربما يستغرب، حيث إنّه تعالى قريب الى كل شيء، والمخلوق بعيد عنه كل البعد، وليس معنى ذلك بعده عن التوصل اليه بالدعاء والمناجاة فانه تعالى يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ..) البقرة: 186، ونقرأ في دعاء ابي حمزة (والحمد لله الذي اناديه كلما شئت لحاجتي واخلو به حيث شئت لسري بغير شفيع فيقضي لي حاجتي) بل البعد بمعنى علوّ مقامه، وبعده من أن تناله الاوهام، وتدركه الافكار.
وقد تفنّن القوم في تفسير المعارج، فقيل: إنّها الدرجات التي يعطيها للانبياء، وقيل: إنّها مواضع عروج الملائكة في السماء، وقيل: نفس الملائكة، وقيل: الدرجات التي يصعد فيها الاعتقاد الحق والعمل الصالح، وقيل: مقامات قرب المؤمنين.
وفي تفسير الميزان أنّ المراد بها مقامات الملكوت التي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسّره قوله فيما بعد: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ..) فله سبحانه معارج الملكوت ومقاماتها المترتبة علوا وشرفا التي تعرج فيها الملائكة والروح بحسب قربهم من الله.
وسيأتي ان شاء الله تقييم هذا التفسير في تفسير الآية التالية.
تعرج الملائكة والروح اليه في يوم كان مقداره خمسين الف سنة... في الآية موارد للسؤال:
السؤال الاول: ما هو المراد بالروح؟
الظاهر أن المراد به جبرئيل عليه السلام وهو من الملائكة ولعل تخصيصه بالذكر لشرافته وكرامته حيث إنّه سيّدهم، وقد وصفه الله تعالى بقوله (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) التكوير: 19- 21، كما ذكر بالخصوص معهم في قوله تعالى (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) القدر: 4، وقوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا..) النبأ: 38، بناءا على كونه المراد بالروح فيهما ايضا.
وربما يقال ان ذكره بالخصوص هنا للتنبيه على أمر خاصّ يحدث يوم القيامة يقتضي عروج جميعهم معا من دون ملاحظة مراتبهم ومقاماتهم، فيكون جبرئيل عليه السلام في عرض سائر الملائكة الكرام, وكأنّ التدرّج في تلقّي الاوامر الالهية ينتفي في ذلك اليوم، ويبتني هذا الاحتمال على أنّ المراد باليوم يوم القيامة. وسيأتي البحث عنه ان شاء الله تعالى.
ولكن العلامة الطباطبائي فسّر الروح بمعنى آخر قال في تفسير هذه الآية (الظاهر أنّ المراد بالروح، الروح الذي هو من أمره تعالى كما قال: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» الإسراء: 85 وهو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ» النحل: 2. فلا يعبأ بما قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل وإن أطلق عليه الروح الأمين وروح القدس في قوله: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ» الشعراء: 194 وقوله: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ» النحل: 103 فإن المقيد غير المطلق).
وقال في تفسير قوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا..) النبأ: 38 (وقيل: المراد به جبريل، وقيل: أرواح الناس... وقيل: القرآن... و يدفعها أن هذه الثلاثة وإن أطلق على كل منها الروح في كلامه تعالى لكنه مع التقييد كقوله: «وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي»: الحجر: 29، وقوله: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ»: الشعراء: 193، وقوله: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ»: النحل: 102، وقوله: «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا» مريم: 17، وقوله: «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» الشورى: 52 والروح في الآية التي نحن فيها مطلق).
ويلاحظ على هذا البيان أنّ المراد بالروح في قوله تعالى (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) هو الروح البشري قطعا، لأنه هو مورد سؤال القوم، اذ لا يعلمون شيئا يسمى بالروح غيره، والسورة مكية. والجواب لا يبيّن لهم حقيقة الروح كما هو المطلوب بل يردّ عليهم بأنه مخلوق بأمره تعالى. ولعلّ المراد به أنّ حقيقته مما لا يمكن دركه لأنّه ليس من عالم الطبيعة.
وأما قوله تعالى (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) النحل: 2، فالظاهر أنّ المراد بالروح فيه هو الوحي، سمّاه روحا لأنّه منشأ الحياة المعنوية. وكذلك قوله تعالى (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) غافر: 15 وقوله تعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا..) الشورى: 52 نعم ورد في عدة من الروايات أن المراد بالروح في الآية الاخيرة خلق آخر أعظم من جبرئيل وميكائيل وأنه كان مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم يسدّده ويخبره وأنه مع الأئمة من بعده عليهم السلام وقد مر بعض الكلام حولها في تفسير سورة الشورى.
ولا شكّ أن المراد بالروح الامين وروح القدس جبرئيل عليه السلام، لقوله تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين) الشعراء: 195، وقوله (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّك..) النحل: 102، وقوله تعالى (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّه) البقرة: 97. فلا يبعد أن يكون هو المراد بالروح في بعض هذه الموارد ايضا.
وأمّا قوله المقيد غير المطلق فكلام غريب بظاهره، وأغرب منه تطبيقه على المقام. أمّا أصل الكلام فلأنّ المقيّد عين المطلق، والمطلق لا وجود له الا في المقيّدات. وأمّا تطبيقه فلأنّ الروح في غير مورد التوصيف بالامين والاضافة الى القدس ليس مطلقا، بل يراد به معنى آخر، فالروح في الواقع لفظ مشترك او كالمشترك من حيث الاستعمال، فيراد به تارة الروح الانساني، وتارة الوحي الرسالي، وتارة جبرئيل عليه السلام، وتارة أمر آخر.
نعم يمكن توجيه كلامه بأنّ الروح في مصطلح القرآن اذا اطلق له معنى واذا قيد له معنى آخر فالمقيد يتبع في معناه قيده فقد يراد به الروح البشرية كما في قوله تعالى (روحنا) او (روحي) وقد يراد الوحي كقوله تعالى (روحا من امرنا) وقد يراد جبرئيل عليه السلام كما اذا وصف بالامين واما اذا اطلق فيراد به ما عبر عنه بالمخلوق الامري.
وهذه دعوى بلا برهان ولا مانع من ارادة المقيد من المطلق فيراد بالروح من دون قيد الروح الامين او روح القدس.
السؤال الثاني والثالث: ما هو المراد باليوم الذي مقداره خمسون الف سنة؟ وما معنى عروج الملائكة والروح فيه؟
اما اليوم ففيه احتمالان:
الاحتمال الاول ــ وهو المعروف ــ أنّ المراد به يوم القيامة. وقد وقع الكلام في وجه تحديده بخمسين الف سنة. فان صحّ أنّه المراد فيمكن أن يكون المراد بيان عظمة ذلك اليوم وطوله وشدّته. ولا شكّ أنّ المراد ليس هو اليوم بالمعنى المصطلح عندنا، وهذا ممّا لا يحتمله أحد. بل المراد به مرحلة من مراحل التكوين، والتعبير عن مثل ذلك باليوم متعارف في اللغة وفي القرآن الكريم.
وللقوم أقوال عجيبة في توجيه ذلك، منها أنه يطول على الكافر خمسين ألف سنة وعلى المؤمن بمقدار صلاة مكتوبة. ورووا في ذلك رواية. مع أن الآية تصفه بذلك من دون تقييد وظاهرها أنه صفته الواقعية وليس وهما او خيالا.
ومنهم من قال: إنّ هذا التحديد زمان تكوّن هذا الكون الى يوم القيامة. وهذا ــ مع أنّه خلاف الواقع قطعا ــ خلاف صريح الآية من كونه وصفا لليوم.
الى غير ذلك مما لا طائل تحته.
وهناك بحث في تنافي هذا التحديد مع قوله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) السجدة: 5. فقيل في الجواب بوجوه عديدة. وفي بعض الروايات أن في يوم القيامة خمسين موقفا كل منها الف سنة.
ومن الواضح أنّ المراد بالسنة ليس هو المعنى المعروف عندنا، بل المراد مقدار من الزمان لو طبّق على ما يمرّ على الارض من حوادث طابق الف سنة.
وسيأتي إن شاء الله تعالى الجواب الصحيح عن هذا السؤال بحيث يرتفع التنافي المتوهم بين الآيتين الكريمتين.
وعلى افتراض أن المراد بهذا اليوم يوم القيامة فما هو المراد بعروج الملائكة فيه؟
يحتمل أن يكون المراد بعروجهم جميعا في يوم القيامة تلقّيهم الأوامر منه تعالى من دون واسطة في ذلك اليوم العظيم الذي يختلف فيه نظام الكون عن هذا النظام، حيث تتشقّق السماء بالغمام، وينزّل الملائكة تنزيلا، فيخالطون البشر، وترتفع الحواجز، وتزول الغمّة، وينكشف الغطاء، فهناك طريق جديد لا بدّ من سلوكه لايصال كل أحد الى نهايته.
ولكن للعلامة الطباطبائي رحمه الله رأي خاص، حيث قال: (المراد بعروج الملائكة والروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكل إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط، وتقطّع الأسباب، وارتفاع الروابط بينها وبين مسبباتها، والملائكة وسائط موكلة على أمور العالم وحوادث الكون، فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها، وزيّل الله بينهم، ورجع الكل إلى الله عزّ إسمه، رجعوا إليه، وعرجوا معارجهم، فحفّوا من حول عرش ربّهم وصفّوا قال تعالى: «وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ» الزمر: 75، وقال: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا» النبأ: 38).
وحاصل كلامه قدس سره أنّ عروجهم اليه تعالى بمعنى انتهاء دورهم في الكون، لأنّ دورهم هو التوسط، وينتهي التوسط في تلك النشأة، وتعود الخلائق الى ربّها.
ونلاحظ على هذا الرأي:
أولا ــ أنّ الملائكة وسطاء حتى في يوم القيامة وفي ما بعده. وهذا صريح القرآن من أنّ الملائكة هم القائمون بالأعمال يوم الحساب، قال تعالى (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) ق: 21 وهما او خصوص السائق من الملائكة. وهم يلقون بأهل النار في النار (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) ق: 24، وهم خزنة النار، ويتحدّثون مع أهل النار من أول ورودهم اليها وبعد ذلك، وهم يتلقّون المؤمنين في الجنّة، ويدخلون عليهم من كل باب بالسلام، وهم حافّون من حول العرش يسبّحون بحمد ربّهم. الى غير ذلك من المواقف.
وثانيا ــ وهذا هو القول الفصل في المقام ــ : أنّ التوسّط بين الله تعالى وخلقه لا يمكن أن ينتهي في أيّ نشأة، حتى توسّط غير الملائكة.
قال تعالى (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الاعراف: 44، فهذا المؤذن وسيط لهذا الاعلام يوم القيامة.
واذا لاحظنا أنّ الأذان والاعلام في تلك النشأة ليس قولا بل هو نفس العمل تبيّن أنّ لعنة الله تعالى بيد المؤذن يقذفها عليهم فهو وسيط في إلقاء اللعنة، وفي الروايات أنّ المؤذن هو امير المؤمنين عليه السلام.[1]
وقال تعالى (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) الاعراف 46-49.
هذه الآية صريحة في أنّ هناك رجالا على الأعراف يعرفون كلا من أصحاب النار وأصحاب الجنّة بسيماهم، وليس لهم صحيفة ينادون الناس بأسمائهم بل يعرفون الأشخاص بأعيانهم. والضمير في قوله (وبينهما) يعود الى الفريقين المذكورين في الآية 44 التي ذكرناها آنفا. وهؤلاء الرجال هم الذين يوبّخون أصحاب النار بقولهم (ما أغنى عنكم جمعكم..) وهم الذين يقولون لأصحاب الجنّة (ادخلوا الجنة..). فبيدهم مفاتيح الجنة وهم الذين يقسّمون الجنة والنار بين الناس.
يا ترى من هؤلاء؟
نرجع الى القرآن الكريم، قال تعالى (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) الاسراء: 71. وليس المراد بالامام هنا كل من يقتدي به الناس كما قال العلامة الطباطبائي في الميزان ليشمل أئمة الباطل، بل المراد الامام الحق الذي عيّنه الله تعالى وأمر بمتابعته، بدليل تفريع التقسيم الى من اوتي كتابه بيمينه وغيرهم على دعوة الناس بامامهم، فالامام هو الشاهد على أعمال الخلق، وهو المقياس والميزان، فيقاس عمل كل انسان بسيرة امامه.
فيتبيّن من هذه الآية أنّ أصحاب الاعراف هم الأئمة سواء الرسل أم الأوصياء. وقد ورد في الأحاديث ايضا أنّ الأئمة عليهم السلام هم أصحاب الاعراف. منها ما في تفسير العياشي عن أبي جعفر عليه السلام قال سألته عن قول الله «وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ» ما يعني بقوله «وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ» قال: ألستم تعرفون عليكم عرفاء على قبائلكم ليعرفون من فيها من صالح أو طالح؟ قلت: بلى، قال فنحن أولئك الرجال الذين يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ.
وفيه عن سلمان رضوان الله عليه قال سمعت رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلّم يقول لعلي أكثر من عشر مرات: (يا علي إنك والأوصياء من بعدك أعراف بين الجنة والنار لا يدخل الجنة إلا من عرفكم وعرفتموه ولا يدخل النار إلا من أنكركم وأنكرتموه).
وغير ذلك من الاحاديث.
والآيات التي تدل على وجود الوسائط يوم القيامة كثيرة. ونقرأ في زيارة الجامعة (واياب الخلق اليكم وحسابهم عليكم). وهذا لا ينافي قوله تعالى (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) الغاشية: 25- 26، كما لا ينافي ما ورد في الآيات من أنه تعالى يعذب ويثيب ويحاسب ويسقي الشراب الطهور ونحوها مع توسط الوسائط قطعا كما لا ينافيه في هذه النشأة ايضا.
بل إن نفس وجود الجنة والنار وما فيهما من ملذات وعذاب دليل التوسط، فالله تعالى يثيب ويعاقب بتوسط هذه الامور.
الى هنا كان البحث مبنيا على أنّ المراد بيوم العروج يوم القيامة كما هو المذكور والمسلّم في أكثر التفاسير.
ولكن لنا على هذا التفسير ملاحظتان:
1- أنه لا دليل عليه في لفظ الآية الا قوله تعالى بعد ذلك (إنّهم يرونه بعيدا ونراه قريبا) ولكن الظاهر أنّ الضمير في هذه الآية يعود الى العذاب الذي سئل عنه كما سيأتي ان شاء الله تعالى.
2- أنه بناءا على هذا التفسير فان تحديده بخمسين الف سنة لا علاقة له بالعروج، وانما هو بيان لصفة من صفات يوم القيامة الذي هو ظرف للعروج فحسب، وعليه فلا بدّ من أن يكون القصد من التوصيف تعريف ذلك اليوم.
وتوصيف الزمان سواء كان يوما او سنة بوصف خاص ان كان لمجرد التعريف ــ كما هو المفروض في تفسير القوم حيث اعتبر ظرفا لعروج الملائكة فحسب ــ فلا بد من أن تكون الصفة مما يشتهر به ذلك الزمان، كعام هجرة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم، وعام ميلاد المسيح عليه السلام، وعام الفيل، ونحو ذلك مما توصف به الايام والسنون.
مع أن هذه الصفة اي كون يوم القيامة خمسين الف سنة مما لا يعرفه به أحد، ولم يرد ذكره في القرآن الكريم الا هنا، بل ورد ما يعارضه، وهو تحديده بالف سنة، قال تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) السجدة: 5. بناءا على أن المراد به يوم القيامة كما لا يبعد.
ومهما كان فهذا الوصف ليس ميزة واضحة ليوم القيامة يعرف بها، فكان اللازم او المناسب ــ على الاقل ــ ان يوصف بيوم القيامة او يوم الحساب ونحو ذلك، وأما ذكر هذا التحديد فلا يناسب الا كونه بيانا لمدّة العروج، لا صفة لليوم الذي هو ظرف العروج. فتأمل.
الاحتمال الثاني لمعنى اليوم والعروج:
وهو أن المراد بذكر هذه المدة وعروج الملائكة والروح فيها الى الله تعالى تفسير قوله تعالى (ذي المعارج) وبيان أنه رفيع الدرجات بعيد المنال, فالوصول اليه والتقرب لديه يتطلّب حتى من الملائكة الكرام تخطّي مرحلة من الكمال (تأمّل) لو قيست بالقياسات الطبيعية التي يدركها البشر لكان مساويا للسير هذه المدة الطويلة, وذكر هذه المدّة بالطبع للتفخيم لا للتحديد, ولا يراد بها واقعا بعد مكاني ولا زماني.
فالمراد بناءا على هذا أن كونه تعالى ذا المعارج بمعنى أنه بعيد المنال كما مر في تفسيره بحيث إن الملائكة اذا أرادوا التقرب لديه والوصول اليه لزمهم تخطّي هذه المرحلة العظيمة من التكامل كأنّهم ارتحلوا رحلة طول مدتها خمسون الف سنة.
ويبقى هنا سؤال وهو أنّه لماذا عبّر باليوم اذ يكفي أن يقول (في خمسين الف سنة)؟
والجواب أن المراد باليوم كما قلنا مرارا مرحلة من التكامل وليس مقدارا من الزمان.
وبهذا البيان يرتفع التنافي بين هذا التحديد وما ورد في قوله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) السجدة: 5, بناءا على أنّ المراد باليوم في هذه الآية يوم القيامة.
ويلاحظ أنه بناءا على هذا التفسير يكون التحديد بخمسين الف سنة لبيان طول الزمان الذي يستدعيه العروج ولو من باب الكناية، وبذلك لا يرد عليه الاشكال الثاني الذي ذكرناه في تفسيره بيوم القيامة.
فاصبر صبرا جميلا... الفاء تدل على شرط مقدر والخطاب للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم، اي اذا سمعت من المشركين ما يؤذيك، ومنه طلب العذاب من بعضهم استهزاءا، فاصبر عليهم، وتحمّل أذاهم.
والصبر حبس النفس على ما تكره. وربما يقسّم الى صبر في المصيبة، وصبر في الطاعة، وصبر في المعصية. والمصيبة قد تكون طبيعية من الله تعالى، وقد تكون من ظلم الناس.
والقسمان الاخيران يجمعهما أنّ الصبر قد يكون في عمل اختياري يلزم الانسان به نفسه، فعلا او تركا، اما لمقاومة عدو في الحرب، او لمقاومة نفسه في شهوة او غضب او طمع، او لالزامها على طاعة وعبادة، او ترك معصية، طلبا للثواب، ودرءا للعذاب.
ولكنّ الصحيح أنّ القسم الاول، اي الصبر على المصيبة ايضا داخل في هذا القسم، اي الصبر في الاقدام على العمل والترك الاختياريين. وذلك لأنّ المصيبة النازلة إنّما يصبر عليها اذا لم يمكن دفعها، والا فلا يجوز الصبر شرعا وعقلا، سواء كان من الطبيعة، او من ظلم الآخرين. وما لا يمكن دفعه فلا معنى لحبس النفس عليه، فالمراد بالصبر في مثل ذلك هو الامتناع عن الجزع فعلا وقولا.
أمّا الفعل والقول في موارد ظلم الآخرين فواضح، حيث يقابله بعض الناس بظلم أكبر وأوسع، فيقتلون غير القاتل، ويردّون على السبّ بسبّ الآباء والامّهات، ونحو ذلك.
وأما في مواجهة الكوارث الطبيعية فالجزع بالفعل قد يكون بإيذاء النفس، وجزّ الشعر، ولطم الخدّ، وربما يكون بالانتحار. واما بالقول فهو كثير، حيث يتفوّه بعض المصابين بما يستلزم الكفر، والعياذ بالله.
فالصبر في الواقع هو حبس النفس على ما تكره من قول او فعل. وما حدث للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم من إيذاء المشركين كان ظلما فظيعا مستمرّا، وكان صلى اللّه عليه وآله وسلّم يصبر كما اُمر به، ومعنى صبره الاستمرار في الدعوة، فلم تمنعه هذه الفظائع من الاستمرار في دعوته. وهذا هو حبس النفس على فعل تكرهه ذاتا، لأنّ الانسان مجبول على مواجهة هذه الافعال بردّ فعل مشابه، او ترك للساحة على الاقل، وابتعاد عن إثارة المزيد من الايذاء. ولكنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم استمرّ في دعوته، بل كلما زادوا إيذاءا زاد إصرارا، وزادت دعوته توسّعا.
والصبر الجميل هو أن لا يتبيّن على الانسان أثر من التأذّي والانقباض سواء في الطاعة، او ترك المعصية، او مواجهة الكوارث. ونحن نجد بيننا من المصابين من يحبس نفسه عن الجزع قولا وفعلا، ولكنه لا يتمكّن من إزالة كل آثاره، فيبدو عمق التأثر على وجهه. والناس مختلفون في ذلك، وهناك من لا يبدو منه أيّ ظاهرة في هذا المجال. ولذلك قيل: إنّ الصبر الجميل أن لا يتبيّن من هو المصاب اذا كان جالسا بين القوم، فتراه كأحدهم.
وأما في الصبر على ظلم الآخرين فقد يتمثّل الجمال في ردّ الفعل بأقلّ ما يتوقّع منه، وهو ايضا من حبس النفس. وقد يتمثّل في السكوت، ولكن ربّما نجد من بعض الناس مواجهة الظلم بالاحسان، فهذا هو غاية الصبر الجميل.
وهكذا كان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم، فان استمراره في الدعوة، وإصراره على هداية القوم، مع كل ما بذلوه من جهد في إيذائه هو من الاحسان في مقابل الإساءة.
إنّهم يرونه بعيدا ونراه قريبا... تعليل للأمر بالصبر الجميل. وذلك لأنّ الصبر على الإيذاء المستمرّ، والإصرار على الدعوة مع عدم احتمال التأثير، والقطع بعدم استسلامهم للحقّ لا بدّ له من موجب، فإنّ النفس بذاتها تأبى عن ذلك، لعدم ترتّب الفائدة المرجوّة، فعلّل الله تعالى الأمر بالصبر بأنّهم سيلقون جزاءهم قريبا.
والضمير يعود الى العذاب الذي طلبه السائل. وقد مرّ أنّه حتى لو أراد به عذاب الدنيا، فإنّ الطلب مطلق، والمراد بالعذاب الموعود عذاب الآخرة.
والمعروف بين المفسرين أنّ المراد بالبعد بعد احتماله لا بعده زمانا، وكذلك القرب. وعليه فلا بدّ من التأويل في كليهما، أمّا البعد فلأنّهم كانوا ينكرونه أساسا، فالتعبير بالاستبعاد من باب المسامحة، كما أنّ التعبير بالقرب ايضا من باب المسامحة، اوالمشاكلة والمماشاة مع التعبير بالبعد، اذ لا معنى للقول بأن احتمال وقوعه قريب عند الله تعالى.
ويمكن أن يراد بهما القرب والبعد في الزمان، ولا بدّ من تأويل البعد ايضا، بمعنى أنّهم يقولون ببعده زمانا على فرض صحته. وهذا ما نستشعره من كثير من الناس، حتى المؤمنين منهم. وهذا هو الموجب لضعف التقوى في كثير من الناس، فإن الانسان اذا أمن العقوبة العاجلة لم يهتمّ بما يفعل، حتى بالنسبة للعقوبات القانونية. فلا يبعد أن تكون الآية إشارة الى أنّهم يستبطئون العذاب الموعود على فرض وقوعه، فتردّ عليهم بأنّه قريب وليس بعيدا.
وذلك لأنّ الناس على ثلاثة أقسام:
قسم منهم منعّمون من حين الموت، قال تعالى (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ..) آل عمران: 169-170.
وقسم معذّبون من حين الموت، وهم الجبابرة والظلمة قال تعالى (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) غافر: 45-46.
وقسم يغفل عنهم، فلا يشعرون بما يمرّ عليهم من الزمان الى يوم القيامة. وفي ذلك آيات كثيرة، كقوله تعالى (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) النازعات: 46.
والظاهر أنّ أكثر الناس من القسم الأخير، كما ورد في أحاديث متعددة، منها صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبدالله عليه السلام (لَا يُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ إِلَّا مَنْ مَحَضَ الْإِيمَانَ مَحْضاً أَوْ مَحَضَ الْكُفْرَ مَحْضاً)
ومنها ما رواه ابن بكير عن ابي جعفر عليه السلام (إِنَّمَا يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ مَنْ مَحَضَ الْإِيمَانَ مَحْضاً وَالْكُفْرَ مَحْضاً وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَيُلْهَى عَنْه). [2]
فاذا كان الانسان من هذا القسم فهو لا يشعر بعالم البرزخ، وانما يجد نفسه فجأة في عالم الحساب ثم العذاب. واذا كان من القسم الآخر فهو معذّب من يوم موته. اذا فالعذاب قريب جدا على كل حال.
[1] منها ما رواه الكليني قدس سره بسنده عن أحمد بن عمر الحلال قال: سألت أباالحسن عليه السلام عن قوله تعالى: "فاذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين" قال: المؤذن أمير المؤمنين عليه السلام. (الكافي ج1 ص426)
[2] الكافي ج3 ص235