إنّ الانسان خلق هلوعا * اذا مسّه الشرّ جزوعا * واذا مسّه الخير منوعا... (هلوعا) حال من الانسان وكذلك (جزوعا) و(منوعا)، و(اذا مسّه) في الموردين ظرف، اي خلق الانسان حال كونه هلوعا، جزوعا اذا مسه الشر، ومنوعا اذا مسه الخير.
و(هلوع) مبالغة من الهلع. واختلف اللغويون والمفسرون في تفسيره. قال في معجم المقاييس: (الهلع يدلُّ على سُرعةٍ وحِدَّة. وناقة هِلْوَاعٌ: حديدة سريعة. ونعامةٌ هالِعٌ كذلك. ومنه الهَلَعُ في الإنسان: شِبْه الحِرْص. ورجلٌ هَلِعٌ وهَلُوع) وقيل: إنّه الجزع. وقيل: أفحش الجزع. وقيل: الطمع.
قال في الكشاف: (والهلع: سرعة الجزع عند مسّ المكروه وسرعة المنع عند مسّ الخير، من قولهم: ناقة هلواع سريعة السير. وعن أحمد بن يحيى قال لي محمد بن عبد اللّه بن طاهر: ما الهلع؟ فقلت: قد فسّره اللّه، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره، وهو الذي إذا ناله شرّ أظهر شدّة الجزع، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس).
وما نقله عن أحمد بن يحيى وهو المشهور بثعلب منقول عن ابن عباس ايضا.
والذي يبدو من ملاحظة كلماتهم أنّ معناها في أصل اللغة السرعة في التأثر، وردّ الفعل دون تأنّ وتدبّر. فلعلّ ما ورد بعد ذلك في الآيتين التاليتين بيان لموردين من موارد سرعة انفعال الانسان قبال الخير والشر، وليس تفسيرا للكلمة.
قال أَبو العباس المبرد ــ على ما في لسان العرب ــ : رجلٌ هَلُوعٌ إِذا كان لا يصبر على خير ولا شرّ حتى يفعل في كل واحد منهما غير الحق.
فالغالب على طبيعة الانسان أنّه اذا واجه شرّا شديدا أسرع في ردّ فعل غير مناسب يدلّ على غاية جزعه وانزعاجه، وربّما يموت، كما أنّه اذا واجه خيرا عظيما حسب اعتقاده ورؤيته فإنّه يفقد صوابه، ويعزم بسرعة على اُمور غير منطقية بسبب شدّة فرحه وبطره، وربما يوجب ذلك ايضا موته. وممّا يعزم عليه منعه من الوصول الى غيره.
والجزوع والمنوع صفتان مشبّهتان تدلّان على الثبات والاستقرار. فالانسان غير المؤمن بطبعه يسرع في الجزع ويكثره ويستمر عليه اذا أصابه الشرّ، واذا أصاب خيرا كان سريع المنع شديده مستمرّا عليه.
والجملة بكاملها ضمن ثلاث آيات تعليل لقوله تعالى (وجمع فأوعى) في الآية السابقة.
ويقع الكلام في قوله تعالى (خلق هلوعا) حيث يدلّ على أنّ الهلع جزء من فطرة الانسان وخلقه، مع أنّه صفة مذمومة، فالسؤال: كيف يمكن أن يخلق الله تعالى شيئا على صفة مذمومة، وقد قال تعالى (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ..) السجدة: 7 ؟! وكيف يمكن أن يوصف الانسان في أصل خلقه بصفة سيّـئة، وقد قال تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) التين: 4 ؟! ولو كانت هذه الصفة في اصل خلقة الانسان فكيف يعاب عليها؟! وأخيرا كيف يصحّ استثناء المصلّين من سائر البشر ان كانت هذه صفة ذاتية؟!
واُجيب عن الاشكال بأنّ الصفات المذمومة في الانسان لها أصل مستحسن في الفطرة الانسانية، ولكن الانسان يسيء استخدامها، ويفرط فيها فتكون مذمومة. فالحسد مثلا نابع في الاصل من حبّ الانسان لتفوّقه على الآخرين، سواء كان نشاطه في الامور المادّيّة او المعنويّة. وهذا الشعور في حدّ ذاته مستحسن، ويبعث الانسان على المضيّ قدما في العلم والحضارة وعمران البلاد، ولولاه لبقي الانسان على تخلّفه القديم.
ولكنّه ربّما يفرط فيه فاذا رأى غيره ممّن يزامله في الدراسة متفوّقا عليه فقد يكون ذلك باعثا له على محاولة التفوّق في مجال آخر، فلا بأس به حينئذ، بل هو الانفعال الصحيح لهذا الشعور الفطري. ولكنّ كثيرا من الناس يدعوهم ذلك الى الإضرار بالمتفوّق عليهم بأيّ وسيلة ممكنة. وهذا هو الحسد المذموم.
وهكذا غيره من الصفات، كالتكبّر فإنّ الاصل فيه الوقار والعزّة والمنعة وحفظ ماء الوجه، وكل ذلك من فروع حبّ الذات، وهي أمور مستحسنة بل ربما تكون واجبة، فلا يجوز للمؤمن أن يذلّ نفسه. وقد ورد المنع من لبس ما يوجب التحقير والمذلّة.
ولكن اذا أفرط الانسان في ذلك او وضعه في غير موضعه أصبح صفة مذمومة جدا، وهو التكبّر والاستعلاء. وربما يكون الافراط والوضع في غير موضعه شيئا واحدا. وقد قال تعالى في صفات المؤمنين (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ..) المائدة: 54. فالتذلّل عند المؤمن مطلوب مستحب، وعند الكافر مذموم.
وربّما يشتبه الامر في كثير من الموارد ويتحيّر الانسان في أنّ اتّخاذ موقف مّا هل يعتبر من الكبر او من العزّة المطلوبة.
ومن هذه الصفات جزع الانسان من الشر وطلبه للخير واحتفاظه لما يملك، فإنّ كل ذلك نابع من صفة مستحسنة، وهي حبّ الذّات. وإنّما تكون الصفة مذمومة بالافراط فيها فالجزع من الشر وطلب الخير باعتدال صفة مستحسنة وكذلك الحفاظ على الممتلكات.
وكذلك تتحول الصفة الى صفة مذمومة بوضعها في غير الموضع الصحيح، كما لو جزع من الموت في ما اذا طلب منه الجهاد في سبيل الله او منع ماله من الانفاق في سبيله، وذلك لأنّ الانسان اذا آمن بالله تعالى وباليوم الآخر اعتبر الموت في سبيله تعالى طلبا للخير، وكذلك الانفاق، بل اعتبر الصرف على نفسه او حفظه لينتقل الى الورثة ضررا كبيرا عليه.
هذا ولكنّ هذا الجواب إنّما يصحّ لو كان معنى الهلع نفس الصفة الطبيعية المستحسنة، اي حب الذات او الحرص على الخير، وأمّا اذا كان المعنى سرعة الانفعال في مواجهة الخير والشر بما لا ينبغي فهي صفة مذمومة مطلقا.
وأجاب في الكشاف عن الاشكال بأنّ الإنسان لإيثاره الجزع والمنع وتمكّنهما منه ورسوخهما فيه، كأنّه مجبول عليهما مطبوع، وكأنّه أمر خلقيّ وضروري غير اختيارى، كقوله تعالى (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَل).
وعليه فالتعبير بالخلق كناية عن رسوخ الصفة في الانسان. كما أنّ خلقه من العجل ايضا ليس بمعنى أنّ العجلة من فطرته، وإنّما هو كناية عن تمكّن الاستعجال من نفسه فأصبح كأنّه جزء من ذاته، خصوصا بلحاظ التعبير أنّه خلق منه فكأنّ كل وجوده العجلة.
وهذا الجواب أصحّ وأوضح وأشمل.
الا المصلّين... ظاهر السياق أنّه استثناء من توصيف الانسان بالجزع والمنع، وهو الوارد في عامّة التفاسير. فالمؤمن لا يجزع اذا مسّه الشر او ليس كثير الجزع ولا سريعه ولا يستمر عليه، لأنّه يرى أنّ ما أصابه بلاء وفتنة من الله تعالى، فيصبر على بلائه طلبا لثوابه.
كما أنه اذا أصاب خيرا فإنّه لا يمنعه من مستحقيه، لأنّه يعتبره نعمة من الله تعالى يجب أن يشكره عليه، ومن واجب الشكر امتثال أمره في ما أنعم.
ويمكن أن يعترض هنا بأنّ الاستثناء يقتضي الحصر، مع أنّ كثيرا من غير المؤمنين ايضا لا يجزعون عند الشرّ، بل نجد كثيرا منهم حلماء حكماء، وأقوياء في مواجهة الشر. كما أنّ منهم من ينفق أموالا طائلة في سبل الخير، بل كان كثير من عرب الجاهلية معروفين بالجود والكرم، ونحن نجد في عصرنا هذا أنّ كثيرا من الكفار والملحدين يساعدون الفقراء بسخاء، بل ربما تكون هذه الخصلة هي التي تتسبب في نزول الرحمة والنعمة عليهم.
ولم أجد في التفاسير من انتبه لهذا الاعتراض وأجاب عنه، فكأنّ القوم متّـفقون على أنّ غير المؤمن بل غير الصالح الواجد لكل هذه الصفات الحميدة ينطبق عليه بقاؤه على الهلع والجزع والمنع.
نعم هذا الاعتراض لا يرد على من نفى أن يكون (الا المصلّين) استثناءا عن قوله تعالى (إنّ الانسان خلق هلوعا) بل اعتبره إستثناءا منقطعا، وأنّه يرجع في الواقع الى عموم العذاب، فالمعنى أنّ المتصف بهذه الصفات لا يعذّب بل هم في جنات مكرمون كما سيأتي في آخر الاوصاف. وهذا الاحتمال ليس ببعيد.
وأمّا بناءا على ظاهر السياق فيمكن أن يقال في دفع الاشكال: إنّ المراد بهذا التقسيم بيان ما تقتضيه طبيعة الايمان والكفر، فالانسان المؤمن الراسخ في ايمانه، والملتزم بدينه، والواثق بربّه لا يجزع مهما صعبت الظروف وتوالت المصائب. ولذلك نرى أنّ سيد الشهداء عليه السلام كان كلما زادت عليه المصائب يوم عاشوراء يزيد قوة وعزما وصلابة.
والكافر اذا كان لا يجزع لبعض المصائب فإنما هو لرجاء الوصول الى حلّ، فهو يحاول أن يحتفظ بجلادته، ولا يسرع في الانفعال حتى يتمكن من الوصول الى طريق للحلّ. أمّا اذا انسدّت الطرق تماما، فإنّه بالطبع يفقد كلّ أمله، لأنه لا يعتقد بحياة اُخرى قد يكون سعيدا فيها، فيعوّض عن هذه الخسارة.
وهكذا في الانفاق فان المؤمن ينفق ماله طلبا لمرضاة الله تعالى، لا يتوقّع عوضا في هذه الحياة، حتى لو علم أنّه لا ينفعه ذلك شيئا، فإنّ النفع عنده في ثواب الله تعالى. ولكنّ الكافر لا يمكن أن ينفق من دون مقابل، وإن كان ذلك سكوت الفقير، وعدم تعرّضه لأمواله او منافع اُخرى يتوقعها حسب تجربته، وأقل ما يحصل عليه ارضاء ضميره ووجدانه.
وأمّا ما يشاهد من الجزع والمنع من المؤمنين فليس نقضا على الآية الكريمة، فإنّ الاستثناء خاصّ بمن يكون من المصلين وواجدا لمجموعة من الصفات الحميدة، ولا يشمل كل من أسلم ظاهرا ودخل في ربقة الاسلام كما يتوهم.
والواقع أنّ الايمان والكفر أمران إضافيان، فهناك بعض الايمان في قلوب كثير من الكفار، وهناك شيء من الكفر في قلوب كثير من المؤمنين. وقلّ ما تجد كافرا محضا، وأقل منه أن تجد مؤمنا محضا.
الذين هم على صلاتهم دائمون... مجموعة من الصفات ذكرت قيدا للمصلين الذين استثناهم من الانسان الذي خلق هلوعا، فليس كل من صلى داخل في هذا الاستثناء. والسبب واضح فإنّ كثيرا من المصلين ليست صلاتهم نابعة عن التقوى والمعرفة، وانما تعوّدوا الصلاة تبعا لتعاليم الاسرة والبيئة، فيستوحشون من تركها، كما ورد في الحديث.[1]
وأوّل صفة ذكرت قيدا مداومتهم على الصلاة. ولا يقصد به بالطبع الاستمرار فيها ليلا ونهارا، بل المراد أنهم لا يتركونها في اوقاتها.
وقد ورد في الروايات أن المراد بالصلاة في هذه الآية النوافل، فقد روى الكليني قدس سره بسند صحيح عن حريز عن الفضيل، قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ (الّذين هم على صلواتهم يحافظون)؟ قال: هي الفريضة. قلت: (الّذين هم على صلاتهم دائمون)؟ قال: هي النافلة) [2]
ولعل الوجه في حمل الآية الثانية على النافلة أنّ ما يقابل الدوام على الصلاة هو ترك بعض الصلوات في بعض الأوقات فلا يمكن أن يكون المراد بها الفريضة لأن تارك الفريضة في بعض الاوقات بحكم الكافر على ما ورد في الاخبار فلا يشمله عنوان المصلين ليحتاج الى قيد لاخراجه. ومن هنا فلا بد من حمل الآية على النافلة مع قطع النظر عن الروايات.
وروى بسند معتبر عن زرارة قال: (دخلت على أبي جعفر عليه السلام وأنا شابّ فوصف لي التطوّع والصوم، فرأى ثقل ذلك في وجهي فقال لي: إنّ هذا ليس كالفريضة من تركها هلك، إنّما هو التطوع إن شغلت عنه أو تركته قضيته، إنّهم كانوا يكرهون أن ترفع أعمالهم يوما تامّا ويوما ناقصا، إنّ الله عزّ وجلّ يقول: "الّذين هم على صلاتهم دائمون" ...) [3]
والرواية الثانية تفسّر الاولى وتكشف لنا السرّ في تخصيص الدوام بالنافلة، حيث قال عليه السلام (انهم كانوا يكرهون أن ترفع أعمالهم يوما تامّا ويوما ناقصا) والضمير يعود الى المصلين المذكورين في الآية الكريمة.
ولعل هذا البيان ناظر الى ما ورد في الروايات من أنّ النوافل تكمل ما نقص من الفرائض، فكانوا يلتزمون بالنوافل ويداومون عليها، حتى لا ترفع فرائضهم يوما تامّا ويوما ناقصا، بل تكون كاملة دائما بجبر النوافل لنواقصها. وهي عدّة روايات:
منها ما رواه الكليني قدس سره بسند صحيح عن محمد بن مسلم قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنّ عمار الساباطي روى عنك رواية قال: وما هي؟ قلت: روى أنّ السنة فريضة، فقال: أين يذهب؟! أين يذهب؟! ليس هكذا حدثته، إنّما قلت له: من صلى فأقبل على صلاته لم يحدّث نفسه فيها أو لم يسه فيها أقبل الله عليه ما أقبل عليها، فربما رفع نصفها أو ربعها أو ثلثها أو خمسها، وإنما اُمرنا بالسنة ليكمل بها ما ذهب من المكتوبة). [4]
ثم إنّ المراد بالمداومة يحتمل أن يكون تقيّد الانسان ــ من دون إلزام على نفسه بنذر وشبهه ــ بشيء من النافلة يستمرّ عليها. وقد ورد في الروايات أنّ قليلا من العبادة تدوم عليه خير من كثير تقطعه.
قال امير المؤمنين عليه السلام على ما في نهج البلاغة (قليل تدوم عليه أرجى من كثير مملول).
وروى الكليني بسند صحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: (أحب الاعمال إلى الله عزوجل ما داوم عليه العبد وإن قل)[5]. وفي الباب احاديث اخرى.
ويحتمل ان يكون المراد المداومة على جميع النوافل اليومية فقد ورد التأكيد عليها بكثرة في روايات الفريقين نقتصر على رواية واحدة رواها المشايخ الثلاثة الكليني والصدوق والطوسي قدس الله أسرارهم عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام (قال: قلت له: أخبرني عن رجل عليه من صلاة النوافل ما لا يدري ما هو من كثرتها كيف يصنع؟ قال: فليصلّ حتّى لا يدري كم صلّى من كثرتها فيكون قد قضى بقدر علمه من ذلك، ثمّ قال: قلت له: فإنّه لا يقدر على القضاء فقال: إن كان شغله في طلب معيشة لا بدّ منها أو حاجة لأخٍ مؤمن فلا شيء عليه وإن كان شغله لجمع الدنيا والتشاغل بها عن الصلاة فعليه القضاء وإلاّ لقي الله وهو مستخفّ متهاون مضيّع لحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلت: فإنّه لا يقدر على القضاء فهل يجزي أن يتصدّق؟ فسكت مليّاً ثمّ قال: فليتصدّق بصدقة قلت: فما يتصدّق؟ قال: بقدر طَوله وأدنى ذلك مدّ لكلّ مسكين مكان كلّ صلاة قلت: وكم الصلاة التي يجب فيها مدّ لكلّ مسكين؟ قال: لكلّ ركعتين من صلاة اللّيل مدّ ولكلّ ركعتين من صلاة النهار مدّ فقلت: لا يقدر فقال: مدّ إذاً لكلّ اربع ركعات من صلاة النهار قلت: لا يقدر، قال: فمدّ إذاً لصلاة اللّيل ومدّ لصلاة النهار، والصلاة أفضل، والصلاة أفضل، والصلاة أفضل).[6]
وبضمّ الروايات الاخرى التي تدل بصراحة على عدم الوجوب يعلم أن التأكيد الوارد في مثل هذه الرواية يقصد به الاهتمام بالنوافل وسوق الناس الى الكمال وليس بمعنى الوجوب شرعا.
وما ورد فيها من قوله عليه السلام (لقي الله وهو مستخفّ متهاون مضيّع لحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..) مورده من لم يمنعه من الصلاة الا الاشتغال بالدنيا فهو متهاون بالصلاة وان كانت مستحبة ولم يعتبره متهاونا بدين الله تعالى بل بحرمة رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم لأنّ النوافل من السنة النبوية.
والذين في أموالهم حقّ معلوم * للسائل والمحروم... هذا من الموارد التي ذكرنا قبل قليل أنّ الله تعالى يذكر الانفاق على الفقراء بعد الصلاة مباشرة.
والتعبير بأنّ في أموالهم حقّا معلوما معيّنا للسائل والمحروم يدلّ على أنّهم يعتبرون اموالهم الشخصية مشتركة بينهم وبين الفقراء، ولا يعتبرون ما يدفعونه للسائل والمحروم صدقة او تبرعا، بل يعتبرون ذلك حقا ثابتا مفروضا عليهم في أموالهم، مع أنّ هذا الحق ليس من الزكاة الواجبة، لأنّ السورة مكيّة والزكاة فرضت في المدينة.
مضافا الى أنّ مصرف الزكاة الواجبة ليس السائل والمحروم بل لها موارد خاصّة مذكورة في قوله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) التوبة: 60. بل لا يجوز دفعها لأيّ سائل الا بعد التأكد من استحقاقه.
وقد ورد ذلك ايضا في عدة من روايات اهل البيت عليهم السلام ننقل بعضها:
ففي رواية سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إن الله عز وجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء فريضة لا يحمدون إلا بأدائها وهي الزكاة بها حقنوا دمائهم وبها سُمّوا مسلمين ولكنّ الله عز وجلّ فرض في أموال الأغنياء حقوقا غير الزكاة فقال عزّ وجلّ: "والذين في أموالهم حقّ معلوم" فالحقّ المعلوم من غير الزكاة وهو شيء يفرضه الرجل على نفسه في ماله يجب عليه أن يفرضه على قدر طاقته وسعة ماله فيؤدّي الذي فرض على نفسه إن شاء في كل يوم وإن شاء في كل جمعة وإن شاء في كل شهر... الحديث).
وفي صحيحة أبي بصير قال: (كنا عند أبي عبدالله عليه السلام ومعنا بعض أصحاب الاموال فذكروا الزكاة فقال أبو عبدالله عليه السلام: إنّ الزكاة ليس يحمد بها صاحبها وإنما هو شيء ظاهر إنّما حقن بها دمه وسمي بها مسلما ولو لم يؤدها لم تقبل له صلاة وإنّ عليكم في أموالكم غير الزكاة فقلت: أصلحك الله وما علينا في أموالنا غير الزكاة؟ فقال: سبحان الله! أما تسمع الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: (والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم) قال: قلت: ماذا الحق المعلوم الذي علينا؟ قال: هو الشيء يعمله الرجل في ماله يعطيه في اليوم أو في الجمعة أو في الشهر قلّ أو كثر غير أنه يدوم عليه...الحديث).
وعن القاسم بن عبد الرحمن الانصاري قال: (سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إنّ رجلا جاء إلى أبي ــ علي بن الحسين عليهما السلام ــ فقال له أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ: (والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم) ما هذا الحق المعلوم؟ فقال له علي بن الحسين عليهما السلام: الحق المعلوم الشيء يخرجه من ماله ليس من الزكاة ولا من الصدقة المفروضتين قال: فاذا لم يكن من الزكاة ولا من الصدقة فما هو؟ فقال : هو الشيء يخرجه الرجل من ماله إن شاء أكثر وإن شاء أقلّ على قدر ما يملك فقال له الرجل: فما يصنع به؟ فقال: يصل به رحما، ويقوّي به ضعيفا، ويحمل به كَلّا، أو يصل به أخا له في الله، أو لنائبة تنوبه. فقال الرجل: الله أعلم حيث يجعل رسالته).[7]
ومن ذكر في الرواية ممن لهم الحق يقصد بهم من يشمله العنوانان الواردان في الآية الكريمة اي السائل والمحروم.
ويبدو من هذه الروايات وجوب هذا الحق بل ربما يظهر ذلك من الآية الكريمة ايضا حيث ان التعبير بكونه حقا للسائل والمحروم يقتضي ذلك ولا شك في الوجوب في ما اذا علم بمحتاج يموت جوعا او مرضا بل لا يبعد الوجوب بصورة مجملة في غير هذه الصورة ايضا بمعنى أنه لا يجوز ترك التصدق نهائيا على المحتاجين للمتمكن ولكنه ليس محددا بمقدار ويلاحظ أن المقدار لم يحدد في الآية وصرح في الروايات بأنه ان شاء أقل وان شاء أكثر حسب قدرته.
والظاهر من الآية المباركة حيث ذكر السائل والمحروم معا أنّ الذي يطلب المساعدة ولا يعلم كونه محروما يدفع له من هذا الحق. وهذا يدل على أنّ السؤال أمارة على الاستحقاق، ولعله مقيّد بعدم العلم بالخلاف.
وأما المحروم فلعل المقابلة مع السائل تدل على أن المراد به كل من يعلم حرمانه واحتياجه وان كان لا يسأل تعففا كما قال تعالى (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا..) البقرة: 274.
ولكن في الروايات أنّ المراد به المحارف وهو ــ بفتح الراء ــ الذي لا يصيب خيرا من وجه توجّه له، كأنّ رزقه حُرِّف وحُوِّل عنه، فلا يصل اليه مع محاولته.
فعن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ: (للسائل والمحروم) قال: (المحروم المحارَف الذي قد حُرم كدَّ يده في الشراء والبيع).
وقال الكليني: وفي رواية اخرى عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام أنهما قالا: (المحروم الرجل الذي ليس بعقله بأس ولم يبسط له في الرزق وهو محارف). [8]
ويظهر من الروايتين أنّ الفرق بين السائل والمحروم أنّ السائل من لا يستطيع الكسب فليس له وسيلة الا السؤال، والمحروم من لا يستطيع رفع حاجته مع محاولته، وبهذا البيان يشمل هذان العنوانان كل المحتاجين.
والذين يصدّقون بيوم الدين... فعل المضارع يدلّ على الاستمرار، فالمراد أنّهم مستمرّون على التصديق. والدين: الجزاء. ويوم الدين يوم القيامة.
والتصديق بيوم الدين ميزة مهمّة جدّا، فإنّ المراد بالتصديق الاعتقاد واليقين، وما أقلّ اليقين بيوم الجزاء؟! فأكثر المؤمنين لو بحثت عن سريرتهم وجدتهم يطيعون الله تعالى احتياطا، ولاحتمال أن يكون هناك بعث وجزاء. وهذا ايضا لا بأس به، فليسوا مكذّبين ليوم الدين، ولعل ذلك ينجيهم من العذاب، ولكن ليسوا داخلين تحت هذا الاستثناء، فينطبق عليهم القانون العام، وهو أن الانسان بطبعه هلوع، يجزع للشر، ويمنع الخير.
وبما ذكرناه يتبيّن أنه لا حاجة الى التأويل الذي ذكره العلامة الطباطبائي قدس سره من أنّ المراد التصديق العملي، حيث رأى أنّ التصديق القلبي لا بد منه في صدق الايمان فلا يكون ميزة لمورد الاستثناء.
والذين هم من عذاب ربّهم مشفقون * إنّ عذاب ربّهم غير مأمون... الاشفاق: الخوف. والآية الثانية تعليل للاولى فهم انما يشفقون من عذابه تعالى لأنّ عذابه غير مأمون.
وهذه ايضا ميزة اخرى فالمتقون الصالحون لا يأمنون عذاب الله مهما كانت أعمالهم صالحة، قال تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) المؤمنون: 60، وهذا الخوف ليس من سوء ظنّهم بالله تعالى، وقد وعد الصالحين بالمغفرة والجنّـة، بل السبب سوء ظنّهم بأنفسهم وبأعمالهم وبنيّـاتهم.
وذلك لأنّ الانسان بصير بنفسه، يعلم كم مضى عليه من أعمال غير صالحة، ويعلم أنّ قصده في كثير من أعماله غير خالصة، ويعلم أنّ المحاسب دقيق، فلو عامله الله تعالى بعدله لم يبق له عمل صالح، فلا خلاص للانسان الا بالمغفرة، ولا يدري هل لديه من حسن النيّة والعمل ما يؤهّله لشمول المغفرة ام لا، فالمؤمن الصالح يبقى دائما بين الخوف والرجاء.
وهذه الآية تمنع من إعجاب الانسان بعمله حتى لو كانت أعماله صالحة، ولكن الغالب على الناس أنهم يأمنون مكر الله مع عدم الصلاح، ولا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون، فترى بعضهم يمنّي نفسه بالنجاة من العذاب لأيّ عمل عمله، وكأنّه يمنّ على الله تعالى بعمله، بل تجد بعضهم يمنّي نفسه بدون عمل فيظنّ أنّ الشفاعة والولاية وتعظيم الشعائر ونحو ذلك تنفعه حتى لو ترك الصلاة وأفسد في الارض!!!
[1] في الكافي ج2 ص105 عن ابي عبدالله ع قال (لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده ، فإن ذلك شئ اعتاده ، فلو تركه استوحش لذلك ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته)
[2] الكافي ج3 ص270
[3] الكافي ج3 ص442
[4] الكافي ج3 ص363
[5] الكافي ج2 ص124
[6] الوسائل ج4 ص75 باب 18 من ابواب اعداد الفرائض ح 2
[7] الكافي ج3 ص499 ح9و10 و11
[8] الكافي ج3 ص500 ح12