مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

والذين هم لفروجهم حافظون... الفرج: الثغرة بين شيئين ويطلق على الفاصل بين الرجلين في الانسان وما بين قوائم الدوابّ ومنه قول الشاعر في وصف فرس: (لها ذنب مثل ذيل العروس * تسدّ به فرجها من دبر) يقصد بذلك أن لها ذيل عريض بحيث يستر كل ما بين قوائمها من فاصل.

وفي كتب اللغة أن الفرج كناية عن العضو التناسلي، وهكذا ورد في التفاسير ولكنّ الظاهر أنّ ما ورد في القرآن الكريم من هذا التعبير يقصد به الفرجة بين الرجلين، وليس خصوص العضو. وهذا التعبير كناية عن اجتناب العلاقة غير الشرعية، فكل ما ورد في القرآن من حفظ الفرج يقصد به ذلك.

ومثل هذا التعبير الكنائي ما يقال في اللغة الفارسية تعبيرا عن اجتناب العلاقات المحرمة وهو (پاكدامنى) فان (دامن) هو الحجر وهو ايضا فرجة بين الرجلين. و(پاك) اي طاهر.

ومهما كان فالمراد بحفظ الفروج الامتناع من المباشرة الجنسية، فهم يحفظون أنفسهم من الانسياق وراء الشهوات التي لا حدود لها في الرغبة الطبيعية، ولذلك نجد بأن المجتمع البشري في هذا العصر بعد أن حرّر نفسه من قيد الدين والاخلاق وقع في مستنقع لا نهاية له، وكلّما فتح بابا للشهوات استتبع ابوابا اخرى لا انتهاء لها، ولا يملّون من تتابعها.

الا على أزواجهم او ما ملكت أيمانهم فإنّهم غير ملومين... الحفظ وما بمعناه يتعدى عادة بـ (من) تقول (حفظك الله من كل سوء) ولكنه هنا ضمن معنى سدّ الباب، كأنّ هذا باب مسدود على الجميع الا على الازواج والاماء، وذلك للمبالغة في الحفظ.

والازواج يطلق على الرجل والمرأة فكل منهما زوج للآخر، بل التعبير بالزوجة لم يرد في القرآن الكريم، وقيل: إنّ الزوج افصح.

وأمّا حلية الاستمتاع بملك اليمين فهو خاص بالرجل، ولا يحل للمرأة الاستمتاع بالعبد، ولكنّ الآية لا تدلّ على الاختصاص. ولذلك حكي أنّ امرأة في عهد عمر استمتعت بعبدها فاُتي بها وادّعت أنّها فهمت العموم من الآية، وأفتى من حوله بدرء الحدّ عنها للجهل.

الا أنّ الأوصاف المذكورة في الآيات ــ اي قوله الا المصلين وما بعده ــ خاصة بحسب اللفظ بالرجال المتقين، وانما يعلم حكم المرأة الصالحة من عدم الفرق بين الذكر والانثى، لقوله تعالى (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى..) آل عمران: 195، ونحوها من الآيات.

والتعبير القرآني يحاول سوق المجتمع البشري الى الطهارة والنزاهة، والابتعاد عن الانسياق وراء الشهوات، فهذا باب لو فتحته فتح منه ألف باب، ولذلك يقلّل من شأنه حتى في المورد المحلل، فإنّهم في ذلك غير ملومين، اي غاية ما يقال فيهم أنهم لا يلامون عليه، فكأنّه في حد ذاته مورد للملامة والتشنيع.

وقد تكرر نفس التعبير ونفس الآيات في أوّل سورة المؤمنون عند عدّ محاسن المؤمنين.

فمن ابتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون... الابتغاء: الطلب. اي من طلب إرضاء شهوته بطريق غير ما ذكر من العلاقة الزوجية وملك اليمين فهو من العادين. والعادي من العدوان وهو الظلم والتجاوز عن الحدّ المحدّد للشيء شرعا. و(وراء) بمعنى غير.

والاتيان بجملة (فاولئك..) في الجواب باعتبار أنّ (من) يأتي في الجمع والمفرد. والتعبير يجمعهم كأنّهم مجموعة واحدة متماسكة في العدوان والظلم تنديدا بطريقتهم.

كما أنّ الاتيان باللام في الخبر اي قوله (العادون) وبضمير الفصل (هم) المفيدين للحصر تأكيد على ذلك، فكأنّهم هم العادون فحسب، تشديدا على هذا العدوان الذي يستخف به المجتمع البشري، خصوصا في هذا العصر بدعوى حماية الحرية الشخصية.

والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون... الأمانة في الاصل مصدر بمعنى سكون القلب، ويراد بها المعنى المعروف وهو ضد الخيانة. وتطلق ايضا على ما يؤتمن عند أحد من مال او سرّ ونحوهما وهو المراد هنا.

والعهد مصدر ايضا، والاصل فيه الحفاظ على الشيء. ويطلق على ما ينبغي ان يحفظ. وغلب استعماله في المواثيق والالتزامات.

و(راعون) جمع راعي اي الحافظ. ومن هنا يطلق على من يحفظ قطيع الغنم. والمقصود هنا توصيف المؤمن بمحافظته على الامانات المودعة لديه، وما التزم على نفسه من عهود.

وذكر هذا الوصف للتأكيد على أنّ المؤمن الذي استثني من الانسان الهلوع يجب أن يتصف به، وليس معناه أنّهم غالبا او دائما يحملون هذا الوصف، ولا يراد نفيه عن غيرهم ايضا، بل يلاحظ قديما وحديثا أنّ في الكفار من هو أوثق من كثير من المؤمنين، ولو كان ذلك لمصالحهم في الدنيا، او لحسن التربية، او لعوامل وراثية ونحوها.       

واذا عمّمنا الامانة لتشمل ما كلّف الله تعالى به الانسان، كما ذكروا في تفسير قوله تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..) الاحزاب: 72 اختصّت رعايتها بالمؤمن، كما أنّ العهد قد يقصد به العهد الالهي الذي عهد به الى الانسان، كما قال تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ..) يس: 60.  ورعاية هذا العهد تخص المؤمنين، بل الخواصّ منهم فحسب.  

ولعله انما جمع الامانات دون العهد لاختلاف موارد الأمانات فهي تشمل الاموال والنفوس والاعراض والاسرار وغيرها واما العهد فهو نوع واحد. وبناءا على ما ذكرناه آنفا من احتمال شمول الامانات للتكاليف وأن المراد بالعهد عهد الله تعالى فالوجه في إفراد العهد وجمع الامانات واضح.

ويلاحظ في هذا الباب ما ورد في عدة من الروايات في الكافي وغيره من تطبيق قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا..) النساء: 58 على أداء كل إمام ما استودعه الامام الذي قبله من ودائع الامامة الى الامام الذي بعده فيستفاد منها ان الامانات في هذه الآية تشمل ودائع الامامة ايضا.

منها ما رواه في الكافي بسنده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه السلام في قول الله عز وجل: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" قال: (هم الأئمة يؤدي الامام إلى الامام من بعده، ولا يخص بها غيره ولا يُزويها عنه). [1]

وفي بعضها أنه يؤدي الامام الى الامام الذي بعده الكتب والعلم والسلاح. وفي بعضها الوصية والامامة، وفي بعضها كل شيء عنده.

والذين هم بشهاداتهم قائمون... الشهادة مصدر بمعنى الحضور والعلم والاعلام. وفي مصطلح الشرع والعرف والقضاء لها معنى معروف. ولها شروط مذكورة في الفقه والقانون. والقيام بالشهادة بمعنى إقامتها اي جعلها قائمة على اصولها. ومعنى ذلك أداؤها حق الأداء من دون حذف او زيادة، ومن دون تسامح في اظهار الرؤية فان الشهادة لا تجوز الا في ما رآه الشاهد وربما يشهد الانسان بموجب علمه بالامر وان لم يستند الى رؤية تسامحا في الأداء وهذا غير جائز. وقد قال تعالى: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ...) الطلاق: 2.

ويلاحظ أنّ للشهادة مرحلتين: مرحلة التحمّل حيث يدعى للحضور والمشاهدة، ومرحلة الأداء حيث يحضر الشاهد امام الحاكم الشرعي للإدلاء بشهادته. وإقامة الشهادة تتجلى في مرحلة الأداء لا التحمل، فلا يصحّ ما ورد في الميزان حيث قال (إنّ القيام بالشهادة عدم الاستنكاف عن تحمّلها وأداء ما تحمّل منها كما تحمّل من غير كتمان ولا تغيير). وذلك لأنّ التحمّل غير واجب، بل ربما لا يكون في أكثر الموارد مطلوبا.

وهناك بحث في الفقه في وجوب الأداء وكونه كفائيا أو عينيا وعدم وجوب التحمل الا في موارد خاصّة يقتضيه العنوان الثانوي.

ومهما كان فالمراد بالآية الكريمة التأكيد على أنّ من خصائص المؤمنين الدقّة في أداء الشهادة. وفيه تنبيه على لزوم عدم التسامح في هذا الامر الخطير الذي تتوقف عليه إقامة العدل في المجتمع، فلا يجوز الإدلاء بالشهادة الا بما رآه الانسان باُمّ عينه. ونحن نجد كثيرا من الناس يشهدون على أساس الاعتماد على كلام صاحبهم الذي طلب منهم الشهادة، بل ربّما استجاب بعضهم لطلبه من دون يقين، بل حتى مع اليقين بالخلاف. وهذا إثم عظيم.

والذين هم على صلاتهم يحافظون... عود الى التأكيد على الاهتمام بالصلاة فهو الفاصل الاول والأخير بين المؤمن والكافر. وقد مرّ ذكر الرواية التي تدلّ على أنّ المراد بهذه الآية الفرائض، وان كان مورد الرواية آية سورة المؤمنون (والذين هم على صلواتهم يحافظون) الا أنّ الظاهر عدم الفرق من جهة الجمع والافراد، وانما الفرق من جهة الدوام والمحافظة، كما أشرنا اليه في تفسير الآية السابقة.

والمراد بالمحافظة على الصلاة الحفاظ على شروط الصحة والكمال، من الوقت والقبلة والطهارة والتوجه والطمأنينة ونحو ذلك. والاتيان بالمضارع يدل على الاستمرار.

والمحافظة على الصلاة ربما تكون أهم من الصلاة بذاتها. وكثير من المصلين يغفلون عن ذلك ويتوهمون أنّ الصلاة بذاتها تنفعهم وتنجيهم، مع أنّ الصلاة ربما تكون بنفسها اثما عظيما. قال تعالى (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ) الماعون: 4-6، فالرياء في الصلاة ليس مبطلا لها فحسب، بل يستوجب تبدلها الى إثم كبير يستوجب العقاب والويل.

ويظهر من الآيات أنّ السهو عن الصلاة ايضا كذلك، وليس المراد به السهو في الصلاة، بل السهو عنها، ويتحقق بعدم الاهتمام بها من حيث الشروط والأجزاء.

وربما يفسّر بترك بعض الصلوات. وورد في بعض الروايات المرسلة ايضا.

ولكنه بعيد فإنّه ورد وصفا للمصلّين، وظاهره أنّه ممّا يوصف به المصلّي حين صلاته، لا أنّه وصف له باعتبار حال الترك.

وفي صحيحة زرارة عن ابي جعفر عليه السلام (بينا رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلّم جالس في المسجد اذ دخل رجل فقام فصلى فلم يتمّ ركوعه ولا سجوده فقال صلى اللّه عليه وآله وسلّم: نقر كنقر الغراب لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتنّ على غير ديني) [2]

ويلاحظ أنّ السياق ابتدأ في توصيف المصلين المستثنين من كون الانسان هلوعا جزوعا باهتمامهم بالصلاة، وانتهى ايضا به. وكذلك في سورة المؤمنون. وستأتي الاشارة الى وجه اختيار التعبير بالمصلين هنا بدلا عن المؤمنين كما في سورة المؤمنون.

اولئك في جنّات مكرمون... اي اولئك الموصوفون بهذه الصفات، ومن أجل هذا الاتصاف يسكنون في جنات، وهم في نفس الوقت مكرمون.

والاكرام اعتبار الشيء كريما، والكريم: الشيء النفيس القيّم، فاذا عظّمت أحدا واحترمته فقد اعتبرته كريما قيّما. وإكرامه تعالى للمؤمنين يوم القيامة ليس كالإكرام في الدنيا، اي اعتبار احد شريفا، بل هو إعطاؤهم الشرف والكرامة بالذات.

 


[1]  الكافي ج1 ص277

[2] الكافي ج3 ص268