مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

يوم تكون السماء كالمهل * وتكون الجبال كالعهن... المهل ــ كما قالوا ــ النحاس المذاب. وقيل: درديّ الزيت، اي ما يترسّب من زوائده في الاناء. وقيل: هو الزيت. ومهما كان فهذا تشبيه بأحد هذه الامور، ولا يختلف التشبيه من حيث المعنى. فالمراد أنّ السماء تكون في ذلك اليوم كالزيت او كالنحاس المذاب. ومثله قوله تعالى (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ) الرحمن: 37.

وقوله (يوم) ظرف لوقوع العذاب الموعود. والاولى أن يكون متعلقا لمحذوف معطوف على قوله قريبا، بناءا على ما مرّ من كون الضمير يعود الى العذاب، فالمعنى ونرى العذاب قريبا واقعا في يوم تكون السماء فيه كالمهل. وقيل: انه متعلق بـ (واقع). وقيل بوجوه اخر بعيدة.

والعهن بمعنى الصوف الليّن. والعهن في الاصل بمعنى اللين والسهولة. ومنه قولهم (يلقي الكلام على عواهنه) اي يتساهل في ما يقول فلا يتكلم عن تثبت ويقين او لا يبالي بما يقول. وبذلك أتى وصف العهن في قوله تعالى (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) القارعة: 5. فان النفش بمعنى الندف والمدّ. اي الصوف اللين المندوف.

وأما ما قيل من أنّ المراد بالعهن الصوف الملوّن، وأنّه إنّما وصفت به الجبال بعد نسفها من جهة أنّها في الاصل متلوّنة، كما قال تعالى (وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا..) فاطر: 27، فغير صحيح، وإنّما يقال للصوف الملوّن عهن لأنّ اللون يليّنها.

هذا مضافا الى أن توصيف حال الجبال يوم القيامة بانها ملونة تبعا لالوانها في الدنيا لا وجه له في مقام التهويل بما يحدث في ذلك اليوم او في مقام بيان خصائصه لأنه ليس امرا حادثا في ذلك اليوم ولا من آثاره ولا يثير هذا التلون خوفا وحذرا من تلك النشأة بل بالعكس يدل هذا التوصيف على بقاء خصائص الدنيا هناك حتى ألوان الجبال.

وأمّا السماء فقد فُسّرت بالاجرام الفلكية. وقيل: المراد بها الغلاف الجوّيّ الازرق. وكلّ ذلك يقتضي أن تكون الآية كناية عن زوال النظام الكوني، واستبداله بنظام آخر.

وعلى هذا التفسير فالمراد بكون الجبال كالصوف اللين المنفوش ايضا زوال هذه الارض بما عليها، ومنها الجبال، ولا خصوصية لها.

ولكنه ينافي ما عطف على كون السماء كالمهل والجبال كالعهن من أنه لا يسأل حميم حميما فان ذلك من خصائص يوم القيامة لا يوم زوال هذا النظام. كما ينافي كون هذا اليوم ظرفا للعذاب.

ويحتمل قويا أن لا يكون المراد بالسماء الاجرام الفلكية، بل المراد عالم الملائكة. وكذلك السماء في سورة الرحمن. وقد مرّ بعض الكلام حول ذلك في تفسير قوله تعالى (وانشقت السماء فهي يومئذ واهية) الحاقة: 16، وقلنا بأنّ الظاهر أنّ المراد ليس زوال السماء بمعنى الاجرام الفلكية التي تنهدم وتتبدل الى نشأة اخرى، لأنّ الآية تدلّ على بقاء السماء واهية، وفي سورة الرحمن تبقى السماء وردة كالدهان.

فهذه الآيات يفسرها قوله تعالى (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا) الفرقان: 25-26، حيث تدلّ على أنّ تشقّق السماء ليس بمعنى انهدامها، بل تتشقّق بالغمام، اي تتفتّح السماء عن الغمام الذي يستر الملائكة عن الانسان، فالجملة التالية تفسّر هذا التشقق، والعطف للتفسير.

ومعنى نزول الملائكة ليس انحدارا عن موضع مرتفع، بل معناه الخروج عن عالم التمنّع والرفعة الى عالم الانسان، فيخالطونهم ويرونهم، ويتحدثون معهم.

ولعلّ التعبير من باب الضرورة، لعدم درك الانسان حقيقة ما يحدث في تلك النشأة، فلعل الأمر بالعكس، وهو صعود الانسان وتحوّله الى موجود علوي يتمكن من رؤية الملائكة والتحدث معهم، والنتيجة واحدة، اذ ليس هناك في الواقع صعود ولا نزول، وليس هناك تشقّق مادّي، بل الذي يتحقق هو ارتفاع الغمّة وانكشاف الحجاب، كما قال تعالى (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ق: 22.

ورؤية الملائكة لا تبشّر بخير للكافرين والمجرمين، قال تعالى (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ) الفرقان: 22.

وعلى هذا فالمراد بكون الجبال كالعهن ايضا ليس انهدام هذه الجبال، فانها ليست بشيء يوم ينهدم كل هذا الكون، وكل هذه المجرات الهائلة، وانما هو تعبير ــ كما قلنا في تفسير سورة الحاقة ــ عن عدم إمكان التستّر ذلك اليوم، فكل ما في الانسان مكشوف، كما قال تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا) طه: 105-108.

والمراد بهذا اليوم يوم القيامة لا يوم انهدام الارض، بقرينة قوله تعالى (يومئذ يتبعون الداعي..) وبين اليومين فاصل لا يعلمه الا الله تعالى.

قال تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) الزمر: 68.

ويلاحظ أنّ انعكاس التعبير الذي احتملناه في نزول الملائكة متحقق في هذا المقام ايضا، فإنّ التعبير بنسف الجبال وكون الارض قاعا صفصفا ليس فيها التواءات وتعاريج، بل ليست كروية كما قال تعالى (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) الانشقاق: 3، اذا اريد به عدم وجود الساتر وانكشاف كل شيء، كما قال تعالى (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ..) غافر: 16، فإنّ التعبير يكون معاكسا ايضا للواقع، فإنّ الواقع أنّ الانسان يتحوّل ويكشف عنه الغطاء.

والتعبير عن الشيء بما يلازمه في الجانب الآخر ليس بعزيز في باب الكنايات والاشارات. فاذا قيل (زيد كثير الرماد) فان الصدق والكذب في الجملة يتبعان حدود كرمه، ولا علاقة لهما بوجود الرماد وعدمه.

والقرآن الكريم مليء بالكنايات والاستعارات. والسبب بُعد الانسان عن حقائق تلك النشأة وعدم إدراكه لها على حقيقتها، بل عدم تمكّنه من إدراكها غالبا.

ولا يسأل حميم حميما... الحميم القريب اوالصديق المشفق الذي تودّه ويودّك، ويحتدّ حماية لك. وهو مأخوذ من الحُمّة بمعنى الحرارة. ومنه الحميم: الماء الحارّ.

والمراد أنّ الحميم لا يسأل حميمه عن حاله. وذلك لأنّ شدّة الموقف تلهي الانسان عن أقرب أقربائه وأصدقائه، فلا يهتمّ بمصيرهم. وهذا بالنسبة لأهل النار، وأما المتّـقون فإخوان على سرر متقابلين.

يبصّرونهم... جملة استينافية تبيّن حالهم، اي يُبصَّر الناسُ أقرباءَهم وأصدقاءَهم، وهو من التبصير اي الإراءة، فهم أمامهم وليسوا بعيدين عنهم، ومع ذلك لا يسألون عن حالهم. وفاعل التبصير هو الله تعالى او الملائكة، او المراد أنّ الحالة هناك تقتضي أنّهم يرونهم ولا يغيبون عنهم حيث لا حجاب ولا غطاء.  

ولم يقل (يُبصِرونهم) اي يرونهم، بل أتى بالفعل المتعدي الى مفعولين، للاشارة الى أنّ هناك اهتماما بإراءتهم إيّاهم، فليست الرؤية من باب الصدفة والاتفاق، بل يتعلق بها الغرض.

ولعل الغرض هو أن يتجلّى ويتبيّن نتيجة كل ما كان في هذه الحياة، فإنّ ما هناك انعكاس لما هنا. وحيث كانت الصداقات والقرابات بينهم في هذه الحياة ناشئة من شؤون مادّيّـة غير متأصّلة في الكون لزم أن يتبيّن هناك حقيقة الأمر، وأنّ هذه العلائق جوفاء.

وإنّما تتأصّل العلاقات المنتهية الى حبّه تعالى، فمن كان يحبّ قوما في الله يجدهم هناك، ويجد العلاقات الحميمة باقية، بل متطوّرة الى أقوى علاقة، بل يزيل الله تعالى ما في قلوبهم وصدورهم من غلّ وحقد وحسد، ممّا كان ينغّص العيش عليهم هنا، ويكدّر صفو العلاقات والمودّات، فيكونون بعد ذلك إخوانا متقابلين. قال تعالى (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) الحجر: 47.   

يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤويه * ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه... (يودّ) أي يتمنّى. والإجرام مأخوذ من جرم اي قطع وحمله على اكتساب الاثم ــ كما قالوا ــ بعيد بل الظاهر أنه لا يطلق الا على من يرتكب العظائم فان اطلق في العرف فمعناه أنه قطع الصلة بينه وبين مجتمعه، ولذلك لا يطلق المجرم على كل من يخالف القانون، بل على من يرتكب أمرا عظيما فظيعا. وان اطلق في الشرع فمعناه أنه قطع الصلة بينه وبين ربّه.

ويبعد إطلاق المجرم في القرآن على العصاة من المؤمنين كما يظهر من بعض عباراتهم، بل المراد الكافر والمشرك، او من توغّل في المعاصي فلا ترجى له عودة. 

و(لو) مصدرية اي يودّ الافتداء ببنيه. والافتداء: انقاذ النفس بدفع عوض. والصاحبة: الزوجة. والفصيلة: الأقربون من القبيلة، ويشمل هذا العنوان الابوين. و(تؤويه) اي تضمّه اليها وتحوطه وتحفظه. والصفة باعتبار زمان الخطاب لا زمان الافتداء، فانّ القبيلة والأهل والأولاد والأموال لا تنفع شيئا هناك، فالمراد الفصيلة التي تؤويه في الحياة الدنيا.

وأخيرا يفتدي بكلّ من في الارض. والغرض من ذلك بيان أنّه لا حدود للافتداء، والا فمن في الارض ليسوا أقرب اليه من بنيه واخيه واهله.

وفاعل (ينجيه) الافتداء. اي يضحّي بكلّ شيء، ممّا يقدر عليه وما لا يقدر، حتى يتوصل الى النجاة من العذاب.

ويقصد بهذا البيان تفهيم الانسان مدى شدّة العذاب، وأنّه فوق ما يتصوّره، فالانسان في هذه الحياة يضحّي بكلّ ما يملك حتى بنفسه في سبيل أهله وأولاده، فكيف يتحوّل هناك الى هذه الدرجة من الأنانيّة، بحيث يضحّي بكل ما كان عزيزا لديه، بل بما هو أعزّ عليه من نفسه في سبيل إنقاذ نفسه من العذاب؟!

هل هذه أنانيّة؟ أم أنّها نتيجة انكشاف الحقائق حيث يتبيّن له أنّ هناك امورا ما كان يعرفها في هذه الحياة؟ فالتضحية هنا كانت ــ على أقصى تقدير ــ بالروح، فلو كان يؤمن بالآخرة فإنّه لا يعتبر ذلك خسارة عظيمة ويتوقع التدارك في تلك الحياة وان كان لا يؤمن بها فلا يهتمّ بهذه الحياة ايضا في قبال سعادة أحبّـته، وربّما كان الموت على منكر الآخرة أهون منه على غيره.

ولكن ما هو الأمر الذي ينكشف له هناك فلا يهتمّ بأيّ شيء في مقابلته؟

الآيات التالية تبيّن ما يراه المجرم هناك فيصغر عنده الموت وأهواله.

كلا إنّها لظى... (كلا) أداة ردع وتنبيه، اي ليس كما توهّمت فليس هنا افتداء ولا نجاة. والضمير في (إنّها) ضمير القصة يعني إنّ ما تواجهه ليس الا لظى. ويمكن أن يعود الضمير الى النار المعلومة من العذاب الذي يحاول المجرم أن يفتدي منه. والاول اولى.

و(لظى) اسم لجهنّم وأصله من التلظّي والاشتعال، وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث.

نزّاعة للشّوى... قرئت بالرفع فتكون خبرا بعد خبر، واما بالنصب فتكون حالا. والشوى: الأطراف اي اليدان والرجلان. وقيل: جلدة الرأس. و(نزّاعة) صيغة المبالغة من النزع فالمعنى أنّ النار لشدّة اشتعالها تنزع الاطراف وتخلعها بشدّة.

تدعو من أدبر وتولى * وجمع فأوعى... جملة وصفية تصف جهنّم بأنّها تدعو المجرمين. ولا يلزم أن تكون الدعوة بصوت يخرج منها، او من الملائكة الموكلين عليها ــ كما قالوا ــ فإنّ هذا تعبير عن إعدادها لهذا الصنف من الناس فكأنّها تدعوهم. والغرض التأكيد على أنها مصيرهم المحتوم ولا مفرّ لهم منه.

والإدبار جعل الشيء في دُبُره اي خلف ظهره. والتولّي في الاصل بمعنى المتابعة وكون الشيء بعد شيء آخر، ولكنّه اذا عُدّي بـ (عن) أفاد الاعراض باعتبار أنه يفيد عكس معنى المتابعة ولا بدّ من تقدير (عن) هنا، وعليه فالتولّي ليس بمعنى الإدبار ليكون تكرارا، بل فيه معنى الاعراض. والادبار لا يلازم هذا الامر. والغرض أنّ النار تدعو اليها من أعرض عن الحق ورسالات السماء في الدنيا.

وميزتهم الثانية جمع المال وكنزه، وعدم إنفاقه في الوجوه التي أمر الله تعالى بالانفاق فيها، كمساعدة الفقراء. وقد تكرر في الكتاب العزيز ضمّ البخل وعدم دفع الزكاة الى الشرك والكفر والاعراض عن الحق، كما تكرر كثيرا ذكر الزكاة بعد الصلاة، ومنها ما ورد في نفس هذه السورة كما سيأتي البحث حوله ان شاء الله.

ولعل الوجه فيه الاشارة الى أن استحقاق النار يتبع سببين: الاعراض عن الحق وترك متابعة الهدى، والامر الثاني الإجرام في المجتمع البشري. كما أنّ المناط في استحقاق ثواب الله تعالى التوجه اليه بالعبادة ومساعدة خلقه بالزكاة.

و(أوعى) بمعنى جعله في وعاء، وهو كناية عن الاحتفاظ بالمال، فالجمع اذا كان مع المنع كان جريمة. ومثله قوله تعالى (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ) الهمزة: 2، بناءا على أنّ العدّ كناية عن المنع لأنه يدل على شدة شغفه به.