مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة المدّثّر سورة مكّيّة ومضامينها التي تناسب أجواء مكة تشهد بذلك. وقد قيل فيها إنها أوّل سورة نزلت، وقيل نزلت بعد سورة العلق، وقيل بعد الفاتحة، وقيل بعد سورة المزّمّل. ووردت عن طرق القوم روايات مختلفة بهذا الشأن وسنذكر بعضها ان شاء الله تعالى. ولم يرد عن طرقنا شيء في ذلك.

ولكن – وكما مر في سورة المزمل – لا يمكن أن تكون السورة بأجمعها من أوائل ما نزل من القرآن حيث إن هذه السورة تتعرض ايضا للردّ على أقوال المشركين ومنها ما كانوا يتهمون به الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ويصفونه بالساحر والشاعر وهذا لم يتحقق الا بعد إعلان الدعوة ومواجهة المشركين بل ربما يبدو أنّ الغرض الاساس من السورة هو التهجم على هذا المكذّب الذي يقال انه الوليد بن المغيرة في قوله تعالى (ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا).

وظاهر سياق الآيات انها نزلت مترتّبة فمن البعيد ما يقال إنّ الآيات الاولى فقط نزلت في بدو البعثة بل سيأتي أنّ نفس الخطاب بالمدّثّر ايضا يقتضي تأخّر نزول السورة. والمتبع في معرفة تاريخ النزول كما قلنا في تفسير سورة المزمل هو ملاحظة مضامين الآيات وما تقتضيه دون الرجوع الى روايات القوم فهي في الغالب متعارضة ومتناقضة وضعيفة في حدّ ذاتها فلا يعتمد على شيء منها بل الوضع واضح في كثير منها كما سيأتي التعرّض لبعضها في تفسير سورة العلق ان شاء الله تعالى.

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ... المدّثّر في الاصل: المتدثر اُدغمت التاء في الدال. والتدثر لبس الدثار وهو ما يُلبس فوق سائر الثياب وخلافه الشعار اي ما يلبس على الجسم مباشرة ومنه الحديث المروي في كتب القوم (الأنصار شعار والناس دثار)[1] عبّر بذلك – بناءا على صحة الحديث – للدلالة على اختصاصهم به صلى اللّه عليه وآله وسلّم. ومثله التعبير عن الخواصّ بالبطانة وهي في الاصل الثوب الباطن خلاف الظهارة.

والخطاب للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وكما وقع الاختلاف في وجه الخطاب بالمزّمّل في السورة السابقة وقع الاختلاف هنا ايضا، فقيل: إنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان متدثرا بثوبه للنوم او غيره فخوطب بالصفة التي كان عليها. ومقتضى ذلك انه لا خصوصية لهذه الصفة وهو بعيد خصوصا بملاحظة تكرار الوصف في السورتين كما مر بيانه.

ويلاحظ ايضا أنه لم يعهد في ما وجّهه الله تعالى من خطاب الى الرسل او الى رسولنا صلى اللّه عليه وآله وسلّم خاصة التعبير عنه بالحالة التي هو عليها من دون دخل لها في الخطاب فلم نجد ولم نسمع أنه تعالى خاطب احدهم يا راكب البعير مثلا او يا ايها النائم ونحو ذلك. وقيل: المراد تلبسه بالنبوة. وهو بعيد جدا وتعبير غير مناسب. وقيل: انه كناية عن اعتزاله صلى اللّه عليه وآله وسلّم في غار حراء وهو كسابقه.

والاقرب هو الاحتمال الذي قويناه في سورة المزمل ايضا وهو أنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم تدثّر او تزمّل بثوبه متأثرا من ايذاء المشركين كما يأتي ذكره في السورة فخوطب بذلك او انه كناية عن التأثر وان لم يتدثّر واقعا وأنّ فيه حثّا على عدم الاهتمام بكلامهم ولذلك عقّبه بالامر بالقيام كما عقّبه به في سورة المزّمّل ايضا وان اختلف متعلق القيام فاُمر صلى اللّه عليه وآله وسلّم هناك بالقيام ليلا لتقوية العزيمة واُمر هنا بالقيام بالانذار.

وكما قلنا فان هذا الامر يمنع من القول بأن الآيات الاولى من السورة نزلت في مبدأ البعثة كما يقال لان إيذاء المشركين لم يكن في اول البعثة بل بعد الامر بإنذار الاقربين.

قُمْ فَأَنْذِرْ... اي اترك الانزواء والانطواء على النفس والتدثّر بالثوب وقم فأدّ واجبك الرسالي وهو الانذار. فالرسول سمته الاصلية هي الانذار وان كان مبشّرا ايضا بل وهاديا وسراجا منيرا وسيدا مطاعا باذن الله تعالى ولكن تبقى سمته الخاصة الانذار وذلك لأهمية الخطر المترقّب والذي يغفل عنه الانسان بطبعه، فالانذار مبدأ الرسالة. ولم يذكر مفعول الانذار لأنه لا يختص بقوم ولا بزمان ومكان بل هو رسول الى البشرية فالانذار يعمّ البشر باجمعهم بل يعم الجن والانس.

ومن المؤسف أنّ بعض من يدّعون الايمان برسالة السماء وهم النصارى أهملوا جانب الانذار في الرسالة نهائيا وتمسكوا بالجانب التبشيري بل طوّروه وأفرطوا فيه بحيث لم يبق لرسالة السماء دور في قيادة الانسان وتربيته اذ لم يعد هناك داع لمتابعة شريعة السماء بل تعتبر دعوى تشريع القانون من الله تعالى موضع استهزاء لديهم وانما المطلوب من الانسان أن يؤمن بالله وبأن السيد المسيح عليه السلام جاء وبعث ليقتل ويكون قتله سببا لإنقاذ أتباعه من نار جهنم مهما توغّلوا في المعاصي والمنكرات.  

وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ... وتأتي عبادة الله تعالى وتعظيمه في مقدمة الشريعة وبعد الإنذار مباشرة فالخطر المنذَر به لا يرتفع الا بالعمل بالشريعة وأول ما يطلب فيها من الانسان هو عبادة الله تعالى وتعظيمه وتكبيره وتنزيهه وترك عبادة غيره مهما كان.

ولم يقل والله فكبر او وخالقك او ورب العالمين ونحو ذلك بل ربك فكبر وفي هذا اشارة الى العلة كما يقال (تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية) اي كبره لانه الذي يصلح شأنك او لانه الذي رباك واوصلك الى هذه المرحلة من الكمال جسما وروحا فاستحققت الرسالة وتلقي الوحي ففي هذا التكبير شكر لما أنعم الله عليك والامر لا يختص بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بل على كل انسان أن يعبد ربه شكرا لأنعمه فنعمه تعالى لا تُحدّ ولا تحصر (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا..).[2]

ومن هنا تعود فائدة العبادة والتكبير اليك فالله تعالى غني عن عبادتك وانما تكبره لانه رباك وأنعم عليك وهذا الشكر ينفعك ايضا فهو بنفسه نعمة عظيمة لا اقصد بذلك انه ينفعك يوم القيامة لانه عمل صالح فهو واضح ولا اقصد انه يجلب نعما اخرى من الله تعالى كما قال (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ..)[3] بل اقصد ان الشكر بنفسه نعمة لانه يحكي عن رضا الانسان بما آل اليه امره فهو ينظر الى نعم الله تعالى عليه ويعتزّ بها وهي كثيرة بالرغم من انه ربما يعاني من نقائص طبيعية او من فعل نفسه او غيره ولكنه مع ذلك شاكر لما يتنعم به فهو سعيد بتمام معنى الكلمة والسعادة ليست بالرفاه بل بالرضا.

ويقابله تماما من يكفر بالنعم فهو يشعر دائما بالضيق حتى لو كان متنعما نسبيا قال تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا..)[4] لانه غير مقتنع بما لديه ومن هنا نجد التقارير عن ارتفاع نسبة الانتحار في البلاد التي تشيع فيها فكرة الإلحاد.

ثم إن الوجه في تقديم قوله (وربك) على الفعل مع أن حقه التأخير يمكن أن يكون رعاية السجع في الآيات فان الجانب الجمالي في التعبير القرآني مقصود قطعا ومع ذلك فان تقديمه يفيد الحصر ايضا اي لا تكبّر غيره.

وهذا الجانب السلبي المستفاد من الآية امر مهم ايضا وخصوصا اذا كانت الآيات نزلت في أوائل الرسالة حيث تحدّد مسار الدين فإنّ أول أمر يدعى اليه هو نبذ تعظيم غيره تعالى سواء كان صنما كما كان عليه العرب حين نزول الآية او طبيعة كالشمس والقمر والنجوم ونحو ذلك او الانسان بنوعه كما هو الحال في الحضارة البشرية المعاصرة او اشخاصا من البشر يتحكمون في مصير المجتمعات البشرية ويُذلّون الانسان ويستعبدونه ويجبرونه على الطاعة العمياء سواء قبل نزول الشريعة او بعدها بل تحت مظلة الشريعة ايضا كما كان يدعو اليه انصار الخلافة الاسلامية سابقا وانصار الولاية المطلقة لولي الامر حاليا.

فكل ذلك منهي عنه في الشريعة وكل من يطيعه الانسان لانه اختاره وانتخبه او فرض على نفسه اطاعته فهو صنم ولا يجوز للانسان ان يعظّم ويكبّر او يعبد ويطيع الا الله تعالى.

ولا فرق في ذلك بين آحاد البشر الا من ولاه الله تعالى عليهم وهو الرسول ومن عيّنه الرسول وليا بعده كما لا ميزة لاحد على احد الا بالتقرب الى الله تعالى والكرامة لديه.  

والتكبير امر انشائي كما هو واضح وليس امرا واقعيا فالذي نكبّره ونعظّمه مهما كان لا يكبر بتكبيرنا ولا يصغر باحتقارنا وانما ننشئ التكبير والتعظيم كما ننشئ التمني والترجي والعقود والايقاعات، وليس معنى التكبير الاعتقاد بالكبر فحسب كما في بعض التعابير بل هو ايجاد لامر اعتباري وكذلك التسبيح والحمد.

انما الكلام في معنى التكبير وهو قولنا (الله اكبر) اذ لا بد من تقدير فهو تعالى اكبر من ماذا؟ والمعروف في ذلك ان التقدير في الجملة (من كل شيء) فالمعنى انه تعالى أكبر من كل شيء او من كل ما نتصوره من أشياء مهما عظمت وجلّت ولا يقصد بالطبع الكبر في الحجم فهو تعالى ليس جسما ولا يقاس بالاجسام فالمراد بالكبر العظمة وجلالة الشأن.

ولكن في بعض روايات أئمة اهل البيت عليهم السلام أنّ ذلك يوجب تحديدا له تعالى ولا يصح وانما التقدير انه تعالى اكبر من ان يوصف.

روى الكليني قدس سره مرسلا عن ابي عبد الله عليه السلام قال (قال رجل عنده: الله أكبر فقال: الله أكبر من أي شيء؟ فقال: من كل شيء فقال أبو عبد الله عليه السلام: حدّدته فقال الرجل: كيف أقول؟ قال: قل الله أكبر من أن يوصف).

وروى ايضا عن جميع بن عمير قال (قال أبو عبد الله عليه السلام أي شيء الله أكبر؟ فقلت الله أكبر من كل شيء فقال وكان ثَمَّ شيء فيكون أكبر منه؟ فقلت وما هو؟ قال الله أكبر من أن يوصف).[5]

والسؤال هنا أنّ التقدير اذا كان (من كل شيء) كيف يكون تحديدا له تعالى ومعنى التحديد اعتبار حدّ له والمفروض أنّ الكبر لا يراد به كبر الحجم ليكون تحديدا بل العظمة والجلال فاين هو التحديد؟

ويمكن ان يقال في الجواب أنك اذا قلت انه تعالى أعظم من كل شيء فإنك لم تنشئ عظمة غير محدودة له بل أنشأت عظمة محدودة بكونه تعالى أكبر من كل شيء فانه يصدق مع كونه أكبر من كل شيء بمقدار يسير مع أن عظمته لا حدود لها فليس المراد من كلام الامام عليه السلام أن التكبير بهذا التقدير يستلزم تحديدا لذاته تعالى بل هو تكبير محدود وليس هذا هو المراد من التكبير فلا بد من تقدير انه اكبر من ان يوصف.

ولذلك قال عليه السلام في الحديث الثاني بطريق الانكار انه ليس هناك شيء ليكون الله تعالى اكبر منه بمعنى ان عظمته تعالى لا تقاس بشيء حتى يقال انه اكبر منه حتى لوقلنا بان المراد من الشيء كل ما يتصور لا الموجودات بالفعل.

قال العلامة الطباطبائي قدس سره في تفسير قوله تعالى (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا)[6] (فسر «الله أكبر» بأنه أكبر من أن يوصف على ما ورد عن الصادق عليه السلام ولو كان المعنى أنه أكبر من كل شي‏ء لم يخل من إشراك الأشياء به تعالى في معنى الكبر وهو أعزّ ساحة أن يشاركه شي‏ء في أمر).

ويمكن أن يكون للحديث بالنقل الثاني معنى أدقّ وهو أنّه ليس هناك شيء يقابَل به الله تعالى فكل الاشياء متعلقة في كيانها ووجودها به تعالى فإنّ نسبة الاشياء اليه تعالى ليست نسبة المصنوع الى الصانع فحسب بل هي في كينونتها وبقائها مرتبطة بارادته تعالى بنحو من الارتباط لا يمكن فهمه وادراكه فوجود المخلوق ليس قائما بذاته بل هو قائم به تعالى فلا يمكن مقارنة الاشياء به ولو بالتعبير بأنّه تعالى اكبر منها.

ومهما كان فحاصل هذا التقدير اي كونه تعالى اكبر من ان يوصف ان التكبير بمعنى التسبيح لأنّ معناه بناءا على ذلك انه منزّه ومتعال عما يصفه به الواصفون مهما قالوا الا من اتّبع في ذلك كلامه تعالى فلا يصفه احد الا هو ولا يعرفه احد الا هو ومن عرفه من الاولياء فانما عرفه عن طريق الوحي.

واذا صحّ ما قيل من أن هذه الآيات هي أول ما نزل من القرآن الكريم فلعلّ الامر بالتكبير في مبدأ الرسالة للإشارة الى أنّه أساس الدين ولذلك وقع في مبدأ الصلاة. وقيل إنّه كناية عن الصلاة بنفسها وأنّ الامر بتطهير الثياب من أجلها.

وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ... ظاهر الآية تطهير الثوب الظاهري بغسله عن الاوساخ والنجاسات ومن هنا قيل إنها تدلّ على اشتراط الصلاة بطهارة الثياب.

ويحتمل حسب اللفظ أن يراد بها الابتعاد عن المعاصي والقبائح وفي كلمات العرب أن امراة كانت تحاول اقناع ابنتها الشابة لتتزوج شيخا فقالت (اخشى من الشيخ ان يدنّس ثيابي..)[7] وقصدت بذلك انها تقع في الحرام بسبب عدم تناسبها مع الشيخ. ويعبر عن الانسان التّقيّ بأنه نقيّ الثوب.

وفي الروايات أنّ المراد بالتطهير التشمير اي رفع الثوب كما في العين. وفي بعضها التقصير. ففي الكافي بسند صحيح عن ابي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى (وثيابك فطهر) قال: فشمّر.[8]

وفي حديث اخر في نفس الباب (ارفعها ولا تجرّها) وفي آخر (اقطع منه وكُفَّه) والكفّ خياطة الحاشية. وفي ذلك احاديث اخرى.

وليس المراد بها ان التطهير يراد به التقصير او التشمير بل بمعنى إزالة النجاسة والقاذورات ويقتضي ذلك لزوم الابتعاد عنها بالتقصير والتشمير. والروايات تدل على أن المراد بالآية تطهير الثوب الظاهري لا الابتعاد عن المنكرات ويدل على ذلك ايضا أن الآية التالية تخص هذا الامر.

وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ... الهجر: الترك، بل الابتعاد وهو مبالغة في الترك. والرجز بالكسر والضم في الاصل الاضطراب وهو يناسب بعض موارد استعماله في القرآن الكريم كقوله تعالى (عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)[9] واما الرجز هنا فالظاهر انه بمعنى الرجس بل قيل انه من ابدال السين بالزاي والمراد كل ما يعتبر اثما وقبيحا ومنكرا واطلق على الصنم ايضا في قوله تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ).[10]

وعليه فالمراد بالآية الامر بالابتعاد عن كل قبيح ومنكر ومنه عبادة الاصنام. ويتبين من ذلك أنّ الانسب حمل الآية السابقة على تطهير الثوب لا على الابتعاد عن الآثام لئلا يلزم التكرار.

وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ... اختلف المفسرون قديما وحديثا في معنى الآية فقد حكى في مجمع البيان في ذلك ثمانية اقوال أهمّها ما يلي:

1- ما عن ابن عباس وبعض آخر ان المراد لا تُعط عطيّة لتُعطى أكثر منها فالمنّ بناءا على ذلك نفس العطاء وهو احد معانيه. والاستكثار بمعنى طلب الزيادة.

وهذا المعنى غير مناسب لسياق الآيات التي يبدو منها انها بيان لاسس الدعوة مع أن الاعطاء بتوقع الزيادة ليس ممنوعا في الشرع وقد انتبه القائل لذلك فاعتذر عنه بأن الله تعالى اراد ان يؤدب نبيه بأشرف الآداب.

2- أن معناه ولا تمنن حسناتك على الله تعالى مستكثرا لها فيُنقصك ذلك عند الله. واختاره العلامة رحمه الله في الميزان.

وهذا المعنى يناسب ذكره بعد الامر بالانذار والتكبير والتطهير، ولكنه لا يناسب مخاطبة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم مع كمال معرفته بربه مع أنه مستبعد ايضا في خصوص الوقت اي في أول البعثة فإنه لم يظهر منه عمل كثير حتى يخاطب بذلك.

3- أن معناه ولا تمنن بعطائك على الفقراء مستكثرا ما أعطيته، لأنّ كل ما تتصدّق به فانما هو لمصلحتك ويعود اليك أضعافا مضاعفة فالمنّة لله عليك حيث وفقك لنيل هذا الثواب. وهذا اقرب مما سبق من الاقوال.

والامر لا يختص به صلى اللّه عليه وآله وسلّم وان وجه اليه الخطاب وفيه اشارة الى لزوم مساعدة الفقراء ولكن بتعبير عدم المنّة عليهم فهو كالامر بالزكاة الذي يعقب الامر بالصلاة غالبا.

وقوله (تستكثر) جملة حالية تدل على سبب المنة وهو الاستكثار اي اعتبار ما تتصدق به عليهم كثيرا.

ولكن يبعده أنه لو اريد به الحثّ على الزكاة فلا وجه لهذا التعبير من دون قرينة على المراد وان اريد به نفس النهي عن المنة فلا يناسب ان يخاطب به ابتداءا قبل الامر بالتصدق ومساعدة الفقراء خصوصا اذا كانت هذه الآيات باكورة الرسالة.

4- أن معناه لا تضعف في عملك مستكثرا لطاعاتك، رواه عن مجاهد. ولعله أقوى الأقوال وأنسبها للسياق وللآية التالية.

وتوضيحه أنّ المنّ في الاصل بمعنى القطع ومن هنا عبّر به عن ذكر النعم على المنعم عليه لانه بذلك يقطعها عن كونها نعمة. ومنه قوله تعالى (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ)[11] اي غير مقطوع. ولكن ليس بمعنى القطع المطلق بل بمعنى التقليل فالمراد بتوصيف الاجر انه غير ممنون أن الاجر متواصل لا يقل. وبهذا المعنى ايضا يقال للحبل الضعيف (منين) مع أنّه ليس مقطوعا فالمراد بترك المنّ هنا التواصل والاستمرار في إبلاغ الرسالة ومواجهة الاعداء وعدم التواني بظن أن ما أتى به كثير او كاف في اتمام الحجة.

وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ... اي اصبر في سبيل الدعوة على كل ما تلقاه من أذى ومن تعب لوجه ربك. ويمكن ان يراد به الصبر بوجه عام ليشمل الصبر على الطاعة وترك المعصية ومواجهة المصائب. ولكن الاول انسب بالسياق.

وفي تقديم (لربك) مضافا الى رعاية أواخر الآيات تنبيه على أن الصبر المطلوب هو ما كان لله تعالى وكذلك غيره من الاعمال. وفي ذكر عنوان الرب اشارة الى أن ذلك يأتي في سياق تربيتك لتبلغ به الكمال المطلوب ولا شك أنّ الصبر من أهم ما يحتاج اليه الانسان في طريق الدعوة الى الله تعالى.

فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ... الفاء لتعليل الامر بالصبر اي اصبر على أذى المشركين فان لهم موعدا عسيرا عليهم. والنقر كما في معجم المقاییس (قرع شيء حتى تهزم فيه هزمة[12]... قال ومنه منقار الطائر لانه ينقر به الشيء حتى يؤثر فيه ونقرت الرحى بالمنقار وهي تلك الحديدة ومن الباب نقرت عن الامر حتى علمته وذلك بحثك عنه). والناقور فاعول من النقر ولكن الظاهر أنّ المراد به هنا ما ينقر فيه.

والمفسرون واكثر اهل اللغة فسروا الآية بالنفخ في الصور وليس هو معناه في اللغة وهذا من موارد ذكر المراد الواقعي حسب فهم اللغوي بعنوان معنى اللفظ في كتب اللغة. ومثله ما يذكر في تفسير الالفاظ من مصطلحات الفقه فحيث ظنوا أن المراد الواقعي منه هو نفس المراد من النفخ في الصور فسروا الجملة به مع ان المعنى مختلف فالناقور ليس بمعنى الصور الذي هو قرن الثور ينفخ فيه فيخرج منه صوت عال لجمع الجند او اعلان الحرب. والنقر بمعنى الضرب على الشيء بحيث يؤثر فيه، وهو ملازم لخروج الصوت وليس بمعناه.

ولو أنهم نبهوا على الاختلاف في المعنى لكان اولى لان هذا الاختلاف بنفسه يدل على أمر آخر وهو أن الذي يحدث لا هذا ولا ذاك وانما هو تحوّل عظيم في الكون لا يقاس به شيء في هذه الطبيعة حتى يقال انه نفخ في الصور او نقر في الناقور.

وإنّما أراد الله تعالى بذلك الاشارة الى أن هذا الامر العظيم اي إبادة الحياة او إعادتها او هدم هذا النظام الكوني الهائل او إقامة نظام جديد مختلف تماما عنه لا يستوجب منه تعالى الا كنفخ في الصور او نقر في الناقور بل هو كلمح بالبصر كما قال تعالى (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)[13] بل هو اقرب واسرع منه وانما ذكر ذلك تقريبا الى اذهاننا والا فالكون طوع ارادته تعالى لا يتوقف الامر الا على ارادة منه كما قال تعالى (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[14] وليس هناك قول ولا لفظ بل ليس هناك شيء قبل ذلك ليقال له (كن) وانما القصد في كل هذه التعابير بيان هذه الحقيقة وهي ان الكون طوع ارادته ولا يتوقف تحقق الاشياء مع كل عظمتها الا على ارادة منه تعالى.

ومهما كان فالمراد به هنا النفخة الثانية التي ورد ذكرها في قوله تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)[15] فانها التي بها يقوم الناس لربهم وينال كل احد جزاءه.     

فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ... هذه الجملة جواب الشرط، و(ذلك) اشارة الى زمان النقر و(يومئذ) بدل عن (ذلك) و(يوم عسير) خبره. ولعل الابدال للتنبيه على أن العسر صفة اليوم لا النقر فللعسر عوامل اخرى.

والمعروف في التفاسير أن قوله (على الكافرين) متعلق بـ (عسير) و(غير يسير) خبر آخر لليوم فالمعنى أن ذلك اليوم على الكافرين عسير غير يسير. فيحتاج الى تأويل لئلا يلزم التكرار فقالوا بأنه تأكيد ولكنه يفيد التعريض بهم بأنه يسير على غيرهم وهم المؤمنون.

ومثله قوله تعالى في وصف الاصنام (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ..)[16] فالمراد – كما قالوا – إنها أموات لم تسبق لها الحياة.

قال في الكشاف (قال: غَيْرُ يَسِيرٍ ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيرا هينا ليجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا كما يرجى تيسر العسير من أمور الدنيا).

ولكن يحتمل أن يكون (على الكافرين) متعلقا بـ (غير يسير) فقط فيكون العسر صفة عامة لذلك اليوم فان في الحساب عسرا على الجميع الا القليل كالمقربين فالعسر في ذلك اليوم عام ولكنه يتبدل الى يسر لغير الكافرين كما قال تعالى (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا).[17]

ولا شك أن العسر الابدي لا يختص بالكافرين بالمعنى المعروف بل هناك كثير ممن يُدعون من المسلمين او المؤمنين وهم شرّ من الكفار فإمّا أن لا يراد بالآية الكريمة الحصر وانما ذكر الكافرون لأنهم هم مورد الاحتجاج والمخاصمة في هذه الآيات او يراد بالكافرين معنى يشمل من أشرنا اليهم وقد ذكرنا في ما سبق أن الكفر والايمان أمران إضافيان فهناك كثير من الكفار في قلوبهم شيء من الايمان وكذلك العكس.

مضافا الى أن الكفر له وجوه كما ورد في بعض الروايات:

روى الكليني قدس سره بسنده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عزوجل قال: الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه.. فمنها كفر الجحود، والجحود على وجهين، والكفر بترك ما أمر الله، وكفر البراء‌ة، وكفر النعم... الحديث) [18]

وقد عبر في القرآن عن ترك الحج بالكفر قال تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[19] وفي الحديث الصحيح أنّ تارك الصلاة كافر.[20]   

 


[1] البخاري ج5 ص104 باب غزوة الطائف

[2] ابراهيم: 34 / النحل: 18

[3] ابراهيم: 7

[4] طه: 124

[5] الكافي ج1 ص117- 118

[6] الاسراء: 111

[7] عيون الاخبار لابن قتيبة ج4 ص49

[8] الكافي ج6 ص455 باب تشمير الثياب ح1

[9] سبأ: 5 / الجاثية: 11

[10] الحج: 30

[11] القلم: 3

[12] الهزمة: النقرة تحدث في الشيء اذا غمزته

[13] القمر: 50

[14] يس: 82

[15] الزمر: 68

[16] النحل: 21

[17] مريم: 71 - 72

[18] راجع الكافي ج2 ص542 باب وجوه الكفر

[19] ال عمران: 97

[20] الكافي ج2 ص394