المعروف بين المفسرين والمحدّثين أن من نزل في حقه هذه المجموعة من الآيات هو الوليد بن المغيرة وقد رووا في شأن نزولها أحاديث مختلفة.
قال في مجمع البيان: (ويروى أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم لما أنزل عليه "حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ" قام إلى المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلو وما يعلى ثم انصرف إلى منزله فقال قريش صبأ والله الوليد والله لتصبأنّ قريش كلهم.
وكان يقال للوليد ريحانة قريش فقال لهم أبو جهل أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جانب الوليد حزينا فقال لي ما أراك حزينا يا ابن أخي قال هذه قريش يعيبونك على كبر سنك ويزعمون أنك زيّنت كلام محمد فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال أتزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق قط فقالوا اللهم لا قال أتزعمون أنه كاهن فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك قالوا اللهم لا قال أتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط قالوا اللهم لا قال أتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب فقالوا اللهم لا وكان يسمى الصادق الأمين قبل النبوة من صدقه فقالت قريش للوليد فما هو؟ فتفكر في نفسه ثم نظر وعبس فقال ما هو إلا ساحر أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟! فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر).
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا... اي اتركني واياه وهو نظير ما ورد في سورة المزمل (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا)[1] وقلنا في تفسيره أن هذا التعبير يقال في العرف لتهديد العدو ولطمأنة الولي وإشعاره بأنه قادر على دفعه فطلب عدم المنع لا يعني أنه يمنعه واقعا او يمكنه المنع بل هو تعبير يقصد به هذا التهديد والطمأنة.
و(وحيدا) حال عن الخالق او المخلوق فعلى الاول معناه أنه تعالى خلقه من دون ان يشاركه احد ففيه تعريض بإشراكه بربّه وعلى الثاني معناه أنه خُلق ولم يكن له شيء ثم أنعم عليه ربه بالاولاد والاموال.
وقيل: إنّ وحيدا صفة الوليد او لقبه من جهة كونه وحيدا في قومه مرموقا لا نظير له. وهو بعيد لانه ليس صفة له من حين الخلق فلا يكون حالا له حينه ولذلك اضطروا الى تقدير كلمة (أذمّ)!!!
وقيل: ان معناه انه ولد الزنا. ولعل الوجه فيه أنه لا ينسب الى اب فيكون وحيدا لا اب له قال في مجمع البيان: (روى العياشي بإسناده عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله وأبي جعفر عليهما السلام أن الوحيد ولد الزنا. قال زرارة: ذكر لأبي جعفر عليه السلام عن أحد بني هشام أنه قال في خطبته أنا ابن الوحيد فقال ويله لو علم ما الوحيد ما فخر بها فقلنا له وما هو؟ قال: من لا يعرف له أب).
وقد مر في تفسير قوله تعالى (عتل بعد ذلك زنيم)[2] أن الزنيم هو الدعي وأن المراد به كما قيل الوليد بن المغيرة لأن المغيرة استلحقه وهو ابن ثمان عشرة سنة. ومع ذلك فحمل كلمة الوحيد على هذا المعنى بعيد خصوصا أنه ليس مما يدخل في الخلق كالقول السابق مما يستدعي تقدير كلمة (أذمّ) وهو بعيد جدا.
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا... من هنا يبدأ بذكر بعض ما أنعم الله تعالى عليه ليظهر قبح كفرانه لربّه فأولها أنه رزق مالا كثيرا وعبر عن كثرته بالمدّ إمّا تشبيها له بجسم واحد ممتد فتكون كثرته مثل النماء المتصل وإمّا أنه بمعنى الإمداد وإيصال المدد فيدلّ على أنّ لأمواله مصدرا لا ينقطع كالزراعة والتجارة والعقار وليس مبلغا محدودا من المال ينتهي بصرفه.
ولعل في التعبير بالجعل بدلا عن الرزق اشارة الى أنه في الواقع ليس نعمة من الله تعالى وان اعتبره الرجل نعمة فان المال الكثير يوجب الطغيان بل يبقى الانسان معذبا به في الدنيا ايضا كما قال تعالى (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ).[3]
وروي عن الامام زين العابدين عليه السلام أنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم براعي إبل فبعث يستسقيه فقال: أما ما في ضروعها فصبوح الحي وأما ما في آنيتنا فغبوقهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: اللهم أكثر ماله وولده، ثم مر براعي غنم فبعث إليه يستسقيه فحلب له ما في ضروعها وأكفأ ما في إنائه في إناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وبعث إليه بشاة وقال: هذا ماعندنا وإن أحببت أن نزيدك زدناك؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: اللهم ارزقه الكفاف. فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله دعوت للذي ردّك بدعاءٍ عامّتنا نحبه ودعوت للذي أسعفك بحاجتك بدعاء كلنا نكرهه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: إنّ ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى، اللهم ارزق محمدا وآل محمد الكفاف). [4]
وروي عن امير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (من وُسّع عليه دنياه ولم يعلم انه مُكر به فهو مخدوع عن عقله).
والمُترَفون يغفلون عن ذكر ربهم وقد قال تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا..)[5] ويعذبون في ضميرهم حيث يجدون حولهم الفقراء يموتون جوعا ومرضا ولا يساعدونهم. والتَرَف ينتهي الى كسل المجتمع وترهّله.
وَبَنِينَ شُهُودًا... كثرة البنين مما كانت العرب تفتخر به وتعتزّ لأنّهم كانوا حصن العشيرة والقبيلة والاسرة في مواجهة الأعداء وعمالة مجانية في زراعتهم وتجارتهم ونحو ذلك. وتوصيفهم بالشهود للدلالة على كونهم حاضرين عنده يستخدمهم في مقاصده.
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا... المهد: المكان المهيأ للطفل ينام فيه. والتمهيد تسوية الارض ويعبر به عن الإعداد وتهيئة الامور للوصول الى المقاصد.
والمراد أنه كان يحظى بالظروف المؤاتية التي تسمح له ببلوغ أهدافه ومآربه بسهولة فبالاضافة الى كثرة المال والبنين وهما ركنان أساسيان كانت له سمعة طيبة وشخصية مرموقة ومكر ودهاء.
ولذلك قيل: إنه المراد بالرجل العظيم من مكة في قوله تعالى (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)[6] الذي يحكي عن اقتراح المشركين للرسالة وأنها ينبغي أن تكون لأحد رجلين عظيمين من مكة والطائف فيقصدون برجل مكة الوليد.
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ... (ثم) للتراخي الرتبي ويفيد الاستغراب اي هو مع هذه الكثرة والسعة يطمع في الزيادة. وهذا من غرائب طباع الانسان فانه يزيد طمعا كلما زاد مالا حتى تعود النعمة نقمة عليه كما مرّ آنفا.
وإسناد الزيادة الى الله تعالى قد يكون من الوليد حسب معتقدهم اذ لم يكونوا يسندون الرزق الى الاصنام قال تعالى (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ)[7] ويمكن أن يكون الاسناد من الله تعالى فهو يطمع في الزيادة فقط والله تعالى ينسبها الى نفسه وان لم يعتقد الوليد به.
كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا... (كلا) أداة ردع هنا اي ليس كما يطمع فهو لا يستحق الزيادة. والعنيد من العَنْد والعُنُود، قال الخليل على ما في العين (عَنَد الرجل يعنُد عَنْدا وعُنُودا فهو عاند وعنيد، إذا طغى وعتا وجاوز قدره ومنه: المعاندة وهو أن يعرف [الرجل] الشيء ويأبى أن يقبله أو يُقِرّ به). والعناد والمعاندة مفاعلة من العُنود.
وجملة (انه كان لآياتنا عنيدا) تعليل للنفي المستفاد من قوله (كلا) فهو لا يستحق الزيادة بسبب عناده لآيات الله. واللام للتعدية اي عناده وطغيانه متعلق بآياته تعالى. والقصة المنقوله تدل بوضوح على عناده فقد اعترف ابتداءا بأن ما أتى به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم ليس شعرا ولا كهانة ولا كذبا فلما أثار شيطان مكة حفيظته عاد فسماه سحرا.
سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا... رهق شيء شيئا اي غشيه كقوله تعالى (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)[8] اي تعلو وجوههم المذلة. والمعروف في معنى الآية أنّ المراد اغشّيه واحمّله صعودا. والصعود العقبة الكؤود اي التي يصعب الصعود عليها ويعبر عن العمل الشاق بالصعود فالمراد أنه يكلف عملا شاقا لعناده في مواجهة آيات الله تعالى.
وقد تداول المفسرون هذا المعنى قديما وحديثا قال الطبري في جامع البيان في تفسير الآية: (سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له منها. وقيل: إن الصعود جبل في النار يكلف أهل النار صعوده) ثم روى بسنده عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم أنه قال:" هو جبل في النار من نار، يكلفون أن يصعدوه فإذا وضع يده ذابت فإذا رفعها عادت فإذا وضع رجله كذلك"
ثم روى بسنده عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي كذلك منه أبدا" وحكى عن مجاهد: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً قال: مشقة من العذاب. وعن قتادة، أن المعنى عذابا لا راحة منه. وعنه ايضا أنه قال: مشقة من العذاب. وعن ابن زيد: تعبا من العذاب.
وفي الكشاف (سأغشّيه عقبة شاقة المصعد: وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاقّ الصَعَد الذي لا يطاق).
والتكلف باد على كل ما قيل في ذلك فالصعود بمعنى العقبة الكؤود فكيف يُغشّى الانسان به ولو كان بضم الصاد أمكن ذلك ولكن الظاهر أنهم التزموا بذلك بتقدير فعل اي ارهقه الصُعود على الصَعود ونحو ذلك مع تأويل الارهاق الى التكليف والتحميل.
ولكن الظاهر أن معنى الآية كقوله تعالى (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا)[9] وقلنا في تفسيره أنه لا يبعد أن يكون المراد أنه عذاب متصاعد يتحول من شديد الى أشد ويحتمل أن يكون ذلك باعتبار كون عذابه يوم القيامة أشد من عذاب الدنيا فيكون مثل قوله تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[10] خصوصا مع اتحاد الموضوع في الآيتين فلا يبعد أن يكون المراد هنا ايضا انه يرهق ويغشى بعذاب صعود فيعذب في الدنيا بذهاب أمواله كما حكي ثم يصلى السعير يوم القيامة كما سيأتي.
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ... الظاهر أنّه تعليل لارهاقه الصعود وليس بدلا عن قوله تعالى (انه كان لآياتنا عنيدا) كما قيل فكونه عنيدا علة لعدم الزيادة على ما اُعطي، وتفكيره وتقديره علة لارهاقه الصعود.
و(فكّر) بمعنى تأمّل وتردّد ويطلق في مقابل البديهة حيث إنه تردّد في ما يناسب ان يقوله في القرآن ليصدّقه الناس مما يوجب تحقيرا له وتقليلا من شأنه.
والتقدير بمعنى المحاسبة وهو ايضا يأتي في نفس الاطار لأنه كان يحاسب ما ينبغي أن يقوله بعد ما اعترف بأنه ليس شعرا ولا كهانة ولكن حيث طلب منه أن يقول شيئا فكّر وقدّر في ما هو أقرب الى القبول من سائر المحتملات فاختار أخيرا أن يقول فيه إنه سحر بدليل أنه يفرّق بين المرء واسرته وهو يعلم أنه انما يفرّق بقوة منطقه وبما يبعثه من قوة الايمان في قلوب أتباعه بحيث يضحّون بأنفسهم ومصالحهم فضلا عن اُسَرهم وعلاقاتهم.
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ... دعاء عليه بالموت بل أشنعه وهو القتل. فهو كقوله تعالى (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)[11] وليس ما يدعو به الله تعالى لاحد او على أحد كدعاء غيره لأن غيره يدعوه فهو المدعو وليس داعيا فدعاؤه تعالى لاحد او على أحد قد يكون بمعنى ايقاع الرحمة او اللعنة عليه وقد يكون بمعنى التنديد به وإبراز الغضب عليه.
كما هو الحال في بعض ما ندعو به ايضا فإن الصلاة على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وأهل بيته عليهم السلام كثيرا ما لا يقصد بها الدعاء بل لا ينتبه الى كونها دعاءا وانما القصد منها إعلام الحب والولاء لهم ولذلك تعدّ الصلاة عليهم من الشعارات الدينية التي تحكي عن متابعة اهل البيت عليهم السلام.
ومثلها ايضا الدعاء للتعجيل في فرج مولانا صاحب العصر الامام المهدي المنتظر عليه السلام او لطول بقائه وصحته وسلامته فانا نعلم أن الله تعالى حافظه وناصره ونعلم أنه لا يعجّل فرجه عن موعده الذي لا يعلمه الاهو سواء طلب الناس التعجيل او التأجيل فليست هذه الأدعية الا إظهارا للحب والولاء والمتابعة.
والفاء في قوله (فقتل) للتفريع اي تفريع الدعاء عليه على فكره وتقديره فيدل ذلك على أن هذا الفكر والتقدير يستلزم هذا الدعاء.
وقوله تعالى (كيف قدّر) يمكن أن يكون بمعنى (مهما قدّر) اي لا يختلف الحكم في التنديد به والدعاء عليه مهما قدّر فإنّ ذلك يتبع محاولته ونيّـته الفاسدة لا كيفية تقديره.
ويمكن أن يكون للاستفهام الانكاري الذي يفيد التعجب من محاولته مقابلة الحق بالباطل وهو يعلم أنه حق وأنه من قبل الله تعالى. وحقا إن مقابلة الانسان الحقير لربه العظيم مما يستدعي الاستغراب.
وقيل: إنّ المراد بالاستفهام التعجيب من جهة أنّه أصاب الغرض الذي يقصده فهو أراد أن يصف القرآن بصفة يقبلها القوم ويُصفّقون لتوصيفه فبلغ هدفه.
وهو بعيد جدا لأن الآيات في مقام التقليل من شأنه وتضعيف مكره وكيده ومكائد القوم أجمعين فمن البعيد أن يكون المراد بهذه الجملة توصيفه بأنه أصاب الغرض والتعجيب منه وان كان قد أصابه واقعا، خصوصا بملاحظة التكرار للتأكيد فمن المستبعد جدا التأكيد على التعجيب من تقديره السيئ. وايضا بملاحظة قوله تعالى (ثم عبس وبسر) بناءا على ما سيأتي في تفسيره.
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ... ليس هذا تكرارا للدعاء عليه تأكيدا على استحقاقه للعذاب والقتل كما يقال فإن في قوله (ثم) دلالة على استحقاقه للعذاب والقتل مرة بعد اخرى. وبالطبع فان القتل لا يقع الا مرة واحدة ولكن لا مانع من تكرر الاستحقاق كما نجد أن المحاكم قد يحكمون على شخص بالاعدام عدة مرات.
ثُمَّ نَظَرَ... قيل: اي نظر الى من حوله بعد تفكيره وتقديره ليرى استعدادهم لتلقي الوصف اللائق بالقرآن حسبما كانوا يتوقعون.
ولكن لا يبعد أن يكون المراد به الانتظار مما يدلّ على تحيّره كقوله تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)[12] اي هل ينتظرون؟ وهذا أنسب بما سيأتي في تفسير الآية التالية وأولى من جهة أنه لم يذكر متعلق النظر لو كان بالمعنى الاول.
والجملة عطف على قوله (فكر وقدر) وجملتا الدعاء معترضتان. وفائدة هذا الاعتراض التعجيل في التعقيب على فكره وتقديره. وله نظائر في القرآن الكريم كقوله تعالى (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ..)[13] فجملة (قل ان الهدى..) معترضة بين العلة والمعلول في جملة واحدة فإن تقدير الآية هكذا (ولا تؤمنوا الا لمن تبع دينكم مخافة أن يؤتى أحد مثل ما اوتيتم..).
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ... عبس: قطّب ما بين عينيه. وهو يدلّ على تحرّجه الشديد في اختيار ما يصف به القرآن مما يقبله القوم بعد ما لم يجد مغمزا واضحا فيه بل اعترف بأنه ليس من كلام الانس ولا الجن فكان موقفه حرجا جدا يستوجب العبوس.
واما البَسْر فله معنيان أحدهما العبوس ايضا فيكون تكرارا للتأكيد والآخر الاستعجال بالشيء قبل أوانه ولعله أولى لئلا يلزم التكرار فالمراد أنه خرج عن طوره وارتبك في تعيين ما يقوله في القرآن. وفسره في المجمع بأنه كلح وكرّه وجهه ونظر بكراهة شديدة كالمتهم المتفكر في الشيء.
ومهما كان فهذا التعبير يدلّ على تردّده في هذا الموقف ولعله تردّد في أصل المحاولة ايضا كما يظهر من الآية التالية.
وهذا ايضا يدل على أن قوله تعالى (فقتل كيف قدّر) ليس تعجيبا من اصابته الغرض بل هو تعجيب من أصل المحاولة وذلك لأن ترتيب الآيات المتعاطفة بـ (ثم) يقتضي أن يكون المراد بالتقدير نفس المحاولة لا تعيين القول بأنه سحر فهو الى هنا لم يعين شيئا بل كان مترددا في اصل المحاولة. والدعاء عليه انما كان لمحاولته.
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ... الإدبار الإعراض عن الشيء وبقرينة الاستكبار يعلم أنه أدبر عن الايمان والتصديق بما هو حق ثابت لديه. وهذا الادبار كان بعد عبوسه لمكان (ثم) التي تدل على التراخي فيعلم منه أن عبوسه انما كان من تحرّجه في أن يقول ما ليس بحق ولكنه سرعان ما أدبر وأعرض عن الانصياع للحق استكبارا منه في أن يتنازل عن موقعه الممتاز في المجتمع المكي ويتبع رجلا هاشميا ويؤمن برسالته.
والاستكبار آفة الشخصيات المرموقة في كل زمان ومكان. فرعون ايضا كان يعلم بأن ما جاء به موسى عليه السلام هو الحق الصراح ولكن أنّى له أن ينزل عن عرشه وجبروته ويترك كل هذه العظمة المصطنعة ويؤمن بنبوة من تبنّاه وربّاه؟! انه حقا لأمر عظيم!!!
فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ... وهذا آخر ما أوحى اليه معلمه ابليس وبعد أن اعترف بأنه لا يشبه الشعر ولا كلام الكهنة لم يجد بدّا من أن يصفه بالسحر وفي الروايات أنه استند في ذلك الى أنّ الرسول صلى الله عليه واله وسلم يفرق بين الاولاد وآبائهم واُسرهم وعشيرتهم وهذا فعل السحرة. والفاء تدل على أن ما قاله مترتب على استكباره وكأنه نتيجة حتمية وفورية.
وقوله (يؤثر) اي يروى عن الاقدمين والظاهر أنه قصد بذلك التنقيص من الرسول صلى الله عليه واله وسلم بأنه ليس مما ابتكره بنفسه بل هو شيء منقول من الاقدمين العارفين بالسحر.
إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ... انكار لكونه وحيا من الله تعالى وأتى بالجملة من دون عطف لانها نتيجة الجملة السابقة فصرح بها لان الغرض الاساس هو نفي كونه وحيا. وهذا تصريح بما ينافي ما سبق منه حيث قال سمعت من محمد كلاما ليس من كلام الانس ولا من كلام الجن.
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ... صلى النارَ: قاسى حرها. والاصلاء: الالقاء في النار ليقاسي حرها. وهذا جزاء استكباره وعناده للحق الذي عرفه واعترف به.
و(سقر) علم لجهنّم واصله سَقَرَتْه النار او الشمس اذا احرقته وأذابته وقيل لوّحت بشرته اي غيّرت لونها وهي غير منصرف للعلمية والتأنيث. وقيل انه اسم لموضع خاص او طبقة خاصة من جهنم.
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ... الخطاب للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم او لكل تال وسامع فلا أحد يعلم حقيقة تلك النار ولا تشبه نار الدنيا فهذه حقيقة يشير اليها القرآن في أكثر من مورد وليس المراد مجرد التهويل كما قيل.
لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ... اي تهلك وتحرق كل ما اصابته، تحرق الارواح والاجساد ولا تبقي شيئا منها وهذه صفة خاصة بها تميزها عن نار الدنيا فليست في الدنيا نار بهذه الصفة حتى ما تحدثه القنبلة الذرية فانها قد لا تبقي من الجسم شيئا ولكن لا تحرق الروح وقد قال تعالى (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ).[14]
و قوله (ولا تذر) اي لا تترك. قيل انها تؤكد الجملة السابقة والمعنى واحد. ويمكن أن تكون اشارة الى ميزة اخرى فيها وهي انها لا تترك من يلقى فيها حتى بعد هلاكه وموته كما قال تعالى (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى)[15]
وقال ايضا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ..).[16]
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ... لواحة صيغة مبالغة من التلويح. وهو بمعنيين: احدهما أنها تلوّح الالوان وتغيّرها كما مر في تفسير كلمة سقر ويمكن بناءا على هذا المعنى أن يكون البشر جمع البشرة وهي جلد الانسان.
والمعنى الآخر أنها تشير الى البشر وتدعوهم اليها كما قال تعالى (تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى)[17] والمراد بهم المجرمون كما هو واضح الا انهم حيث يشكلون الاكثرية الساحقة فكأنها تدعو الجميع كما قال تعالى (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).[18]
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ... اي وكّل عليها من الخزنة والحفظة تسعة عشر ملكا. وقد صرح في الآية التالية بأنهم ملائكة. وقد استقل بعضهم هذا العدد فقالوا إنّ المراد تسعة عشر صفّا او صنفا او أنّ زعماءهم تسعة عشر.
وفي الكشاف (روي أنّه لما نزلت "عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ" قال أبو جهل لقريش ثكلتكم أمّهاتكم أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدَّهْم! أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟! فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي – وكان شديد البطش – أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين، فأنزل اللّه "وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً" أي ما جعلناهم رجالا من جنسكم يطاقون). والدَّهم: الجماعة الكثيرة.
[1] المزّمّل: 11
[2] القلم: 13
[3] التوبة: 55
[4] الكافي ج2 ص205 باب الكفاف
[5] طه: 124
[6] الزخرف: 31
[7] يونس: 31
[8] القلم: 43
[9] الجن: 17
[10] طه: 124
[11] المنافقون: 4
[12] الزخرف: 66
[13] ال عمران: 73
[14] الهمزة: 6 - 7
[15] الاعلى: 12 - 13
[16] النساء: 56
[17] المعارج: 17
[18] السجدة: 13