وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً... يبدو من التعبير أنه ردّ على ما توهّمه القوم او يمكن أن يتوهمه أحد من أنّ هذا العدد اي تسعة عشر شخصا لو فرض أنهم أشخاص كيف يمكنهم إدارة جهنّم وهي تشتمل على أكثر الثقلين؟!
فالجواب أنّ هؤلاء ليسوا بشرا وانما هم ملائكة ولا يعلم أحد حدود قدرتهم. فالمراد بأصحاب النار هنا الموكّلون عليها والصاحب يطلق على كل من له علاقة بشيء.
ويمكن أن يكون المراد بجعلهم ملائكة أنهم ليسوا بشرا فيتألموا من تعذيب البشر او يتقاعسوا في تنفيذ ما اُمروا به كما قال تعالى (عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[1] فالغرض من التنبيه على ذلك دفع توهم أن الموكلين قد لا يقدرون على القيام بالمهمة الموكولة اليهم او ربما لا ينفذونها.
وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا... عدّة القوم: مبلغ عددهم كما في الجمهرة. والفتنة في الاصل النار وتطلق على الامتحان باعتبار أن النار تبرز جواهر المعادن وخلوصها وعدمه ومثلها ما يجده الانسان في حياته من خير وشر فبكيفية تعامله معها يبرز جوهره وحقيقته.
فالمعنى أن تحديد عدد الملائكة الموكلين بالنار بتسعة عشر من موارد امتحان الذين كفروا وذلك لان هذا العدد يثير تساءلهم واستغرابهم وربما يزيدون بذلك كفرا وتكذيبا وهو نظير ما ورد في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ).[2]
وهذا واضح انما الكلام في أنّ هذا العدد من الملائكة انما تعيّنها الحقائق وتحدّدها الحاجة فكيف يمكن تعليل العدد وهو حقيقة كونية بافتتان مجموعة من الناس؟!
والجواب المتداول في التفاسير أنّ المراد ذكر عدّتهم في القرآن لا نفس العدد في الواقع فانه يتبع عللا اخرى لا يعلمها الا الله تعالى فالذي يفتتن به الذين كفروا ذكر هذا العدد في القرآن وذلك من جهتين: من جهة استقلال العدد كمامرّ ومن جهة استغراب التحديد بذلك فيتساءلون لماذا لم يكملهم عشرين او اقل او اكثر؟!
والجواب عن الجهة الاولى مذكور في الآية الكريمة كما مر وعن الجهة الثانية يجاب بأن كل عدد مثار للسؤال والانسان لا يعلم وجه الحكمة في ذلك فهناك حقائق كونية تشتمل على أعداد لا يعلم الانسان وجه الحكمة فيها وربما يستكشف بعضها بفضل العلم الحديث ومهما كان فلا يستغرب العدد الا الجاهل بأن للكون ربّا حكيما عليما.
ولكن تأويل قوله تعالى (وما جعلنا عدتهم) بذكرالعدد في القرآن مما يصعب قبوله وأظنّ أن المفسرين انما ذكروها على مضض تهربا من البحث والتعمق. وهناك منهم من ذهب الى أن المراد بالفتنة العذاب وأن التسعة عشر عدد الاصناف او الصفوف فهم مجموعات كثيرة، وجعل العدة فتنة بمعنى أن الله تعالى جعلهم عدة كثيرة ليذيق الذين كفروا أنواع العذاب. ولكن هذا التأويل لا يتوافق مع التعليلات التالية كما هو واضح.
والذي يخطر بالبال أنه يمكن الجواب بوجهين:
الاول: أن المراد بجعل العدة الجعل الاعتباري لا التكويني اي ليس المراد انه تعالى جعل عددهم في الواقع تسعة عشر بل المراد انه اعتبرهم تسعة عشر وذلك بناءا على أن المراد من العدد ليس عدد الملائكة بل عدد أصنافهم كما قال بعضهم فاذا كان كذلك فالتصنيف يتبع الاعتبار فكما نصنف البشر الى اصناف بلحاظ الاختلاف في اللون واللغة وغيرهما فكذلك يمكن تصنيف الملائكة بتصانيف عديدة لا نعلمها فالمراد أنه تعالى اختار من بينها تصنيفا يصنف هؤلاء الملائكة اي خزنة النار الى تسعة عشر صنفا ليختبر مدى كفر الكافرين.
ويلاحظ أن التصنيف البشري المذكور يتبع الاعتبار وان كان الصنف بذاته ربما يتبع امرا واقعيا كاللون واللغة وربما يتبع امرا اعتباريا كاختلاف الدول والاوطان.
الثاني: أنّـا لا نعلم حقيقة الملائكة ولا نعلم أنّهم مثل البشر أشخاص متمايزون أم أنّهم بكيفية اخرى فهذا أمر مغيّب عنّـا وبعيد عن أذهاننا ونحن نجد حولنا حقائق مادية لا يمكن عدّها بالاشخاص كالطاقة والحرارة مثلا فنجد أنّ هناك طرقا عديدة لتحديد وحدة الطاقة في مختلف منابعها او وحدة الحرارة او وحدة القوة التي اوجبت الزلزال ونحو ذلك ولكن هذه التحديدات لا توجب تشخص وحدات الطاقة مثلا وتمايزها فلعل الملائكة او قسما خاصا منها حقائق غير متمايزة فلا يمكن عدّهم بالاشخاص ولكن يمكن تحديدهم وعدّهم باعتبارات خاصّة لا نعلمها. ولا ينافي ذلك وجود اشخاص بينهم كجبرائيل عليه السلام.
ويمكن أن نفسر بهذا البيان التعداد الوارد بشأن الملائكة الذين ارسلوا لتقوية عزائم المؤمنين في غزوة بدر قال تعالى (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).[3]
وقال ايضا (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ).[4]
فبملاحظة هذه الآيات يتبين أن عدد الملائكة المذكور فيها ليس الا لتقوية عزائم المؤمنين والا فلا حاجة الى هذا العدد لضرب الرؤوس والبنان اذ لم يكن ذلك ضربا محسوسا ولم ينقل أن احدا من المشركين أخبر عن هذا الضرب فضلا عن قتلهم فالمراد بهذا الضرب ليس الا التأثير المعنوي كتثبيط عزائم الكفار ولا يراد بذكر العدد الا تقوية نفوس المؤمنين فان الملائكة الذين نزلوا لانزال العذاب على قوم لوط لم يكن عددهم اكثر من جماعة من البشر يأكلون عجلا حيث جاء لهم به ابراهيم عليه السلام ومع ذلك فقد قلبوا المدينة وجعلوا عاليها سافلها وامطروا عليها حجارة من سجيل منضود.
فالالف المردفون من الملائكة الذين بلغوا مع من يردفونهم ثلاثة آلاف لا حاجة بهم لمحاربة المشركين حيث لم يتجاوز عددهم الفا حتى لو كانوا بشرا وكانوا يريدون قتل المشركين مع أن الملائكة لم يقتلوا أحدا منهم فالمقتولون معروفون بأشخاصهم وقاتليهم.
فيتبين بوضوح أن العدد ليس مقصودا بذاته بل المقصود ذكر هذا العدد الهائل ولكن الله تعالى لا يقول الا الحق فما هو حقيقة هذا العدد؟ يمكن أن نجد الجواب من خلال ما ذكرناه في الوجه الثاني وان كان مجرد احتمال لا يمكننا الجزم به.
لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ... اليقين زوال الشك وسكون النفس. والاستيقان ايضا بنفس المعنى ولعله يزيد عليه بمزيد من السكون والاطمئنان. والظاهر من (الذين اوتوا الكتاب) اليهود والنصارى معا ولا وجه لتخصيصهم باليهود كما قيل.
انما الكلام في لام التعليل فان الظاهر من العبارة أن السبب في جعل العدة تسعة عشر منحصر في الفتنة وأن الاستيقان وما بعده يترتب على جعل العدة فتنة للذين كفروا والمفسرون لا يرون له وجها فاعتبروا هذه الجملة علة اخرى لجعل العدة وقالوا ان مثل هذه الجمل قد تأتي متعاطفة وقد تأتي من دون عطف فالعلة منحصرة في جميعها.
ويمكن أن يقال انه لا موجب لرفع اليد عن ظاهر العبارة ولا مانع من ان يكون استيقان اهل الكتاب علة لجعل العدد الخاص فتنة للذين كفروا وذلك لان المراد بالذين كفروا ليس خصوص المشركين او كفار مكة بل كل من في نفسه شيء من الكفر فهذا الجعل – كغيره مما يمتحن به الناس – يخرج خباياهم من الكفر والايمان وغيرهما فالبلاء والامتحان لا يختص بالكفار بل البشر بأجمعهم في معرض الافتتان والبلاء.
والآيات التي تذكر الفتنة والابتلاء كثيرة والموضوع في بعضها الانسان بوجه عام والخطاب في بعضها موجّه للذين آمنوا خاصة.
وعليه فالمراد بقوله تعالى (فتنة للذين كفروا..) أنه يبرز الكفر باي درجة كان كما يبرز عدم الكفر فيمن يؤمن بهذه الحقيقة فيترتب عليه استيقان بعض اهل الكتاب والمؤمنين ممن ليس في قلوبهم شيء من الكفر بهذه الحقيقة كما يترتب استنكار الكفار والمنافقين على اختلاف درجاتهم في الكفر. فلا حاجة الى عطف الجمل بل لا يصح العطف.
وفي الآية اشكال آخر مرّ القوم عليه مرّ الكرام وهو أنّه ما هو الوجه في استيقان اهل الكتاب سواء اريد بهم اليهود والنصارى معا او خصوص اليهود؟ والمفسرون تداولوا القول فيما بينهم بأنهم انما تيقنوا حيث وجدوا هذا العدد موافقا لما عندهم في كتبهم اي التوراة والانجيل ورووا في ذلك روايات عن الاقدمين:
ففي تفسير الطبري عن ابن عباس قوله: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) قال: وإنها في التوراة والإنجيل تسعة عشر فأراد الله أن يستيقن أهل الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانًا). وروى مثل ذلك عن مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد.
وتبعهم القوم في ذلك دون بحث وتمحيص مع أن بعضهم له خبرة في مراجعة العهدين ولكنهم فضّلوا المتابعة وعدم التدقيق. ومع أني لست خبيرا في هذا الامر حاولت أن أجد شيئا فيهما عن طريق البحث الالكتروني بالكلمات المناسبة فلم أصل الى نتيجة والمعروف أن الانجيل خال عن مثل هذه الحقائق وأن التوراة الموجودة لم تذكر فيها الآخرة أساسا وقد بحثت عن كلمة النار فيها فلم أجد ذكرا عن نار الآخرة. والله العالم.
ومن البعيد أن تكون كتبهم في ذلك العهد مشتملة على هذا الامر وأزالوه عنها اذ ليس فيه ما يضرهم او ينفع مخالفيهم. كما يستبعد ان يكون المراد ورود ذلك في كتاب آخر لهم غير العهدين مع أن القائلين نسبوه اليهما.
ورأيت في بعض التفاسير المتأخرة احتمال أن يكون المراد بالذين اُوتوا الكتاب علماء هذه الاُمّة وحملة القرآن.
وهو ايضا بعيد جدا اذ لا يناسب هذا التعبير المتكرر في القرآن مضافا الى أنّه لا يناسب عطف الذين آمنوا مع زيادة على الذين اوتوا الكتاب فهم يزدادون ايمانا والذين اوتوا الكتاب يستيقنون فحسب.
والصحيح في الجواب أنّ الآية لا تخبر عن استيقان الذين اوتوا الكتاب ليبحث عن وجه استيقانهم وإنّما يذكر الغرض من جعل العدّة فتنة فمعنى الجملة أن المتوقّع من أهل الكتاب أن يستيقنوا بصحّة هذا العدد ولا يرتابوا فيه لأنهم يؤمنون بقدرة الله تعالى ويعلمون أن الملائكة يقدرون على ما يوكّلون عليه وأنّ طاقاتهم غير محدودة بهذه الحدود الماديّة التي نعرفها فهم لا يتردّدون في قبول ما ورد في الآية المباركة.
ويلاحظ أنّ السورة مكية والله تعالى لم يُنزّل في هذه السور تنديدا وتشنيعا على أهل الكتاب لانهم لم يواجهوه بالتكذيب والعداء وانما ارتكبوا ذلك في المدينة فنزلت بحقهم الآيات التي تندّد بكفرهم وقتلهم الانبياء ونحو ذلك.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)[5] والضمير في (أنه منزل) يعود الى القرآن.
وقال: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)[6]
وقال ايضا: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ)[7]
وقال عزّ من قائل: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ).[8] والضمير في (يؤمنون به) يعود الى الكتاب في قوله (انزلنا اليك الكتاب).
وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا... قال بعض المفسرين إن المراد بازدياد الايمان الازدياد الكمّي لا الكيفي فان الايمان لا يزداد وانما تزداد موارده فالمراد أن المؤمنين بالله ورسوله يؤمنون بهذا العدد ايضا مضافا الى سائر ما يؤمنون به من اخبار الغيب.[9]
وهذا كلام غريب اذ لا شك أن الايمان يزيد وينقص قال تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي..)[10] مضافا الى أن صريح العبارة أنهم يزدادون ايمانا والايمان في الآية تمييز. وانما اضطر بعضهم الى هذا التأويل لأنهم لم يجدوا وجها لزيادة الايمان بهذا الإخبار المثير للشك.
وقال الآخرون إن ايمانهم كان يزداد لمّا سمعوا أنّ أهل الكتاب صدّقوا هذا الخبر لموافقته لما في كتبهم!! وهذا أغرب منه لأنهم لم يأتوا بأيّ دليل يثبت أن أهل الكتاب صدّقوا ذلك ليكون موجبا لزيادة الايمان كما لم يذكروا موردا من كتبهم يوافق هذا الخبر بالرغم من أن المتأخرين منهم يجدون العهدين ويتمكنون من تصفحهما بسهولة.
والصحيح كما ذكرناه في الجملة السابقة أنّ الآية تبيّن الغرض المتوقّع من المؤمنين فإنّ المؤمن يزداد إيمانا بربّه كلّما سمع بما أنزله على رسوله فقلبه مطمئن بالايمان لا يزداد بكل آية الا ايمانا وتسليما.
وهكذا ينبغي أن يكون كما قال تعالى (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ).[11]
والسورة هنا مطلقة لا تختص بما يعلمون من طريق آخر صحة مضامينها فإيمان المؤمن يزداد كلما سمع قرآنا نازلا من الله تعالى.
وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ... قيل إنه تأكيد لاستيقان اهل الكتاب وازدياد الايمان. وهو غير صحيح بالنسبة لازدياد الايمان في المؤمنين فان عدم الارتياب مرحلة ابتدائية لزيادة الايمان كما هو واضح.
والظاهر أنّ المراد به استقامتهم على اليقين والايمان وعدم تأثّرهم بما يُلقى عليهم من التشكيك. ولا شكّ أنّ هذا ايضا ليس مما يترتّب على الإخبار بعدد الملائكة فالمراد باللام ليس بيان ترتّب هذه الامور بل إبداء أنّها مما يُتوقّع أن تتعقّب الفتنة والامتحان.
ويلاحظ تكرار ذكر اهل الكتاب تأكيدا على أنهم لا يُتوقّع منهم الشك لمعرفتهم نوعا مّا بحقائق الغيب الواردة في كتبهم فلا يستغربون وجود هذا العدد في خزنة النار.
وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا... وهذا ايضا مما يترتب على الفتنة. واللام كسابقتها للعاقبة المتوقّعة فليس المراد أنّ كلّ من في قلبه مرض او كل الكافرين سيقولون ذلك بل المراد أن المتوقّع منهم أن يقولوا.
والمثل حال من اسم الاشارة. قيل انه بمعنى الحديث وقيل بمعنى الصفة اي ماذا قصد الله تعالى بهذا الحديث او بتوصيف الملائكة بهذا العدد؟!
ولكن الظاهر أنّ المثل في الاصل بمعنى العلامة المنصوبة والاصل فيه المثول بمعنى القيام والانتصاب. فلعل المراد ماذا أراد الله بما نصبه علامة لهم وهو أنهم تسعة عشر؟! والاستفهام للاستنكار فهم ينكرون أن يكون هذا من كلامه تعالى فيقصدون بهذا السؤال الردّ على أصل الرسالة بأنّ التوصيف بهذا العدد غير معقول فلا يمكن ان يكون من كلامه تعالى.
وقد وقع الكلام في المراد بالذين في قلوبهم مرض والظاهر أن المراد بهم المنافقون او المترددون من الذين آمنوا ظاهرا ولكن القوم رفضوا ذلك وأصروا على أن النفاق لم يظهر الا في المدينة فمنهم من قال إنّ هذا من الاخبار عن الغيب اي ليقول المنافقون في المستقبل وقيل إنّ المراد بهم الكفار المتردّدون مع ان قوله تعالى (والكافرون) يشملهم!
والصحيح أنّ النفاق كان موجودا وبكثرة في المسلمين الأوائل ايضا ولم يكن كل من آمن في مكة بعيدا عن النفاق كما يتوهم. وقد مر الكلام حوله في تفسير قوله تعالى (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ)[12] وقوله تعالى (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ).[13]
ومما يدل بوضوح على وجود النفاق في مكة قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ)[14] والسورة مكية وقد اعترف بكونها مكية وأن الآية بشأن منافقيها بعض من أنكر هنا وجود النفاق في مكة غفلة عما ذكره هناك!![15]
كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ... اي بمثل هذه الفتنة يضلّ الله تعالى اُناسا ويهدي اُناسا فيضلّ من ينكر صدور هذا الكلام من الله تعالى لجهله بالامور ويهدي من يؤمن بكل ما أنزل الله تعالى على رسوله.
والله تعالى لا يشاء جزافا وانما يشاء لحكمة فيُضلّ ويهدي حسب الاستحقاق وهو أمر طبيعي يتبع عمل الانسان فمن عاند الحقّ بعد أن علم أنه حقّ كما كان من شأن الوليد بن المغيرة فإنّه يختم على قلبه فلا يهتدي أبدا.
وهذه الجملة المتكررة في القرآن الكريم اصبحت مثار جدل بين المدارس المختلفة حيث توهم منها الجبر. والواقع أنّ الضلال والهداية كأيّ حادث طبيعي آخر يتبعان أسبابهما وهي مجموعة من العوامل المعقّدة المتلاحقة التي يؤثّر كل سابق منها في اللاحق والتي لا يمكن لإنسان أن يتعقّبها ولا يعلمها الا الله تعالى وانما يسندان اليه تعالى لأنّه مسبّب الاسباب كما تسند كل الحوادث اليه وإن تكوّنت بتأثير العوامل الطبيعية.
ولا ينافي ذلك اختيار الانسان فإنّ بعض هذه العوامل يتبع إرادته فمن العوامل المؤثّرة في الضلال معاندة الانسان للحقّ بعد معرفته لترجيح ما يناسب هواه. وهذا أمر اختياري ونحن نجد الآن بين أظهرنا اناسا مثقّفين أذكياء يرون الحقّ ويعلمونه ولكنهم يحاولون إخفاءه بل إعلان نقيضه لمصالح دنيوية او لصعوبة الاعتراف بأنّ كل ما بنوا من العقيدة وشيّدوا على اُسسها صروحا عقائدية ضخمة ووصلوا بها الى مواقع مرموقة في المجتمع باطل في باطل.
ومن هذه الجملة يتبين أنّ فتن الدنيا ليست مجرد امتحان يتبين بها مدى إيمان الانسان وكفره بل هي بنفسها من موجبات الضلال والهداية كما أنّ أصل الرسالة ايضا كذلك فإنّ عامة الناس كانوا قبل نزول القرآن وبعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم متساوين غالبا في طريق الضلال وانما تبيّن فيهم الفريقان بنزول الكتاب وإرسال الرسول كما هو الحال في سائر الرسالات.
قال تعالى (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ..).[16] وكل آية من الكتاب وكل آية معجزة تثبت الرسالة وتدعمها تهدي وتضلّ كما قال تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا).[17]
وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ... اي لا يعلم أحد حقيقتهم ولا عددهم ولا طاقاتهم ولا وظائفهم. والجُند اسم للجمع وجمعه باعتبار انواع المجموعات. ويظهر من بعض كتب اللغة أنه خاص بالاعوان ولكن يبدو من عبارة العين أنه لا يختص به قال (كل صنف من الخلق يقال لهم جُند على حدة) والظاهر انه الصحيح ففي الحديث (الارواح جنود مجندة).[18]
وجنود الله لا تنحصر في الملائكة بل كل ما في الكون جنوده تعالى حتى قوى الشر من الجن والبشر قال تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)[19] وقال تعالى (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ..)[20] والمراد بهؤلاء العباد نبوخذ نصر وجيوشه وقد هجموا على بني اسرائيل وقتلوهم وأسروهم وأحرقوا التوراة وهم كافرون بالله تعالى وبنو اسرائيل مؤمنون. وقال تعالى (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ..).[21]
وقوله (جنود ربك) والخطاب للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم تشريف له وتكريم وتعزيز لجانبه في مواجهة المشركين.
وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ... الذكرى مصدر بمعنى التذكرة والتذكير. والضمير يعود الى (جنود ربك) باعتبار أن ذكرهم وذكر عدتهم وما اُوكل اليهم من عذاب أهل النار لم يكن الا تذكيرا للبشر ليتنبّهوا ويلاحظوا ما اُعدّ لهم فلا يؤخذوا على غرّة وغفلة. والغرض من بيان ذلك التعريض بمن استهزأ بالعدد او استقلّه فإنّ اللازم هنا هو التنبّه لا الاستهزاء.
وقيل يعود الضمير الى (عدّتهم) وقيل الى قوله تعالى (عليها تسعة عشر) ولا تختلف النتيجة عليهما. وقيل يعود الى (سقر) وقيل الى السورة وقيل غير ذلك مما هو بعيد عن السياق.
كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ... (كلا) حرف ردع وزجر وإنكار لما مضى فلا بد من عوده الى بعض ما مرّ من أقوال المبطلين والظاهر أنّه يعود الى قول الوليد (ان هذا الا قول البشر) ويشمل كلّ من كرّر كلمته او قال بمثلها. وما بعده الى هنا من الآيات جمل معترضة تعجّل بها للتنديد بما قال الوليد ثم رجع اليه هنا وردعه عن ذلك وبيّن أنّ هذا القرآن ليس الا نذيرا كسائر النذر.
وأقسم ببعض آياته تعالى وقد مرّ أنّ هذه الأقسام يلاحظ فيها التناسب مع الجملة المقسم عليها فأقسم بالقمر لأنه ينير الدرب لمن يسير في الظلمات كما أنّ القرآن ينير الطريق في غياهب الجاهلية الجهلاء، وأقسم بالليل إذ أدبر تنبيها على أنّ ظلمات الجاهلية لا بد لها أن تنقشع أمام هذا النور الساطع الذي قد أسفر كالصبح.
إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ... الضمير المؤنث يعود الى هذه الآيات. والكبر جمع كبرى اي إنها لإحدى الآيات الكبرى التي نزلت لإنذار البشر.
و(نذيرا) حال من نزول الآيات الكبرى المقدّر او يكون التقدير نزلت نذيرا والتذكير بلحاظ انها في الاصل مصدر كالنكير وان كان بمعنى اسم الفاعل.
هذا هو التفسير الواضح للآيات. وللقوم كلام شتّى في كل ما مر، فقيل إنّ (كلّا) ردع لما توهّموه من إمكان دفع الخزنة. وقيل: ردع لما مرّ من قولهم ماذا أراد الله بهذا مثلا. وقيل: إنّه بمعنى (حقّا).
وقيل في الأقسام المذكورة بأنّها قسم ببعض مخلوقاته تعالى لما فيها من الآيات العجيبة. وقيل إنّها تناسب قوله تعالى (يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء).
وقيل في قوله تعالى (إنّها لاحدى الكبر) أنّ الضمير يعود الى (سقر) فالمعنى اجمالا انه ليس الامر كما تتوهمون بل قسما بهذه الآيات إنّ سقر إحدى العظائم وأنّها لإنذار البشر. الى غير ذلك من الأقوال.
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ... الظاهر أنّه بدل عن قوله (للبشر) فالقرآن نذير لمن يريد التقدم في هذا المضمار فيتّبع سبيل الهدى او يتأخّر سواء تأخّر في أصل الايمان او في العمل بما يقتضيه اي هو نذير للجميع ولكن هناك من يؤثّر فيه الإنذار وهناك من لا يتأثّر.
ويمكن أن تكون الآية جملة مستأنفة اي لمن شاء التقدّم أن يتقدّم ومن شاء التأخّر أن يتأخّر فتكون بيانا للاختيار وعدم الاكراه كما قال تعالى (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ..).[22]
[1] التحريم: 6
[2] البقرة: 26
[3] ال عمران: 123 - 126
[4] الانفال: 9 - 12
[5] الانعام: 114
[6] يونس: 94
[7] الرعد: 36
[8] العنكبوت: 47
[9] التحرير والتنوير ج29 ص294
[10] البقرة: 206
[11] التوبة: 124 - 125
[12] الحاقة: 49
[13] المعارج: 36
[14] العنكبوت: 10 - 11
[15] راجع الكشاف وفتح القدير وروح المعاني والتحرير والتنوير وغيرها في تفسير الآيتين
[16] البقرة: 213
[17] الاسراء: 82
[18] امالي الصدوق ص 209
[19] مريم: 83
[20] الاسراء: 5
[21] البقرة: 251
[22] الكهف: 29