مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ... الرهينة فعيلة بمعنى المفعول من الرهن وهو الاستيثاق من الدَّين. واختلف اللغويون في معناها الاصلي فقيل انه الثبات وقيل انه الحبس وقيل انه هو هذا المعنى المعروف فيكون المعنى في الاصل الربط بين الدين وما يوضع عند الدائن كوثيقة للدين ولكنه حيث يستلزم حبس العين المرهونة اُطلق الرهن على الحبس كما أنه يطلق على الثبات والبقاء لاستلزامه بقاء العين عند المرتهن غالبا.  

وعلى كل حال فالمناسب من هذه المعاني هنا هو الربط لا الحبس كما ورد في التفاسير فإنّ الذي يتحقق واقعا حين الرهن هو الربط لأنّ الرهن ليس وضع العين المرهونة عند الدائن كأمانة بل قد لا يوضع عنده فلا يستلزم الحبس ولا الثبات والبقاء وانما حقيقته الربط الاعتباري بين الدين وتسلّط الدائن على العين لاستيفاء دينه منه.

فمعنى الآية بناءا على ذلك: كلّ نفس اي كل إنسان رهين بعمله اي مربوط به لا يتركه العمل وهذا أمر واضح وليس خبرا غيبيّا فما يعمله الإنسان يتعلّق به تعلّقا ذاتـيّا لا يمكن انفكاكه عنه لا في الدنيا ولا في الآخرة. وسيظهر بملاحظة ما يلي أنّ ما ذكروه غير صحيح ولا تنطبق عليه الآية.

وربما يتوهم التنافي بين هذه الآية التي استثنت أصحاب اليمين وقوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ).[1]

وهناك محاولات لدفع توهم التنافي قال في الكشاف (رهينة ليست بتأنيث رهين في قوله كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ لتأنيث النفس لأنه لو قصدت الصفة لقيل: رهين، لأنّ فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم كأنّه قيل: كل نفس بما كسبت رهن – الى ان قال – والمعنى: كل نفس رهن بكسبها عند اللّه غير مفكوك إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فإنهم فكّوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم كما يخلّص الراهن رهنه بأداء الحق..).

وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله في تعقيب كلامه (وكأنّ العناية في عدّ كل نفس رهينة أن للّه عليها حق العبودية بالإيمان والعمل الصالح فهي رهينة محفوظة محبوسة عند الله حتى توفي دينه وتؤدي حقه تعالى فإن آمنت وصلحت فُكّت وأُطلقت، وإن كفرت وأجرمت وماتت على ذلك كانت رهينة محبوسة دائما، وهذا غير كونها رهين عملها ملازمة لما اكتسبت من خير وشر كما تقدّم في قوله تعالى: «كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ».   

وكأنّه رحمه الله نسي ما علّقه على كلامه في سورة الطور حيث قال (وحمل صاحب الكشاف الآية على نوع من الاستعارة فرفع به التنافي بين الآيتين قال: كأنّ نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به كما يرهن الرجل عبده بدين عليه فإن عمل صالحا فكّها وخلّصها وإلا أوبقها. انتهى. وأنت خبير بأنّ مجرد ما ذكره لا يوجّه اتصال الجملة أعني قوله: «كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ» بما قبلها).

وقال هناك في رفع التنافي (إنّ المرء رهن مقبوض ومحفوظ عند الله سبحانه بما كسبه من خير أو شر حتى يوفيه جزاء ما عمله من ثواب أو عقاب فلو نقص شيئا من عمله ولم يوفه ذلك لم يكن رهين ما كسب بل رهين بعض ما عمل وامتلك بعضه الآخر غيره كذريّته الملحقين به وأما قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ» فالمراد كونها رهينة العذاب يوم القيامة).

ولم يتّضح لي معنى كون الانسان مقبوضا ومحفوظا عند الله بما كسبه ولا الوجه في حبسه حتى يوفيه الثواب الى آخر ما ذكره. والضعف والتكلف باديان على القولين بوضوح واما ما ذكره في الكشاف من أنّ الرهينة ليست تأنيثا لرهين لأن الفعيل بمعنى المفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث فيردّه أنّ ذلك لا يمنع من استعمال رهينة مؤنثا لرهين وانما يقتضي جواز إرادة المذكر والمؤنث وقد صرّح الجوهري بأن رهينة مؤنث رهين.

والصحيح في رفع التنافي ما أشرنا اليه هنا وذكرناه في تفسير سورة الطور من أنّ الرهن بمعنى الارتباط الوثيق بين الانسان وعمله وأنّ هذا لا علاقة له بالايمان والكفر او التقوى والإجرام فما ورد في سورة الطور واضح معناه.

وأما استثناء أصحاب اليمين فباعتبار أنه تعالى يفك الارتباط بينهم وبين أعمالهم السيئة فقط بالغفران والتكفير لئلا يشعروا بأيّ أذى نفسي من أعمالهم ولا يتبين للآخرين فيفضحهم بل الظاهر أنّ الله تعالى ينسي الملائكة وسائر أهل الجنة ولعل قوله تعالى (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)[2] يقتضيه ايضا اذ لو تذكّر بعضهم أعمال بعض بقي الغلّ في صدورهم.

ويلاحظ أنّ المستثنى هم أصحاب اليمين وهذا العنوان لا يشمل المقربين المعصومين لقوله تعالى (وكنتم أزواجا ثلاثة..) ثم قسّمهم الى اصحاب الشمال او المشئمة واليمين او الميمنة والمقرّبين السابقين السابقين. والمقربون ليست لهم أعمال سيئة تحتاج الى تكفير، فهم داخلون في قوله تعالى (كل نفس بما كسبت رهينة) بمعنى أنّ لهم أعمالهم لا تنفصل عنهم لأنّ أعمالهم كلها حسنات.

وأما على ما ذكره القوم فيشكل استثناء أصحاب اليمين خاصة اذ يبقى المقربون وهم داخلون في المستثنى منه محبوسين لم ينفك عنهم الرهن لعدم شمول الاستثناء لهم.

وقد تنبه العلامة رحمه الله الى هذا الاشكال وان لم يصرّح به فحاول دفعه وقال (وأما السابقون المقربون... فهؤلاء قد استقرّوا في مستقرّ العبودية لا يملكون نفسا ولا عمل نفس فنفوسهم للّه وكذلك أعمالهم فلا يُحضَرون ولا يُحاسَبون قال تعالى: «فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» الصافات: 128، فهم خارجون عن المقسم رأسا).

وهنا ايضا لم يتّضح معنى أنّهم لا يملكون نفسا ولا عمل نفس. والصحيح أنّهم داخلون في المقسم وأنّ الاستثناء لا يشملهم ولا يحتاجون اليه.

فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ... (في جنات) خبر لمبتدأ مقدّر اي هم في جنّات او حال عنهم اي يتساءلون حال كونهم في جنات.

والكلام في معنى التساؤل عن المجرمين فقد قيل انه بمعنى يسألون وأنه اذا كان السؤال من قبل جماعة عبّر عنه بالتساؤل ولكنه خلاف ظاهر اللفظ الذي يقتضي أن يكون هناك سؤال من الجانبين كما هو الحال في سائر موارد استعماله في القرآن فالظاهر أن المراد تساؤل أصحاب اليمين فيما بينهم.

ومن جهة اخرى فإن المسؤولين ليسوا هم المجرمين كما يظن بعضهم والا لقال يسالون المجرمين بل هم موضوع السؤال فلا بد من كون المسؤولين من أصحاب اليمين ايضا.

فالمعنى أن من الحديث الدائر بين أصحاب اليمين هو التساؤل عما آل اليه حال المجرمين وهم يعلمون بالطبع أنهم في النار انما السؤال عن سبب دخولهم في النار والواقع أن ذكر هذه المحادثة والتساؤل هنا ليس الا لاعتبار الناس ولكي يعرفوا أسباب دخول النار.

ومن الملفت هنا التعبير بالمجرمين بدلا عن الكافرين او المشركين كما يحبه المسلمون لئلا يشملهم ولكن الواقع أن بعض من يُدعون من المسلمين هم في رأس الإجرام وهو في الاصل القطع والمراد من يقطع صلته بربه وهذا يشمل فراعنة الاُمّة وطغاتها وان أظهروا الايمان وصلّوا وحجّوا وطبعوا المصاحف.

ويلاحظ ايضا أنّ التساؤل ليس بين كل أصحاب الجنة بل بين أصحاب اليمين خاصّة ولعل السرّ فيه أنهم لهم أخطاء ومعاصي فالسؤال ينشأ من التفرقة بينهم وبين المجرمين وأنهم لماذا لم يشملهم العفو والرحمة كما شملا اصحاب اليمين.  

والذي أوقع المفسّرين في تأويل التساؤل هو ما يبدو من خطاب المجرمين بالسؤال (ما سلككم في سقر) قال في الكشاف (ما سلككم ليس ببيان للتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المسؤولين عنهم لأنّ المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون: قلنا لهم ما سلككم فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ إلا أن الكلام جي‏ء به على الحذف والاختصار كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه).

ولكن هذا حذف لا قرينة عليه في السياق والاولى أن يقال إنه حكاية عن التساؤل بين أصحاب اليمين ولكنه خطاب افتراضي وهذا مما يتعارف في الحديث فبينما يلقي المتكلم خطابه الى أصحابه حول شخص او اشخاص يريد نقدهم والرد عليهم يقول ذلك بلسان الخطاب والاستفهام الانكاري كأنه يفرضهم حاضرين.

و(سلككم) بمعنى أدخلكم والمراد السبب الذي به استحقوا النار ولم تشملهم الرحمة والمغفرة مع طول بسطهما.

قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ... اربع امور ذكرت هنا من أسباب دخول النار. وهذا الجواب ايضا مما ساهم في إلجاء القوم الى التأويل حيث تصوروا أن هذا القول مخاطبة بين الفريقين ولذلك ورد في الميزان أن التساؤل يصدق اذا كان السؤال من جمع الى جمع.

والصحيح أنّ هذا الجواب ليس قولا صادرا عنهم وانما هو لسان الحال فلو كانوا حاضرين لأجابوا بذلك ومثل ذلك كثير في القرآن كما مرّ بيانه في تفسير سورة الجن. والظاهر أنّ هذه الخصال لمجموعتهم لا لكلّ فرد منهم فتكفي خصلة واحدة منها لدخول النار.

وأوّل أمر يوجب الدخول في النار هو ترك الصلاة وهو حقا إثم عظيم حيث يقطع الانسان صلته بربه الذي أجزل عليه النعم ولذلك يعتبر تارك الصلاة كافرا يوم القيامة وان كان في الدنيا في عداد المؤمنين ويترتب عليه أحكام الاسلام.

وينبغي التنبه الى أنه ليس كل صلاة تمنع من دخول النار فقد قال تعالى (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ)[3] والسهو هنا ليس في الصلاة بل عنها. قال الخليل في العين (السهو: الغفلة عن الشي‏ء وذهاب القلب عنه..) فالمراد هنا الذي يصلي وهو غافل عن صلاته. ولعله هو المراد مما ورد في الحديث أن المراد بالسهو التضييع.[4]

ويدلّ على ذلك ما ورد من أنّ الله تعالى لا يتقبّل من الصلاة الا ما كان المصلي فيه مقبلا على صلاته ففي حديث صحيح (من صلى فأقبل على صلاته لم يحدّث نفسه فيها أو لم يسه فيها أقبل الله عليه ما أقبل عليها، فربما رفع نصفها أو ربعها أو ثلثها أو خمسها، وإنما اُمرنا بالسنة ليكمل بها ما ذهب من المكتوبة). [5]

والتوجّه الى الله تعالى روح الصلاة والهدف الأساس منها فالصلاة بدونها وان كانت موجبة لسقوط التكليف وعدم وجوب القضاء ولكنّها لا تؤثر شيئا في الكمال المنشود فلو كان الانسان زاهدا في الآخرة كما نشاهده من أنفسنا وقانعا بأن لا يدخل النار فربما تفيده هذه الصلاة لانه لا يعتبر معها تاركا لها رأسا وربما لا تفيد لأنّ المطلوب من الصلاة وسائر الاعمال الصالحة أن تكفّر الذنوب – وما أكثرها – وهذه الصلاة الفاقدة للروح لا تفيد في التكفير شيئا.

وأما اذا أراد من صلاته أن يتقرب الى الله تعالى كما هو الهدف منها تشريعا وإنجازا فإنّ هذه الصلاة لا تفيد شيئا كما دلت عليه الرواية ومن المؤسف أنه لا يمكن تعويضها بصلاة اخرى فلا تفيد الاعادة ايضا لانها صحيحة حسب المعايير الشرعية فهناك فرق بين القبول والصحة فربما يكون العمل صحيحا ولكنه غير مقبول.

ويشبّه ذلك بما اذا طلب منك من تجب إطاعته ماءا باردا فأتيته بماء دافئ فشربه فإنّه يرتوي ولا يطلب الماء مرة اخرى بل ربّما يضرّه مع أنّ المطلوب لم يتحقّق ولا تستحقّ على عملك الاجر.

ومن الغريب أنّ الانسان يفرح ويبتهج اذا قيل له إنّ هذه الصلاة لا يجب قضاؤها بل لا يفيد القضاء ولا يصحّ مع أنّ المفروض أن يكون ذلك محزنا له لو كان مؤمنا لانه يمنع من وصوله الى الهدف المنشود ولكننا نبحث دائما عن الاسهل في ما نطلب منه النفع في الآخرة فاذا كان الاثم له كفارة أحزننا ذلك وان لم تكن له كفارة ابتهجنا مع أن الكفّارة تستر الذنب وترفع أثره السيء وأكبر الاثم ما لا كفارة له.   

ويمكن أن يكون المراد التضييع من حيث الوقت كما لو لم يحافظ المكلف على اوقات الفضيلة بصورة مستمرة وكان يؤخّر الصلاة من دون سبب يضطره اليه الى آخر الوقت يوميا كما هو الحال في كثير من الناس فيهتمّون بكل أمر من امور الدنيا أكثر من الصلاة وهذا يعتبر استخفافا بالصلاة واستهانة بها وهو محرّم شرعا حتى لو كان لا يترك الصلاة ابدا فضلا عمّن يتركها طول الوقت لامر من امور الدنيا او لصعوبة في أدائها كما لو كان على سفر او في حال يصعب عليه التهيّؤ للصلاة كما لو كان راقدا في المستشفى مثلا.

ومن هذا القبيل ايضا أن لا يبادر الانسان الى النوم في وقت مبكر ليلا وهو يعلم أنّ ذلك يؤدي الى ترك فريضة الصبح اضطرارا فإنّ مثل ذلك اذا كان متكرّرا ربما يعد استهانة بالصلاة فمثل هذا وإن كان من المصلين ولكنه قد يكون من الذين تشملهم آية (فويل للمصلين).

والروايات كثيرة متواترة في التنديد بالاستخفاف بالصلاة ففي حديث صحيح عن زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: (لا تتهاون بصلاتك فإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عند موته: ليس منّي من استخفّ بصلاته، ليس منّي من شرب مسكرا، لايرد علي الحوض، لا والله).[6]

وعن أبي بصير قال: (دخلت على أُمّ حميده أُعزّيها بأبي عبدالله (عليه السلام)، فبكت وبكيت لبكائها، ثمّ قالت: يا أبا محمّد، لو رأيت أبا عبدالله (عليه السلام) عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه ثمّ قال: اجمعوا كلّ مَنْ بيني وبينه قرابة قالت: فما تركنا أحداً إلاّ جمعناه، فنظر إليهم ثم قال: إن شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة).[7]

ومن أقبح أنواع التضييع وأكثرها شيوعا عدم الاهتمام بشروطها وأركانها فتجد بعض الناس يصرف ساعات من عمره في ما لا ينبغي صرف الوقت فيه أبدا من مشاهدة بعض الافلام او يصرف وقته في مجالسة الاصدقاء من دون فائدة لو لم يكن فيها ضرر ثم اذا أراد الصلاة استعجل فيها ونقر كنقر الغراب كما ورد في الحديث.

روى الكليني بسند صحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم جالس في المسجد إذ دخل رجل فقام يصلي فلم يتمّ ركوعه ولا سجوده فقال صلى الله عليه وآله وسلّم: نقر كنقر الغراب لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتنّ على غير ديني).[8]

وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ... يأتي بعد ذلك علاقة الانسان بمجتمعه وبالطبقة الفقيرة بالذات والإطعام أقلّ ما يمكن أن يقدّمه الانسان من مساعدة للفقير ولعلّ ذكره من باب المثال واللازم أن يساعد المتمكّن كل من يحتاج الى مساعدة.

وهذا ليس أمرا أخلاقيا بل هو واجب شرعي فالإنفاق الواجب لا ينحصر في الخمس والزكاة بل تجب على كل أحد مساعدة المحتاج اينما لقيه اذا كان متمكنا من المساعدة فاذا علم الانسان أن جاره او اي احد آخر من المؤمنين ممن يمكنه الوصول اليه محتاج الى طعام او الى ملابس او الى معالجة ضرورية قد يؤدي تركها الى الهلاك او ما يقرب منه وهو قادر على تلبية حاجته وجبت عليه المساعدة بل يأثم بتركها إثما عظيما ربما يستوجب دخول النار.

وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ... الخوض في الاصل هو الغوص في الماء ويطلق على من يفيض في حديث مع غيره ويطيل الكلام ويدخل في التفاصيل. ويستعمل غالبا في التحدّث عن الامور الباطلة كاغتياب الناس او التشكيك في العقائد الحقة.

قال تعالى (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ..)[9] وقوله (نزّل عليكم في الكتاب) اي فيما سبق من القرآن. والمراد قوله تعالى (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ..).[10] فانه في سورة الانعام وهي من السور المكية.

فالمراد هنا الخوض في الاحاديث المضلّلة وهذا أمر خطير جدا ونحن نجد اليوم كثرة الخائضين في الباطل على اختلاف مشاربهم وتعدد اتّجاهاتهم مع استخدام أحدث الوسائل لنشر الضلال فمنهم من ينكر وجود الله تعالى ويحاول بشتى الطرق زرع الإلحاد في النفوس ومنهم من يحارب القرآن ويحاول النيل من كرامته وقدسيّته بأيّ وسيلة ولو بالاستهزاء ومنهم من يتهجّم على أهل البيت عليهم السلام ومذهبهم القويم الذي هو الاسلام الناصع ومنهم من يحاول النيل من كرامة المرجعية الرشيدة والتشكيك في جواز الاعتماد على الفقهاء في امور الدين وهو لا يقل خطرا عمّا سبق. والخوض مع الخائضين يشمل كل ذلك.

وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ... وهذه الخصلة أدهى الدواهي والطريق الى كل فساد وجريمة لأنّ الانسان في كثير من المواقف لا يمنعه شيء من ارتكاب الجريمة الا التقوى فان كذّب بيوم الدين – والدين: الجزاء – فلا شيء يمنعه والدواعي الى ارتكاب الجرائم كثيرة.

والتكذيب قد لا يكون بالقول فتجد من يظهر الايمان باللسان بل ببعض الاعمال ايضا ولكنه يرتكب من الجرائم ما لا يمكن أن يصدر ممن يعتقد بيوم الدين فالذين قتلوا الامام الحسين عليه السلام كانوا يصلّون والذي يقول في زماننا أنه لو كان في ذلك العهد لكان ممن يشارك في قتله يصلي ايضا بل يقال فيه انه داعية!!! فهل ياترى يعتقد هذا بيوم الدين؟!

حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ... اي ما زلنا على هذه الحالة الى أن أتانا الموت ويعبر عنه باليقين إما لأنه أمر يقيني لا يحيد عنه أحد أو لأنّ الغطاء ينكشف به ويحصل اليقين للانسان بكل الحقائق الغيبية التي كان يشك فيها.

فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ... الفاء لترتب الجزاء. والتقدير: حيث كانوا كذلك فما تنفعهم شفاعة الشافعين. وهو كالصريح في أنّ هناك شفعاء وأنّهم يشفعون ولكن الشفاعة لا تنفع هؤلاء المجرمين الذين قطعوا العلاقة بربهم ولم يرحموا الفقراء ونشروا الضلال وكذّبوا بالآخرة.

وذلك لأنّ الشفاعة عند الله لا تكون الا بإذنه وهو لا يأذن لهم ولأنّ الشفاعة هي ضمّ الارتباط بأحد المقربين الى العمل الصالح نسبيا مع وجود بعض الخطايا والنقص في العمل فيكتمل العمل بهذا الارتباط ويرقى الى درجة القبول وأما اذا لم يكن لهم عمل مقرّب أساسا بل كل ما أتوا به كان مبعّدا عن الله تعالى فأين الشفاعة؟! هذا مع أنهم لا ارتباط لهم بالشفعاء فلا شفاعة لهم أصلا.

 


[1] الطور: 21

[2] الحجر: 47

[3] الماعون: 4 – 5

 

[4] الكافي ج3 ص268 باب من حافظ على صلاته او ضيعها ح5

[5]  الكافي ج3 ص363

[6] الكافي ج3 ص269 باب من حافظ على صلاته او ضيعها ح7

[7] ثواب الاعمال ص228 باب عقاب من استخف بصلاته

[8] الكافي ج3 ص268 باب من حافظ على صلاته او ضيعها ح6

[9] النساء: 140

[10] الانعام: 68