مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ... الفاء للتفريع اي يترتّب على ما مرّ من تذكير الناس بما سيستقبلهم من مخاطر في يوم المعاد التعجب من إعراضهم عن التذكرة اي عن كل ما يذكّرهم بما هو خير لهم والمراد بها هنا القرآن وآياته. والاستفهام لانشاء التعجّب وفي الكلام تقدير اي ماذا حدث لهم؟! و(معرضين) حال عنهم. فالمعنى ماذا حدث لهم حال كونهم معرضين عن التذكرة اي ما هو السبب في ذلك؟!

ومردّ السؤال الى الاستغراب من حالهم حيث يعرضون عن الآيات التي تذكّرهم بالخطر العظيم الذي ينتظرهم والمفروض أن الانسان العاقل يهتمّ بمثل هذا الخبر ويتهيّأ لمواجهة الخطر.

وحقّا إنّه لأمر يثير العجب فالانسان اذا سمع بأقل خطر يهدد حياته او صحّته او ماله او أيّ شيء يتعلق به في هذه الحياة الزائلة فإنّه يحاول التأكّد من حقيقة الامر واذا بقي محتملا وان كان الاحتمال ضعيفا فانه يبذل كل ما في وسعه لدفع الضرر المحتمل ولكنه يسمع بهذا الخطر العظيم الذي لا ينتهي أمده ويشمل كل جوانب الحياة ويعرض عنه ولا يهتم به.

كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ... يشبّههم في إعراضهم عن الذكر والهداية بحمر تفرّ من الاسد او الصياد اذا أحسّت بهما.

والحمر جمع حمار والمراد الوحشي منه. و(مستنفرة) من النفور وباب الاستفعال يؤكّده ولعلّ السر في دلالته على التأكيد أنه يدل على طلب النفرة مع أنه نافر بالفعل فمعناه أنه يستزيد منه.

والقسورة مأخوذ من القسر اي الاكراه والجبر ويطلق على الصيّاد وقيل يطلق على الاسد ايضا. والظاهر صحة إطلاقه على كل سبع.

والغرض من هذا التشبيه التعجيب من حالتهم حيث ينفرون من التذكير والهداية التي لا تقصد الا نفعهم كما ينفر الحمار الوحشي من الصيّاد الذي يريد قتله.

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً... (بل) للاضراب. واختلفوا في وجهه فقيل إنّ المراد أنّ إعراضهم ليس لمجرد النفرة وقيل إنّه انتقال لوجه آخر من إعراضهم وقيل المراد أنّهم لا يكتفون بتلك التذكرة بل يريدون كتبا مستقلة وقيل غير ذلك.

والظاهر أنّه إضراب عن تنفرهم وابتعادهم الى استهزائهم بالتذكرة لأنّ المطالبة بالصحف لكل واحد ليس على سبيل الجدّ اذ من الواضح أنّ ذلك غير ممكن في الرسالات فالقصد الجدّي منه الاستهزاء.

والمنشّرة مبالغة في النشر في مقابل الصحيفة المطويّة التي لا يتبين محتواها فالمراد إشتراطهم أن تكون الصحف واضحة المضمون وواضحة في أنها خطاب لهم. ولم يكتفوا بصحيفة واحدة بل طالبوا بصحف متعددة لكل واحد بالنظر الى تعدّد الوحي المنزل على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم فأرادوا أن يوجّه الى كل واحد منهم في كل موضوع مستحدث صحيفة مستقلة.

كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ... (كلّا) ردّ لما يبدو من طلبهم وهو أنّه طلب واقعي وأنه شرط منهم للايمان بالرسالة فهذه الآية تكذّبهم في ذلك وتبيّن أنّ سبب عدم إيمانهم بالرسالة أنهم لا يخافون الآخرة وليس المراد بعدم الخوف عدم الايمان كما قيل بل المراد الاشارة الى سفاهتهم وغبائهم فان الانسان الحكيم يخاف من احتمال هذا الخطر العظيم الذي أخبر به الانبياء ونزلت به الكتب الالهية.

ويحتمل أن يكون المراد بالردع ردّ طلبهم لانزال الصحف لعدم صلوحهم لذلك كما هو واضح مع أنّ انزال الكتاب على كل مكلف باستقلاله غير معقول ومناف لوحدة الشريعة وتماسك المجتمع.

وقيل إنّ معنى الاضراب أنّهم لا يؤمنون حتى لو اُنزل عليهم الصحف وأنّ المراد بعدم خوفهم من الآخرة عدم إيمانهم بها. وهو بعيد جدا.

كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ... وهذا ردع ايضا عن طلبهم إنزال الصحف والضمير يعود الى القرآن وجملة (انه تذكرة) تعليل للردع ومعناها أن في ما أرسلناه كفاية كما قال تعالى (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ..)[1] وقال ايضا (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى).[2]

فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ... اي فمن أراد أن يذّكّر ذكر هذا الكتاب وهو كاف شاف. قيل معنى (ذكره) اتعظ به. والظاهر أنه لا حاجة الى التأويل فذكر القرآن بمعنى حفظه والعمل به وعدم تناسيه في جميع شؤون الحياة.

وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ... اي ما يذكرون الكتاب ولا يهتدون به الا أن يشاء الله تعالى وهذا مضمون متكرر في القرآن الكريم يدفع به توهم استقلال الانسان المختار أمام إرادة الله فمشيئة الانسان كأيّ حادث آخر لا تتحقق الا بارادته تعالى.

وربما يثير هذا الامر شبهة الجبر وأنّ الانسان كغيره غير مختار فلماذا يعاقَب ولماذا يؤمر ويُنهى؟! وذلك لأنّ الآية تدلّ على أنّ ذكره وهدايته وايمانه لا يتحقق بإرادته بل بإرادة الله تعالى وخصوصا في مثل قوله تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[3] حيث إنّ المشيئة هنا معلقة على مشيئته تعالى.

وقد يجاب عن هذه الشبهة بأن المراد بنفي مشيئة الانسان وذكره واهتدائه الا اذا أراد الله تعالى هو تعليق الهداية الإجبارية على إرادته تعالى فمعنى الآية أنهم لا يؤمنون اختيارا فلا يبقى لهدايتهم سبيل الا الاجبار والقهر وهو غير ممكن الا من الله تعالى فهو الذي يقدر على هدايتهم قهرا وهو لا يُكره احدا على الايمان والغرض من ذلك تسلية الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ورفع الحرج عنه حيث إنّه كسائر الرسل كان يحزن لعدم تمكنه من ارشادهم فالله تعالى يسلّيه بأن الارشاد القهري ليس بيدك.

وهذا هو المصرّح به في موارد عديدة من الكتاب العزيز كقوله تعالى (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ..)[4] فإنّ الهداية المنفية عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم هي الهداية القهرية واما إراءة الطريق فهي وظيفته التي قضى عمره فيها وأنجزها على أحسن وجه بفضل الله تعالى. وهذه الهداية القهرية هي التي لا يتمكن منها أحد الا الله تعالى.

ولكن الصحيح أنّ هذه الآية وأمثالها كآية سورة التكوير ليست من قبيل نفي الهداية القهرية بل المراد بها نفي كون الانسان مختارا بالاطلاق بمعنى أنّ اختياريته أمر أراده الله تعالى فالذي تعلّقت به المشيئة الالهية هو أن يكون الانسان مختارا وهذا الاختيار لم يمنح له بصورة مطلقة فيكون خارجا عن السلطة او يتوقف منعه على مشيئة الله تعالى بل نفس اختياره الخاص باذن الله تعالى وأمره كما أنّ القدرة ايضا من الله تعالى.

فالانسان قادر على اُمور خاصّة وهذه القدرة ليست مفوّضة وممنوحة له فيستقلّ بها بل تُمنح له باستمرار كالطاقة التي يمدّها مولّد الكهرباء فالاختيار ايضا كذلك لا يستقل بها الانسان وهذا هو معنى نفي التفويض في ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام من الحديث المشهور (لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين).[5]

والاختيار لدى الانسان ظاهرة غريبة وهو مناط خلافته عن الله تعالى حيث قال (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)[6]  فالمؤثّرات التي تؤثر في تحقق الارادة لدى الانسان ليفعل فعلا او يترك كلها تؤثر في مقدمات الارادة كالتصور والتصديق بكونه مفيدا او مضرا فان الانسان الذي تربى مثلا في بيت يشرب فيه الخمر ليلا ونهارا ويستحب ويتلذذ به ولا يدور حديث اصلا عن التنديد به الا اذا كان عن تأثيره في الصحة فلا يمكن أن يحدث في نفسه عامل يمنع من الشرب للتقوى من الله تعالى فهو لا يشعر بأقلّ حزازة في نفسه منه بخلاف من تربّى في بيئة مسلمة حتى لو كان بعضهم يشربه فان الشعور بالذنب هو السائد في هذه البيئة لكل من يشرب وهذا بالطبع يحقّق عاملا سلبيا كلّما أراد أن يشرب ولكنّه يؤثّر في مقدمات تحقّق الإرادة حيث يمنع من التصديق بكونه نافعا مطلقا ليس فيه ايّ خطر عليه في المستقبل.

وأما بعد تحقق العوامل المؤثرة في الارادة سلبا وايجابا وملاحظة الترجيح بينها تتحقق ارادة الفعل او الترك باختيار الانسان من دون تأثير أي عامل خارجي فيها. والارادة فعل نفسي معاصر للفعل الخارجي. وهذا الاختيار هو مناط الخلافة الالهية.

ولكن هل هذا الاختيار مطلق كما يتصور الانسان؟

الجواب هو النفي طبعا وان لم يشعر الانسان بأنّ هناك يد قاهرة فوقه تمنحه هذا الاختيار وأنها اذا لم تمنحه لحظة لم يتمكن الانسان من الارادة.

فالظاهر أن هذا هو معنى قوله تعالى (وما تشاءون الا ان يشاء الله) وكذلك قوله تعالى (وما يذكرون الا ان يشاء الله) اي يشاء اختيارهم فيريدوا الذكر او عدمه او اي فعل آخر او تركه.

والغرض من التنبيه على هذه الحقيقة هنا هو تصحيح تصور الانسان فانه حيث سمع قوله تعالى (فمن شاء ذكره) ربما يتصور أن الامر كله بيده وتحت اختياره وأن إرادته خارجة عن السلطة الالهية فهذه الجملة ترفع هذا الوهم وتبين للانسان أنه ليس كما يتوهم مختارا بقول مطلق بل نفس اختياره تحت السلطة ومنحة مستمرة كالطاقة الكهربائية والقلوب بيده تعالى يقلبها كيفما شاء.

ومن جهة اخرى تترتب على هذا التنبيه تسلية للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لئلا يشعر بالحرج اذا لم يتمكن من إرشاد الناس ويعلم أنّ الامر تحت سلطة القادر المطلق.

هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ... اي هو أهل لأن يُتّقى فإنّ بأسه شديد وعقابه أليم ومع ذلك فهو أهل للمغفرة ورحمته وسعت كل شيء.

والغرض من هذه الجملة أن يبقى الانسان بين الخوف والرجاء من جهة ربه فلا يأمن غضبه ولا ييأس من مغفرته وهذا هو العامل الاساس في تصحيح مسار الارادة الانسانية والتأثير في مقدمات تحققها فلا يستهين بمخالفة أوامر ربه ولا يبعثه اليأس الى عدم التوبة والرجوع.

نسأل الله التوفيق لنيل رضاه والحمد له اولا وآخرا والصلاة على محمد وآله الطاهرين.  

 


[1] العنكبوت: 50 - 51

[2] طه: 133

[3] التكوير: 29

[4] القصص: 56

[5] الكافي ج1 ص160 باب الجبر والقدر

[6] البقرة: 30