مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً... الآية تتضمن حكما آخر خاصا بأصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مما يحكي عن الوضع القائم آنذاك وموضوعه التناجي معه صلى الله عليه وآله وسلّم ومن هنا ناسب ذكره في هذا الموضع حيث كان الحديث في الآيات السابقة عن بعض ما يتعلق بالنجوى.

والآية تدل على أن النجوى في حد ذاتها ليست مرغوبا عنها كما توهمه بعض المفسرين ومر الكلام حوله ولكن اذا أراد أحد من الاغنياء خاصة أن يناجي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فعليه أن يقدّم قبل نجواه صدقة ولم يحدّد المقدار. وبين اليدين كناية عن كونها قبل النجوى وقريبا منها كما أن اليدين قريبتان من الانسان فلا يقال جلس بين يديه الا اذا كان قريبا منه. وانما خصصنا الخطاب بالاغنياء مع أن الآية مطلقة والخطاب فيها لعامة المؤمنين من جهة ورود استثناء من لا يجد ذلك وهم الفقراء في ذيل الآية. 

ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ... اي دفع الصدقة قبل النجوى خير لكم قيل لما فيها من الثواب وأطهر لأن الصدقة تزكي النفس وتطهرها ولذلك سميت زكاة والمراد أنها تطهر النفس من رذيلة الشحّ وقد قال تعالى (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).[1]

ويمكن أن يكون التعليل بلحاظ أن ذلك خير ومصلحة للمجتمع لا الفرد الذي يقدم الصدقة وذلك لأنها تمنع من استغلال بعض الصحابة قربهم لدى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم واستئثارهم لوقته الثمين ولعل بعضهم كان يناجي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لغرض اظهار اختصاصه به وبالطبع فان الفقراء لتواضعهم ما كانوا يزاحمون الاغنياء في ذلك فيحصل في نفوسهم من الحقد والشحناء ما لا يحمد عقباه فجاء هذا الحكم ليمنع الاغنياء عن ذلك وهم بالطبع يمتنعون من دفع الصدقة لعدم ضرورة تلجئهم الى النجوى وهذا خير للمجتمع حيث يفرغ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم للجميع ويحظى الجميع بالتحدث اليه على حد سواء وأطهر لقلوبهم حيث تفرغ من الحقد والشحناء.

فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ... هذه الجملة تستثني من وجوب التصدق الفقراء الذين لا يجدون ما يتصدقون به فالله تعالى يغفر لهم ذلك ويستر عليهم فلا يعتبر عدم التصدق منهم اثما كما يعتبره بالنسبة للاغنياء ومعنى ذلك انهم يجوز لهم النجوى مع الرسول صلى الله عليه واله وسلم من دون تقديم الصدقة.

والغفران كثيرا ما يستعمل في القرآن لنفي كون عمل اثما مع صلاحيته لذلك اذ كان من الممكن أن يمنع الله الجميع من النجوى بدون صدقة فيشمل الفقراء فحيث رفع عنهم ذلك الحكم كان غفرانا وسترا عليهم من الوقوع في الاثم وهو رحيم بهم فلا يكلفهم ما لا يقدرون عليه او يعوضهم عن تزكية النفس بدفع المال فيحصل لهم من التزكية بالقناعة والعفة كما يحصل للمزكين بل اكثر وأعمق.

وهذه الجملة تدل على وجوب الصدقة قبل النجوى فلا وجه لما احتمله بعضهم من الندب بقرينة قوله تعالى (ذلك خير لكم وأطهر) ولا دلالة في ذلك فهو من قبيل قوله تعالى (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).[2]

أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ... الاستفهام للتوبيخ والاشفاق هو الحذر وعبر بعضهم عن مفاده بأنه الرقة وفي المفردات عناية مختلطة بخوف. والآية صريحة في معاتبة القوم بأنهم امتنعوا عن النجوى لبخلهم عن دفع الصدقة مع أنها لم تقدّر بقدر فكان يجزي الشيء القليل وهذا غاية البخل. والتعبير بالاشفاق ايضا يدل على شدة البخل كأنهم خافوا على اموالهم من النفاد بهذه الصدقة اليسيرة وهذا يدل على شدة العلاقة بالمال. والظاهر أنهم ما كانوا يجدون ضرورة للنجوى فامتنعوا عن دفع الصدقة. والاتيان بصيغة الجمع من جهة تعدد النجوى المستتبع لتعدد الصدقة.

ومن المتواتر اجمالا أن الآية السابقة لم يعمل بها أحد الا امير المؤمنين عليه الصلاة والسلام وكان مما يفتخر به أمام الناس كما ورد في عدة روايات:

منها ما في احتجاج الطبرسي من خطابه عليه السلام لابي بكر ضمن مجموعة من الاحتجاجات (فانشدك بالله انت الذي قدمت بين يدي نجوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم صدقة فناجيته اذ عاتب الله قوما فقال أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات أم أنا؟ قال بل انت).[3]

ومنها ما في خصال الصدوق في باب السبعين في حديث طويل أنه عليه السلام ذكر سبعين منقبة لا يشاركه فيها أحد قال عليه السلام (وأما الرابعة والعشرون فان الله عز وجل أنزل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلّم "يا ايها الذين آمنوا اذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة" فكان لي دينار فبعته عشرة دراهم فكنت اذا ناجيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم اصدق قبل ذلك بدرهم ووالله ما فعل هذا أحد من أصحابه قبلي ولا بعدي فأنزل الله عز وجل "أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فاذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم... الآية" فهل تكون التوبة الا من ذنب كان؟!..).[4]

ومثل ذلك ورد في كتب العامة بصور مختلفة مما لا يسع أحدا انكاره ومنها ما رواه الحاكم في المستدرك بسنده عن عبدالرحمن بن ابي ليلى قال (قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَآيَةً مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي، آيَةُ النَّجْوَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً.. الْآيَةَ. قَالَ: كَانَ عِنْدِي دِينَارٌ فَبِعْتُهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَنَاجَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُنْتُ كُلَّمَا نَاجَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمْتُ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَايَ دِرْهَمًا، ثُمَّ نُسِخَتْ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ فَنَزَلَتْ: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ.. الْآيَةَ) ثم قال «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ».[5]

ومن المعلوم أن الحكم لا ينسخ الا بعد أن يعمل به في فترة ولذلك كان له عليه السلام فضل كبير على القوم حيث فسح لهم المجال للنجوى من دون صدقة بأن عمل بالحكم ليمكن النسخ. ومن الغريب ما ذكره بعض ممن في قلوبهم مرض بأن اختصاصه عليه السلام بذلك لعله اتفاق وصدفة من جهة عدم تحقق الحاجة لغيره بالنجوى. ولو كان كذلك لم يكن معنى لهذه الآية (أأشفقتم أن تقدموا..) فالآية تصرّح بأن عدم إقدامهم على ذلك من جهة إشفاقهم وتخوفهم على المال.

وأغرب منه أن بعضهم حاول التقليل من هذا الشأن بدعوى أن الحكم لم يدم طويلا حتى نسخ فقال بعضهم انه بقي عشرة ليال وقال بعضهم انه لم يبق الا ساعة من النهار وقال بعض آخر انه نسخ قبل العمل به. كل هذه المحاولات لانكار فضل الامام عليه السلام الباهر فضله مع أن هذه الآية صريحة في أن القوم أشفقوا وأخفقوا من العمل بالحكم وأن النسخ جاء بعد العفو عنهم وكما ورد في الحديث لم تكن التوبة الا عن ذنب كان.

وهذه الآية من الموارد التي يعلم بوضوح من موقعها أنها ليست في مكانها الطبيعي حسب تاريخ النزول اذ لا بد من مرور زمان على الحكم وظهور الحاجة لجمع معتد به منهم للنجوى واحجامهم عنها اشفاقا على المال ليصح خطابهم خطابا جمعيا بأنهم أشفقوا وأنهم لم يفعلوا.

فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ... اي حيث لم تفعلوا ذلك وحيث ان الله تعالى تاب عليكم وعفا عنكم ولم يضيق عليكم بابقاء الحكم مع استحقاقكم فلا تتوانوا في سائر الاحكام ثم ذكر أهمها من اقامة الصلاة وايتاء الزكاة واطاعة الله ورسوله ولعل ذلك تنبيه لهم على أن التوبة والغفران عن ذلك مشروط بعدم التسامح في سائر الواجبات او على أنه ليس كل حكم ينسخ اذا لم يعملوا به.

والملفت في الواقعة أن الحكم بالتصدق لم يكن منجّزا بل كان مشروطا بارادة النجوى فالمخالفة التي تستوجب اثما وعقابا وتطلب مغفرة وتوبة لا تتحقق الا اذا كان أحدهم يناجي من دون تصدّق ولم ينقل ذلك في الروايات بل الظاهر أنهم أحجموا عن النجوى فالقاعدة تقتضي أن لا يعتبر ذلك اثما منهم فما هو الموجب لهذا الاستنكار الشديد وما هو توجيه التوبة؟ الظاهر أن الوجه في اعتبار ما كان منهم اثما هو احجامهم عن النجوى بعد أن كانوا مصرين عليها باستمرار ولم يكن ذلك الا من جهة تقديمهم للمال على التقرب الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم.

وقيل ان الاثم من جهة أن ذلك يكشف عن كون النجوى قبل ذلك لاغراض تافهة او غير مشروعة فاستحقوا اللوم لذلك. ولكنه بعيد عن سياق الآية حيث ان ظاهر قوله (فاذ لم تفعلوا) أن تركهم للتصدق هو الاثم. كما أن هذا السياق ينفي ايضا احتمال أن تكون التوبة بمعنى رفع التضييق لا العفو عن الذنب فان الظاهر أن التوبة تفرعت عن تركهم للتصدق.

وَاللَّهُ خَبيرٌ بِما تَعْمَلُونَ... تحذير من التفريط في أحكام الله تعالى ولو في الدواعي والاغراض ومنها ترك التصدق حبا للمال.  

 


[1] الحشر:9، التغابن: 16

[2] التوبة: 3

[3] الاحتجاج ج1 ص181

[4] الخصال ص552

[5] المستدرك ج2 ص524 باب تفسير سورة المجادلة على ما في المكتبة الشاملة