مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة الملك مكية كما هو واضح من سياقها ومضامينها، حيث تتعرّض لإثبات التوحيد والمعاد، وتردّ على بعض أقاويل المشركين، وتندّد بهم، وتحذّرهم من عاقبة السوء.

تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير... تبدأ السورة بالثناء على الله تعالى والاشارة الى ما تقتضيه ربوبيّـته المطلقة. وقد مرّ الكلام حول التبارُك في سور غافر والزخرف والرحمن، وقلنا إنّه مأخوذ من البركة، بمعنى الخير الكثير المستقرّ الثابت الدائم، وأنّ صيغة التفاعل والتفعّل لاتّخاذ الصفة، فالمعنى أنّه تعالى اتّخذ لنفسه صفة البركة فيصدر منه الخير الكثير الثابت.

وأسند التبارُك هنا الى اسم الموصول ــ ولم يقل (تبارك الله) مثلا ــ للإشارة الى وجه إسناد التبارُك اليه تعالى، والوجه هو وجود الخير الكثير الدائم في الكون كله، لأنّ الملك له وحده اي هو المتصرّف فيه، وهو مصدر الخير كله. فهذا نظير قوله تعالى (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) المؤمنون: 14 بعد ذكر خلق الانسان، حيث يدلّ على أنّ وجه التبارُك خلقه للانسان.

والملك هو السلطة الكاملة. والمراد بكونه بيده أنّ له كمال التصرف فيه يفعل فيه ما يشاء، ولا يمنع من نفوذ إرادته شيء. وحيث أطلق الملك ولم يضفه الى شيء فالمراد مطلق السلطة فيشمل إيجاد غير الموجود وإعدام الموجود، فلا وجه لما قيل من أنّ هذه الجملة لا تشمل إيجاد غير الموجود لأنه ليس موجودا حتى يشمله الملك وإنّما تشمله الجملة التالية.

وتبيّن بما ذكرناه أنّ قوله تعالى (وهو على كل شيء قدير) نتيجة للجملة الاولى التي تفيد عموم السلطة والقدرة بقول مطلق، فمعنى كونه تعالى قادرا على كل شيء أنّه قادر على إيجاد أيّ شيء ممكن، وإعدام أيّ موجود، وتغيير أيّ شيء عن حالته.

الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا... الموت هو فقدان الحياة. والحياة مفهوم واضح وان كانت حقيقتها مجهولة.

وقد وقع الكلام في التفاسير في تأويل خلق الموت باعتبار أنه أمر عدمي وليس مخلوقا، فحاول بعضهم دفع الاشكال بأنّ حقيقته مجهول عندنا، والآية تدلّ على أنه أمر وجودي والا لم يتعلق به الخلق. وقال بعضهم إنّه عدم الحياة فمعنى خلقه إعدام الحياة. وقال بعضهم إن المراد خلق أسبابه.

وفي الميزان أنّ الموت في الواقع انتقال من نشأة الى نشأة وليس أمرا عدميا.

ويلاحظ أنّ الانتقال من نشأة الى نشأة أمر خاص بالانسان، والموت لا يختص به، مضافا الى أنّ الانتقال أمر آخر غير الموت فهو يتحقق بعد الموت او حينه. ويختلف محلهما ايضا فالموت يعرض على الجسم والانتقال يعرض على الروح.

ويمكن القول بأنّ المراد بخلق الموت الاماتة، وليس الكلام في حقيقة الموت والحياة وانما هو تعبير يراد به خلق هذا النظام المستلزم للموت والحياة، فكأنّه قال الذي يميتكم ويحييكم.

ووقع الكلام في بعض التفاسير حول وجه تقديم الموت على الحياة مع أنّه متأخّر عنها وجودا فقيل إن السبب كون الموت أكثر تأثيرا في تنبّه الانسان. وقال بعضهم إن الموت يشمل ما قبل الحياة.

كل ذلك من جهة أنّهم حملوا الحياة على هذه الحياة الدنيا ليترتب عليها الابتلاء فان الابتلاء لا يحدث في الحياة بعد الموت بل في هذه الحياة. ولكنهم غفلوا عن أنّ الموت ايضا ليس ظرفا للابتلاء فكيف ذكر غاية لخلقه؟!

ولكنّ الظاهر أنّ المراد بالحياة، الحياة بعد الموت فوجه تقديمه على الحياة واضح وذلك لأن الابتلاء وان كان يحدث في هذه الحياة الا أنّ بروز حسن الاعمال وقبحها انما يكون في الحياة بعد الموت. وكم من عمل يعتبر في هذه الحياة حسنا وهو في مقياس تلك الحياة من أقبح الأعمال. ولولا الموت والحياة التي تأتي بعده لم تكن حوادث هذه الحياة ابتلاءا.

وبعبارة اخرى هذه الحياة ظرف العمل والابتلاء ولكن الذي يحقق معنى الابتلاء، ويوجب اتصاف العمل بالحسن والقبح من وجهة النظر الشرعي هو الحياة بعد الموت، ولولاها لم يكن فرق بين العمل الصالح والسيء في نظر الشارع.  

ومن هنا ايضا اختص الابتلاء بالانسان فلو كان المراد هذه الحياة والموت الذي بعدها لشمل كل انواع الحيوان فهي ايضا تحيا وتموت ولكن لا يترتب على حياتها وموتها الابتلاء لانها لا تحيا بعد الموت.    

والبلاء العلم بالشيء ومعرفته، قال تعالى (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ..) يونس: 30 اي تعرف حقيقة عمله الذي قدّمه. والابتلاء: الاختبار والامتحان، فالمعنى أنه تعالى خلق الموت والحياة ليظهر من هو أحسن عملا.

ومن لطفه تعالى بعباده لم يقل ليبلوكم أيكم أسوأ عملا ليكون مقدمة لعقابه، بل قال أيكم أحسن عملا ليكون مقدمة لقربه من رضوانه وثوابه. ويفهم منه خلافه كما يفهم درجات الحسن ودرجات السوء المؤثرة في اختلاف الجزاء.

وقال بعضهم: إنّ في الكلام تقديرا اي وأيّكم أقبح عملا. ولكن الأولى ما ذكره العلامة الطباطبائي قدّس سره من أنّ الغرض من التخصيص الاشارة الى أنّ غاية الخَلق هو حسن العمل وأنّ من خلق لسوء العمل خلق من أجل الصالحين.

ويدلّ على ذلك قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات: 56 فالغاية من الخلق هي العبادة وهي أحسن الاعمال، ومن لم يعبد الله تعالى فقد خالف الهدف من الخلق فلا يكون خلقه الا مقدمة لتهيئة الجوّ الصالح للاختبار وظهور العابدين الصالحين.

ويلاحظ ايضا أنّ السياق يبيّن وجوه البركة والخير الكثير ليناسب تقديم قوله تعالى (تبارك..) فالانسب بعد الاشارة الى الخير المنتشر في الكون في هذه الحياة بقوله (بيده الملك) أن يشير الى الخير الكثير المستمر الدائم الابدي الذي ينعم به اللّه تعالى على الانسان المستحق له في الآخرة.

وهو العزيز الغفور... العزيز اي الغالب الذي لا يؤثر في ارادته شيء. ولعل الوجه في ذكر الوصفين الجميلين أنّه تعالى وان كان غالبا يفعل ما يشاء ولكنه في نفس الوقت غفور يستر نقائص الاعمال ويتغاضى عنها، فيقبل اليسير الناقص ويكمله حتى يدخل في الاعمال الحسنة، ولولا غفرانه لاقتضت عزّته أن يعامل كل انسان بدقة فيقلّ المحسنون.

الذي خلق سبع سماوات طباقا... صفة اُخرى له تعالى مما يدلّ على تبارُكه وكثرة خيره، وذلك من جهة النظم الدقيق الذي يحكم الكون.

والسماوات تختلف معناها باختلاف الموارد ولعل المراد بها هنا الاجرام الفلكية، وذلك بقرينة أنّه تعالى أمر بالنظر اليها وتكرار النظر لمعرفة عدم وجود اي فطور وتفاوت فيها، فلا يمكن أن يكون المراد بها هنا العوالم الغيبية.

وقد مرّ أنّ السماء بمعنى كل شيء يعلو شيئا فمواضع الغيوم سماء بالنسبة للارض التي تحتها. ولذلك ورد في مواضع من القرآن أنّه تعالى أنزل من السماء ماءا.

وأوضح من هذه الآية قوله تعالى (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) نوح: 15- 16 حيث ذكر أنّ الشمس والقمر فيهنّ.

و(طباقا) جمع طبق، إمّا بمعنى أنّها طبقات بعضها فوق بعض، او بمعنى أنّها متطابقة. والتطابق ايضا قد يكون بمعنى التساوي في الحجم، او بمعنى التماثل في الصفات، اوفي القانون الذي يتحكم في كل منها.

وعدد السبع قد يكون دقيقا، ولكن لا نعلم كيفية تقسيم الاجرام الى سبع طبقات، ولعلّ الانسان يصل في المستقبل الى السرّ في ذلك، فيجد مثلا أنّ هذه المجرات وما تحتوي عليها من أجرام تنقسم الى سبع طبقات مختلفة.  

 وقد يكون بمعنى الكثرة اي أنّها أجرام كثيرة متطابقة، بعضها فوق بعض، ومعنى كونها متطابقة أنّ القانون الذي يحكمها واحد.

ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت... التفاوت: التباعد والاختلاف الشديد. ولعلّ هذه الجملة تفسّر معنى الطباق، وتحدّد أنّ المراد كونها متطابقة في الصفات وداخلة تحت نظام كوني واحد لا تفاوت بينها في ذلك. ولم يأت بالضمير فيقول: (ما ترى فيها من تفاوت) بل أتى بالاسم الظاهر للدلالة على السبب، أي انه لا تفاوت فيها لأنها خلق الرحمن.

ولعل التعبير بالرحمن للدلالة على أن كل ذلك لرحمته العامة الشاملة لكل الكون.

فارجع البصر هل ترى من فطور... اي فارجع البصر الى الكون والتأمل في أرجائه بعد أن تركت، اي أعد النظر الى السماوات هل ترى من فطور فيها؟ والفطور: الانشقاق. والمراد به وجود أي خطأ في الكون. والاستفهام للانكار اي لا ترى فطورا في السماوات.

ثم ارجع البصر كرّتين ينقلب اليك البصر خاسئا وهو حسير... اي أعد النظر رجعتين. والكرة: الرجعة. والظاهر أن التثنية للتكرار غير المحدود، فالمراد أنّك لو أعدت النظر كرات وكرات لم تجد فطورا في خلقه تعالى. وانقلاب البصر بمعنى رجوعه، وهو اشارة الى الاستنتاج الذي يحصل عليه الانسان بهذا البحث والتنقيب.

وخاسئا اي صاغرا ذليلا مأخوذ من خسأت الكلب اي طردته فهو خاسئ، وقيل فيه غير ذلك مما لا يناسب المقام، فالمعنى أنه لا يحصل على ما يبحث عنه وهو الفطور.

والحسير: فعيل بمعنى الفاعل او المفعول من (حسر) بمعنى كشف وأزال فان كان فاعلا كان المعنى أنّه أزال عن نفسه القوة بكثرة البحث. وهذا أولى بالمقام. وان كان مفعولا فالمعنى أنه اُزيلت عنه القوة فتعب وأعيا.

ومهما كان فالمراد أنّ البصر يتعب من تكرّر البحث عن مورد للفطور في الخلق ولكنه لا يحصل على شيء فيعود ذليلا صاغرا. والخطاب في هذه الآيات للانسان بوجه عام.