أمّن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن... (أم) منقطعة، فتفيد معنى بل، وهو اضراب عن الآية السابقة (أولم يروا الى الطير..). والمعنى أولم يعلموا أنّ الطير لا يمسكهنّ ويحفظهنّ الا الله تعالى، فهم ايضا لا ينصرهم في مواجهة مشاكل الحياة الا الله تعالى، وبيّن ذلك بطريقة الاستفهام الانكاري، اي لو كانوا يتصوّرون أنّ هناك جند لهم ينصرهم بدلا عن الله تعالى ويغنيهم عنه فليبيّنوا من هذا الجند؟!
ومعناه النفي، اي ليس لهم جند ينصرهم من دون الرحمن. ومعنى كون شيء من دون شيء كونه بدلا عنه ويغني عنه. وليس معناه ينصرهم من الله تعالى كما ورد في أكثر التفاسير، وأغرب منه ما ورد في بعضها من الجمع بين الامرين، وأنه لا ينصرهم أحد من الله الا الله تعالى. ولكن الصحيح أنّ المعنى لا ينصرهم في مقابل مشاكل الطبيعة والحياة وفي مقابل الاعداء الا الله تعالى.
والوجه في اختيار اسم الرحمن واضح فان الغرض التنبيه على عموم رحمته الواسعة ونصرته للجميع في مقابل الحوادث والبلايا.
والتعبير بقوله (من هذا الذي هو جند لكم..) فيه نوع من التحقير والازدراء اذ لا يمكن أن يكون هناك من ينصر الانسان وغيره في مواجهة الحوادث الطبيعية والبلايا والاعداء من الجن والانس الا خالق الكون الذي جعل لكل شيء ما يحفظه ويصونه.
والجند اسم مفرد يفيد معنى الجمع ولذلك يوصف بالمفرد والجمع.
إن الكافرون الا في غرور... (إن) نافية وتفيد مع (الا) الحصر، اي الكافرون ليسوا الا في غرور. والغرور: الغفلة. وأبدل الضمير بالاسم الظاهر تنبيها على العلة والسبب، فهم لكفرهم وانكارهم ربوبيته تعالى يقعون في غفلة دائمة عن حقائق الكون، لأنّهم لا يعرفون من ينفعهم ولا من يضرهم.
أمّن هذا الذي يرزقكم ان أمسك رزقه... الرزق هو نصيب كل أحد من العطاء. ولكل موجود حيّ نصيب من الامور الطبيعية التي تتوقف عليها حياته من الماء والطعام والهواء وغير ذلك. وقد جعل الله تعالى في الطبيعة لكل أحد حظّا منها، وجعل له من القوى والوسائل ما يمكنه اكتساب نصيبه. وهذا هو معنى رزقه تعالى لا ما يتصوّره بعض الناس من أنه تعالى يبعث لكل أحد نصيبه من الطعام من حيث لا يعلم.
ومن الواضح أن الحظّ الطبيعي من الكون لا بديل له. وهذا هو المراد بالآية الكريمة تنبّه الانسان الى أنّ ما خلقه الله تعالى له لا بديل له، فليس هناك من يرزقه ان أمسك الله رزقه، ومنع الطبيعة من أن تجود عليه بحظّه.
بل لجّوا في عتوّ ونفور... الامر واضح لا يحتاج الى مزيد بيان، ويكفي فيه أدنى تنبيه، فان رفضه الانسان كما هو الحال في الكافر بربّه فانّه ليس الا للجاج وعناد.
واللجاج ــ كما في المفردات ــ التّمادي والعناد في تعاطي الفعل المزجور عنه. والاصل فيه تراكم الشيء بعضه على بعض ومنه لجّة البحر اي معظمه كما في الصحاح او الاصل تردد الشيء بعضه على بعض ومنه لجة البحر لكثرة تردد أمواجه كما في معجم مقاييس اللغة. والمقصود به هنا العناد اي ترديد الانسان ما قاله أولا وعدم تنازله عنه لمجرّد أنّه كلام صدر منه فيصرّ عليه عنادا وان تبيّن له خطؤه. او تردده بمعنى رجوعه الى ما زجر عنه ومنع.
والعتوّ: الطغيان. والنفور: التباعد والانزعاج. فهم في مواجهة الحق الواضح يعاندون لا لهوى او حاجة بل طغيانا على الحق وتباعدا عنه. والتعبير بالظرفية (في عتو ونفور) يفيد أنهم محاطون بهما كأنّهم لا مخلص لهم منهما. وهذا سجن يصنعه الانسان بيده ويدخل فيه باختياره ثم لا يجد منه مهربا.
أفمن يمشي مكبّا على وجهه أهدى أمّن يمشي سويّا على صراط مستقيم... كبّ وأكبّ على وجهه اي سقط عليه. والآية تمثّل حالة الكافر بربّه والمؤمن به برجلين: أحدهما يمشي في طريقه هائما على وجهه يسقط مرة ويقوم اخرى، فطريقه غير سويّ فيه اعوجاج ومواقع عثرات، وهو ايضا غير سويّ بل مضطرب القلب والفكر، والآخر رجل واثق من نفسه وواثق من طريقه، ومتوكّل على ربّه، وطريقه ايضا طريق واضح أبلج، لا التواء فيه ولا تعرّجات. فأيّهما أهدى وأحرى بأن يصل الى غرضه ويبلغ كماله المطلوب؟!
والمشي الاول نتيجة اللجاج والعناد الذي ذكره في الآية السابقة، ونتيجة الكفر بالله تعالى او بربوبيته، فهو لا يملك رصيدا من العلم يتمسك به، ويخرج من عناده، ويستقيم في طريقه، ولا يؤمن بربّ يهديه، ويأخذ بيده في الصراط المستقيم، فلا يمشي الا متعثّرا هائما على وجهه.
قيل: إنّ السؤال عن كون أيّـهما أهدى ليس بمعنى وجود الهداية في الآخر بدرجة أقلّ، بل صيغة التفضيل هنا منسلخة عنها معنى التفضيل، فالمعنى أنّ أيّـا منهما يهتدي.
ولكن لا حاجة الى تكلّف ذلك، ولا مانع من بقاء معنى الافضلية على طريقة التسليم لأبعد المحتملات، فالمعنى أنّ الرجل الاول لو فرض له الاهتداء الى الهدف بهذا المشي وفي مثل هذا الطريق فانه يصل متعبا مرهقا، مع أنّ احتمال وصوله ايضا قليل، فالثاني أهدى وأقرب للوصول.
قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة... من لطيف التعبير أنّـه تعالى خاطبهم في بعض هذه الآيات مباشرة، ثم أتى بضمير الغائب كأنّهم لا يستحقّون الخطاب، ثم أمر رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم أن يخاطبهم ببعض الخطاب باعتبار أنّـه جزء من الانذار والرسالة. ويمكن أن يكون الوجه في ذلك التفنّن في كيفية التخاطب، مضافا الى ما ذكره الادباء من الوجوه في كل منها.
والخطاب هنا يتحول الى بيان آيات من ربوبيته تعالى للتنديد بكفرهم وإنكارهم. والجملة تبيّن حصر الخالقية فيه تعالى، وهو أمر يعترف به مشركو العرب الا أنه تنبيه لهم ببيان نعمه في هذا الخلق.
والإنشاء هو الخلق والإيجاد، وليس فيه معنى الخلق من دون سابقة في مادّته ــ كما في الميزان ــ ليختص بخلق النفس الانسانية، وانما يعبر عن ذلك بالإبداع، فالإنشاء بمعنى خلق الانسان جسما وروحا.
وأتى بلفظ السمع مفردا لانه مصدر، والأبصار جمع بصر بمعنى نفس العين، والافئدة جمع فؤاد بمعنى القلب، والمراد به النفس الانسانية او قوة التعقل والادراك. وهذه نعم جليلة عظيمة فالحواسّ لا يعرف قدرها الا من فقدها، والتعقّل لا يعرف قدرها أحد. وتخصيص السمع والبصر بالذكر إمّا لأهميتهما وإمّا باعتبارهما نوعين من الحواسّ، فالمراد مطلقها.
قليلا ما تشكرون... (ما) مصدرية، اي إنّ شكركم قليل، او زائدة لتأكيد القلّة اي تشكرون شكرا قليلا.
قيل: وهذا تعبير عن عدم الشكر ولا يراد به القلّة واقعا. وهذا مبنيّ على كون الخطاب موجّها للكفار.
ولكن لا يبعد أن يراد به القلة حقيقة، والخطاب إمّا لجميع البشر، فالمعنى أنّ هناك قليل من البشر يشكرون الله تعالى، وإمّا للشاكرين فقط، والمراد أنّ الشكر العملي قليل حتى من الشاكرين.
قل هو الذي ذرأكم في الارض... (ذرأ) اي كثّر او نشر، فالآية السابقة تذكر نشأة الانسان، وهذه تذكر تكاثره وتناسله وانتشاره في مختلف بقاع الارض. وهذه ايضا ظاهرة من التدبير الربوبي، سواء في الانسان او الحيوان.
وهي من الظواهر الطبيعية المعقدة التي تتبع عدة عوامل منها العدد المتناسب للذكور والاناث من كل نوع في مختلف مناطق الارض وهو مما يصعب على مدعي الصدفة تعليله بها مما يدل على وجود مدبّر للكون، خصوصا بملاحظة بعض الحالات الطارئة كزيادة عدد الذكور بعد الحروب على ما يقال. والله العالم.
واليه تحشرون... وبمناسبة الانتشار في الارض يذكّر الانسان بالانتشار العظيم الذي ينتظره، حيث ينشر ويحشر الخلائق أجمعون من بدء الخليقة حتى نهايتها وهم متوجهون الى ربّهم.