ويقولون متى هذا الوعد ان كنتم صادقين... اي متى تُنجَز هذا الوعد؟ وقد تكرّرت هذه الجملة في القرآن الكريم نقلا عن المشركين. ويظهر بالقرينة أنّ المراد بالوعد المشار اليه في بعض الموارد من كلامهم عذاب الدنيا، حيث كان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم والمؤمنون يحذّرونهم منه، والآيات ايضا تشير اليه.
كما أن المراد في بعضها عذاب يوم القيامة، ولعله المراد هنا حيث وردت الآية بعد قوله تعالى (واليه تحشرون). ومع ذلك ففي الآيات التالية ما يناسب عذاب الدنيا ايضا. وهو – على كل تقدير – استفهام يراد به الاستهزاء، اذ هم لا يعترفون بالاصل، فلا وجه للسؤال عن الوقت.
وهذا ايضا من لطيف كلامه تعالى حيث تأتي في موارد عديدة الاشارة الى عذاب ينتظرهم مع القرينة على الاحتمالين، وذلك ليكون تهديدا وتحذيرا من عذاب الدنيا ايضا، مع عدم التصريح به، فانه تعالى لم ينزّل عليهم مثل عذاب الامم السالفة، ولكنهم كانوا يخافون من هذا التهديد لما رأوه مرارا من أنّ كل ما يخبر به الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم يقع لا محالة.
والانسان لجهله وغبائه يخاف عذاب الدنيا أكثر من عذاب الآخرة، كما أنه يحب ويرغب في نعم الدنيا أكثر من ثواب الآخرة. وربما يسمع ذلك من بعض المؤمنين ايضا، حتى إن نصر اللّه تعالى للمؤمنين في الدنيا أحبّ اليهم من النصر الأكيد في الآخرة. وهو ما صرّح به في سورة الصف: 13، (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ..) ويسمع من بعضهم يستهين بانتقامه تعالى من الظالمين يوم القيامة مع إمهالهم في الدنيا.
قل انما العلم عند اللّه وانما أنا نذير مبين... اي قل أيّها الرسول في جواب سؤالهم: العلم مطلقا عند اللّه تعالى، وإنّما يعلم الرسول بعض الغيب بما يوحي اليه ربه.
ويمكن أن يكون اللام في (العلم) للعهد الذكري، اي إنّ العلم بموعد الحشر عنده تعالى وقد استأثر به، كما تدل عليه آيات كثيرة وكذلك عذاب الدنيا. وانما دور الرسول الانذار المبين.
ومعنى المبين هنا أنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم نذير واضح الانذار حيث يعلن به في كل مناسبة او المعنى أنّه نذير يوضح حقائق الغيب، حتى لا يبقى مجال للشك والترديد، وتقوم الحجة على الناس بوضوح ودون ابهام، فيحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة. والابانة بمعنى الايضاح.
فلمّا رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا... وهذا جواب عن القصد الواقعي من سؤالهم وهو الاستهزاء بأصل الموضوع. و(زلفة) مصدر زلف ــ بكسر اللام ــ اي قرب. وإطلاق المصدر على الذات من باب المبالغة، اي رأوه قريبا جدا. والضمير يعود الى العذاب إمّا يوم القيامة حيث يشاهدون جهنم أمامهم، وإمّا عذاب الدنيا حيث يداهمهم وهم غافلون.
وساء وجهُه اي بدا عليه الغمّ والحزن والتأثر الشديد. وربما يأتي متعديا كما هنا فيقال ساء الحزن وجهَه. والفعل هنا مبني للمجهول (سيئت) وفاعل السوء العذاب. والمعنى أنّهم يوم يرون العذاب قريبا جدّا تمتلئ نفوسهم حزنا وكربا، بحيث يظهر ذلك بوضوح في وجوههم.
ولم يأت بالضمير (وجوههم) بل بالاسم الظاهر (وجوه الذين كفروا) للاشارة الى السبب وهو الكفر والانكار، فمن الواضح أنّ الانسان اذا أنكر شيئا وأصرّ عليه وحاول نشره وإغواء الآخرين، خصوصا اذا تبعه كثير من الناس ثم رآه باُمّ عينه مع من أغواهم قريبا جدا، فإنه يقع في أسوأ الحال.
وقيل هذا الذي كنتم به تدّعون... (تدّعون) بمعنى (تدعون) اي تطالبون. وربّما يكون هذا قولا باللفظ ليكون إثارة أعمق لحزنهم وغمّهم كما لعله هو الظاهر، وقد يكون القول بمعنى أنّ هذه الحقيقة تظهر هناك بوضوح فإنّهم لا شكّ يشعرون ويتذكّرون بأنّ هذا العذاب هو الذي أنذر به الرسل وجاءت به الكتب، وأنّه هو الذي استعجلوه وطالبوا به، فالخزي عليهم آكد من جهة أنّ ما أصابهم هو ما كانوا يطالبون به جهلا واستهزاءا.
قل أرأيتم إن أهلكني اللّه ومن معي او رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم... يقال إنّ كفار قريش كانوا يمنّون أنفسهم بموت الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وأصحابه، وأنّه بذلك تنتهي هذه الدعوة التي تسبّبت في افتراق القوم الى مؤمن وكافر، وتنتهي كل ما تعقّبها من المشاكل لقريش. وهذا التمني منقول عنهم في مواضع من القرآن الكريم.
منها قوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) الانبياء: 34، ومنها قوله تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) الزمر: 30-31 ومنها قوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) الطور: 30-31.
هكذا ورد في التفاسير. ولكن يبدو من التعبير الوارد في الآية الكريمة رجحان قول آخر، وهو أنّ المراد هنا تمنّي نزول عذاب على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وأصحابه، او هلاك جماعي له ولأصحابه ولو بأيدي القوم او غيرهم من الأعداء بقرينتين:
الاولى: التعبير بالاهلاك والرحمة، وهو بعيد عن إرادة الموت والابقاء بصورة طبيعية، فالظاهر أنّ المراد بالاهلاك هلاك جماعيّ، ومن الرحمة صونهم من العذاب.
والثانية: تمنّي موته صلى اللّه عليه وآله وسلّم ومن معه بخلاف ساير الموارد حيث كانوا يتمنون موت الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم فحسب. والموت الجماعي لا يتمّ عادة بصورة طبيعية، اذ يموتون بالتدريج فلا يحصل ما أرادوا، فالظاهر أنّهم قصدوا بذلك نزول حادثة طبيعية، او هجوم وحرب ونحو ذلك يستأصلهم جميعا.
ومهما كان فهذه الآية تأمره صلى اللّه عليه وآله وسلّم بالردّ عليهم بأنّ ذلك لا يفيدكم، فعاقبة كل إنسان منوط بعمله، وعاقبة كل قوم منوط بمشيهم الذي اتفقوا عليه، فلو فرضنا أنّ اللّه تعالى أهلكنا كما تتمنّـون فمن يجيركم من عذاب أليم ينتظركم لأنّـكم كفرتم بربكم؟
ولا يبعد أن تكون في الآية إشارة الى أن بقائي بينكم أمان من نزول عذاب الاستئصال كما كان كذلك في الامم السالفة فان أهلكني اللّه تعالى فما هو أمانكم؟
وقوله (أرأيتم) كلمة تقولها العرب عند الاخبار بشيء على طريقة الاستفهام، ومعناه على ما قالوا (أخبروني).
ولم يقل (فمن يجيركم) ليشير الى سبب العذاب، وينبّه على الفرق بين الفريقين، فالمعنى انكم تستحقون العذاب الاليم في الدنيا والآخرة لأنّكم كفرتم بربّكم.
قل هو الرحمن آمنّا به وعليه توكّلنا... تكميل للجواب، وهو أنّنا لا نخاف العاقبة مهما كانت لأسباب:
أوّلا: أنّ اللّه تعالى هو الرحمن، ونحن نعتقد بأنّه الرحمن، فنرى أنّ كل ما يصيبنا إنّما هو من رحمته. وفي ذلك تعريض لهم لأنّـهم ما كانوا يعترفون بهذا الاسم، قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا) الفرقان: 60.
وثانيا: نحن نؤمن بالله تعالى وأنتم كفرتم به، وأشركتم به، وجعلتم له أندادا، ولم تعبدوه، ولم تلتزموا طاعته. فقوله (آمنّا به) تعريض بهم، ولذلك لم يقدّم الجار والمجرور كما في الجملة التالية، لأنّ ذلك يفقده التعريض ويفيد الحصر.
توضيح ذلك: أنّ ما يقدّم في الجملة يعتبر هو المقصود الاساس، فلو كان يقول (به آمنّا) كما في الجملة التالية كان معناه أن المقصود تحديد متعلق الايمان فيفيد الحصر وهو أننا لا نؤمن بغيره، وأمّا مع تقديم الفعل يكون المدلول أنّ المقصود هو انحصار الفعل وهو الايمان بالله فينا فيكون تعريضا بهم حيث لم يؤمنوا به تعالى.
وثالثا: لا نتوكّل الا عليه، فلا نعتمد في شؤوننا على غيره كما تعتمدون على الأصنام، بل لا نعتمد على قوانا وعددنا، ولذلك نواجه الأعداء مع كلّ ما فينا من ضعف أمامهم، فلا نهاب أحدا، ولا نخاف سطوة المتسلّطين، لأنّ توكلنا عليه فحسب. وهذا مفاد تقديم (عليه).
فستعلمون من هو في ضلال مبين... هذا التعبير يؤيّد القول بأنّ المشركين او بعضهم كان يتوقّع أن ينزل على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وأصحابه عذاب من السماء لأنّهم كذبوا على اللّه تعالى، وادّعوا ما ليس لهم، فهم في ضلال مبين. فأمر اللّه تعالى أن يردّ عليهم بهذا الجواب المشتمل على تهديد واضح.
قل أرأيتم ان أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين... عود الى التذكير بشأن من شؤون الربوبية والخير والبركة من اللّه تعالى، وهو إمداد الانسان بالماء العذب بمختلف مصادره، وكان أهل مكة يستقون من الآبار، فأمر اللّه تعالى رسوله أن ينبّههم على نعمة عظيمة وخطر عظيم، فهذا الماء نعمة من اللّه تعالى، ولولا نزول المطر لنضب مياه الآبار، فلو أمسك اللّه تعالى رحمته ولم ينزل المطر ونضب مياه الآبار فمن أين تأتون بماء جار او ماء سهل ميسور تصل اليه أيديكم؟!
والغور: العمق والقعر. وغار الماءُ: بلغ القعرَ، أي ذهب في أعماق الأرض. والمعين من المعن بمعنى الجري، او بمعنى الامر السهل الميسور، ومنه الماعون.
والحمد لله رب العالمين وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله الطاهرين