مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً... لا شك في أن معاداة أهل مكة كانت شديدة على قلوب المؤمنين للقرابة والالفة القديمة مضافا الى مصالح اجتماعية واقتصادية تترتب على الالفة بينهم ومضافا الى ان اجواء الحرب كانت تهيمن على المنطقة وتثير المخاوف والقلاقل وتمنع من امن الطرق. والحاصل ان حاجتهم وميلهم الى تبديد العداء بينهم وبين مشركي مكة كانا واضحين فاراد الله تعالى بعد نهيهم عن موالاتهم وتشديد النكير عليهم في ذلك ان يفتح بابا للامل في امكان المواصلة والتقارب. ولكن من الواضح ان ذلك لا يتم برفع اليد عن هذا الحكم المتاصل في الشريعة حيث لا تجوز المهادنة فيه بل المراد ارتفاع المعاداة وثبوت الموالاة والمودة بدخولهم في الاسلام وتركهم خرافات الجاهلية ولو في الظاهر وهذا هو ما حصل في فتح مكة. وكلمة (عسى) لا تعني الترجي حتى لا يصح اسناده الى الله تعالى بل تدل على أن ما يأتي بعده أمر ممكن ومتوقع.

وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ... لا يبعد ان الجو السائد في اوساط المؤمنين في عصر نزول هذه الآيات كان مشحونا بما يؤيسهم من احتمال ايمان اهل الشرك من كبراء مكة والآية الكريمة بصدد بعث الامل في قلوبهم فان اليأس انما حصل بملاحظة الوضع السائد والقلوب المليئة بالضغائن غفلة عن ان القلوب بيد الله تعالى فبقدرته تلين القلوب وتتقارب كما انه تعالى يلقي الرعب في بعضها فتؤمن خوفا وذلا. وبمغفرته ورحمته يغفر ما سبق منهم من العدوان فلا يكون ذلك مانعا من التولي.

لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ... هذا توضيح للحكم الاول مع انه كان خاصا بمشركي مكة لانهم هم الذين اخرجوهم من ديارهم ولكن صرح في هذه الآية بعدم شمول الحكم لغيرهم من كفار المنطقة ممن لم يقاتلوا المسلمين في الدين. وقوله (في الدين) قيد يخرج ما كان بين القبائل من الاحقاد لاسباب اخرى غير الدين. وقوله (ان تبروهم..) بدل عن (الذين لم يقاتلوكم..) فالمعنى لا ينهاكم الله عن ان تبروا وتقسطوا الى الذين لم يقاتلوكم. وصرح ايضا بعدم الاخراج من ديارهم ليبقى الحكم منحصرا في اهل مكة. فالنتيجة أنه لا معاداة مع الكفار اذا لم يحاربوا المسلمين ولم يظاهروا أعداءهم من اجل الدين حتى لو كانت بين الفريقين احقاد اخرى. و(تبرّوهم) من البرّ وقد اختلفت كتب اللغة في تفسيرها وذكروا لها عدة معان. والمناسب منها لما هنا الاحسان، يقال برّ والديه او برّ بهما اي احسن اليهما. والقسط في الاصل السهم والنصيب ويعبّر عن التعدي الى نصيب الآخرين بالقسط وعن اعطاء كل نصيب لصاحبه ايضا بالقسط ولذلك قيل انه من الاضداد قال تعالى (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبا)[1] وأما باب الافعال منه اي الإقساط فيختص بالعدل. والهمزة فيه تفيد السلب كما يقال شكا اليه فأشكاه اي رفع شكواه فالقسط هنا يراد به الجور والاقساط رفع الجور عنه. قال تعالى (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطينَ)[2] فالمعنى في الآية انه يجوز دفع قسطهم اي نصيبهم من اي شيء اليهم ولكنها لم تسمح بكل علاقة معهم فالذي فعله حاطب لا يسمح به مطلقا.

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ... تعليل للحكم بجواز ذلك والله تعالى لا يحب قوما الا لمكانتهم فالمقسط اي الذي يراعي الانصاف له مكانة عند الله تعالى وحبه لقوم متصفين بصفة معناه حبه تعالى لتلك الصفة.

إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ... المراد بهم مشركو مكة فهم الذين اخرجوا المسلمين من ديارهم في مكة المكرمة. والمظاهرة: المساعدة والمعاونة مأخوذ من الظهر باعتبار أن المساعد في الحرب يحفظ ظهر الآخر ثم اطلق على كل معاونة. ويمكن ان يكون المراد بالذين ظاهروهم على اخراج المسلمين الاتباع في مكة وهم السواد الاعظم من اهلها ويمكن ان يراد بهم سائر المشركين ممن تحالفوا مع مشركي قريش ضد المسلمين فكان ذلك سببا في تقويهم وتمكنهم من الضغط عليهم واخراجهم. وقوله (ان تولوهم) بدل عن (الذين قاتلوكم) اي ينهى عن توليهم. والتولي اعتبار احد وليا. والولي الناصر والتابع ونحوهما فالمراد نهي اي تعاون مع هؤلاء.

وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ... قيل: ان حصر الظالمين فيهم حصر اضافي اي بالنسبة الى من يتولى غيرهم من الكفار وهم القسم الاول ولكن الظاهر انه حقيقي من باب المبالغة لورود نفس التعبير في آية اخرى ليس فيها مقارنة بينه وبين من يتولى غيرهم وهو قوله تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).[3] ومن هنا يظهر أن تولّي الكفار المحاربين والمعادين للاسلام والمسلمين حتى لو كانوا من اقرب الاقربين يعتبر ظلما عند الله تعالى.

 


 الجن: 15[1]

 الحجرات: 9[2]

[3] التوبة: 23