مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

السورة مدنية وتختص بمشكلة النفاق والمنافقين لتحذير المؤمنين من مغبّة الاعتماد عليهم وتتعرض السورة لكشف فضائحهم والتنبيه على بعض خصائصهم ليُعرفوا بها. والحديث عن دور المنافقين في مواجهة الاسلام والمسلمين والتنبيه على خطرهم لا يختص بهذه السورة فالقرآن الكريم تعرض لهذا الامر في كثير من السور المدنية ولكن هذه السورة اختصت بهم فسميت بهذا الاسم. وكلمة (المنافقون) في اسم السورة ربما يتلفظ بالواو باعتبار ورود هذه الكلمة بهذه الصورة في أولها وربما يتلفظ بالياء باضافة السورة الى المنافقين باعتبار أنها تتعرض لصفاتهم وبعض احوالهم ومثالبهم.

والنفاق بمعنى اظهار الايمان وابطان الكفر ولعل الاصل فيه إسرار ما يعلن خلافه مطلقا ومنه نافقاء اليَربُوع (دويبة اكبر من الجرذ) اي المخرج السري الذي يصنع لنفسه ليهرب منه فالمنافق يظهر الاسلام أمام الناس وهو يخرج منه عن الطريق المخفي.

ويقال: ان المنافقين برزوا في المدينة ولم يكن منهم في مكة عين ولا أثر وأن السبب في ذلك أن المسلمين كانوا في حالة ضعف في مكة فما كانت حالتهم تستدعي المداراة والنفاق وكان المخالف للدين يعلن مخالفته من دون اي حذر او خوف ولما جاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الى المدينة وقد سبقه اليها الاسلام فقوي بالمؤمنين من اهلها وهم أكثر الناس فمن بقي على كفره وشركه لم يتمكن من اظهاره وهكذا برزت ظاهرة النفاق في تلك الحقبة وكان على رأسهم عبد الله بن ابي لانه كان يطمع في أن يكون ملكا من ملوك العرب فانقطع أمله بهجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الى المدينة واجتماع العرب حوله وايمانهم به ومبايعتهم له رسولا وقائدا فامتلأ قلبه حقدا وغيظا.

هكذا يقال ولكن الصحيح أن بعض من أسلموا ظاهرا في مكة لم يؤمنوا بالله ورسوله واقعا وانما أسلموا في الظاهر لِما علموا من مستقبل هذا الدين فأرادوا أن يكون لهم قدم وسابقة فيه ومما يدل بوضوح على وجود النفاق في مكة قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ)[1] والآيتان في سورة العنكبوت وهي مكية بلا خلاف.

ويدل على ذلك ايضا قوله تعالى (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ)[2] وقوله تعالى (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ)[3] وقد أثبتنا دلالتهما على ذلك في تفسيرهما. ومن الآيات ما تصرح بوجود بعض من كان في قلوبهم مرض في مكة وهو تعبير اخر عن النفاق قال تعالى (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا..).[4] وهي في سورة المدثر ولا شك انها مكية.   

ثم ان النفاق في المدينة ايضا لا يختص بجماعة عبدالله بن اُبيّ كما يتوهم وكما تحاول الابواق الاموية اعلامها فهناك من هو أخطر من هذه الجماعة التي أعلنت نفاقها فقلّ خطرها ومن الطبيعي أن المنافق الحقيقي هو من لا يعرفه المسلمون ويظنونه مؤمنا مخلصا. وقد قال تعالى (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ..)[5] فهناك من المنافقين من لا يعرفه الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والله تعالى لم يشأ أن يريهم اياه والمعرفة في لحن القول ليست كاملة كما لا يخفى. وقال تعالى (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ..)[6] ولا شك أن هؤلاء ليسوا من أصحاب عبد الله بن ابي لانهم كانوا معروفين بنفاقهم.

ومما يحاول بعض الناس التأكيد عليه أن النفاق كان مختصا بعهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. وهذا غريب جدا فالمنافقون كانوا يتربصون به صلى الله عليه وآله وسلّم الموت لينفذوا خططهم الاجرامية بل كانوا يحاولون قتله صلى الله عليه وآله وسلّم ليتخلصوا منه فكيف انقطعت آثارهم وجرائمهم بعده؟! والواقع أن الغريب ليس هو هذا الاصرار من هؤلاء الباحثين بل الاغرب منه أن التاريخ ايضا لا يذكر عنهم خبرا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. فالى أين انتهت مكائدهم وهل بلغوا بوفاته صلى الله عليه وآله وسلّم كل ما يبتغون ويركضون وراءه؟!!! الله أعلم

والذي يشعر به الباحث المنصف أن النفاق تمكن من التغلغل في صفوف المؤمنين وهم وان كان هدفهم الاول أن يرجعوهم كفارا كما قال تعالى (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ... * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً..)[7] ولكنهم كانوا يبتغون لهم شتى أنواع الفتن وقد تمكنوا من القاء الخلاف في صفوف المسلمين ومن تفريقهم عن الامام المنصوب من قبل الله تعالى ومن الدسّ في السنّة المطهرة واستئجار الوضاعين ولو أمهلهم الله تعالى لحرفوا الكتاب ايضا.

وقد نقل عن بعض من تسلّط على المسلمين أن الهدف الاول هو دفن اسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم حتى لا يذكر على المنائر والمنابر في اليوم عدة مرات. ومن هنا يتبين أن خطر النفاق أعظم من خطر الكفار والمشركين لانهم يتغلغلون في صفوف المسلمين ولانهم يظهرون بمظهر المؤمن المتقي وربما يبلغ بعضهم من اعتماد الناس عليه الى أعلى المراتب وهذا الامر مستمر الى يومنا هذا ولا يختص بالمجتمع الاسلامي بل هو مشكلة جميع الاحزاب والمنظمات والدول.

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ... (اذا) ظرفية وجوابه (قالوا) فيستفاد منه أن هذا كان كلامهم كلما جاءوا الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وهو بعيد فلعل المراد أنهم يقولون ذلك في الموارد المناسبة او ان حديثهم وحضورهم وتعاملهم مع الرسول صلى الله عليه واله وسلم ومع المسلمين يوحي بانهم مؤمنون واقعا ويشهدون بالرسالة او انهم في كثير من موارد حضورهم كانوا يقولون ذلك وهذا شأن النفاق فان المنافق يكثر منه اظهار الود والاخلاص لانه يتوجس دائما انكشاف أمره فيحاول الاستباق باظهار غاية الاخلاص لئلا تحوم حوله الشبهة.

والشهادة اعلام بالرؤية فلا يصح من أحد أن يشهد بشيء لم يره لانه مأخوذ من الشهود والمشاهدة ولكن يقصد به في هذا المقام الاعلام بأنه هو المعتقد القطعي ومن هنا كانت الشهادتان المباركتان أساس الاسلام ويقبل من كل أحد يتشهد بهما لفظا أنه مسلم لانه اعلام بغاية الاطمئنان والاعتقاد بالتوحيد والرسالة فما لم يظهر منه بصراحة ما ينافي احد الامرين يعتبر مسلما.

ثم انهم أكدوا شهادتهم بالقسم حيث تدل اللام على قسم مقدر اي نشهد والله انك لرسول الله. والقسم ايضا من مزايا كلام المنافق وقد ورد ذكره في كثير من حكاية كلامهم في الكتاب العزيز قال تعالى (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ..)[8] وقال (ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا)[9] وقال (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ..)[10] وقال ايضا (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ..)[11] وغير ذلك بل يحلفون يوم القيامة ايضا حلفا كاذبا قال تعالى (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ..)[12] والسر في ذلك ايضا تخوفهم الدائم من اتهامهم بالكذب لكثرة كذبهم.

وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ... وهذا واضح لا يحتاج الى تنبيه وانما الغرض تقديم ذلك على الشهادة عليهم بالكذب لئلا يوهم الكلام أن التكذيب يعود الى المشهود به وهو الرسالة مع أنه امر غير محتمل الا أن أدب الكلام يقتضي ذكره.   

وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ... اي كاذبون في قولهم (نشهد) فهم لا يشهدون على ذلك ولا يعتقدون به. ولا حاجة الى تأويل الكذب الى مخالفة المخبر به لما في القلب لا لما في الواقع كما في الميزان بل حتى على المعنى المعروف للكذب وهو الخبر المخالف للواقع يصدق الكذب بوضوح لان الاخبار بالشهادة كذب لانهم لا يشهدون به في الواقع. فالشهادة وان كانت انشاءا الا أنها تفيد الاخبار ايضا.

اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ... المراد بالأيمان ما يشمل حلفهم في الشهادة السابقة فيكون في ذلك اشارة اليه لما قلنا بأن اللام في قولهم (انك لرسوله) يدل على قسم مقدر. وقوله تعالى (فصدّوا) يدلّ على أنهم تمكنوا من الوصول الى مبتغاهم وهو المنع عن سبيل الله فكان هناك آذان صاغية من الناس البسطاء. والجُنَّـة كل ما يتستر به وهم بهذه الايمان كانوا يسترون كفرهم ونفاقهم فيظن البسطاء أنهم من خلّص المؤمنين ويتمكنون بذلك من الاندساس في صفوفهم والقاء الشبهات في قلوبهم.

وفسّر الصدّ بعضهم بالاعراض والصحيح انه يأتي بالمعنيين الاعراض والستر الا أنه هنا لا يناسب الاعراض اذ لا يترتب الاعراض على الحلف الكاذب واتخاذه جنة اي التستر به بل الحلف هو المترتب على اعراضهم وكفرهم. فالمراد بالصدّ هنا المنع.

والمنع عن سبيل الله تعالى لا يختص بالكفر وعدم الايمان بالله ورسوله رأسا بل يشمل ما اذا تمكنوا من منع قبول الناس لبعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم كما نجد منهم من منع الناس من متابعة الامام الذي نصبه الرسول صلى الله عليه واله وسلم منارا للهداية بعده فهذا ايضا صدّ عن سبيل الله تعالى. والحاصل أن المنافقين تمكنوا من الصدّ عن سبيل الله تعالى في موارد كثيرة وان لم يعتبر بعضها من الارتداد والكفر بأصل الرسالة.

إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ... ساء استخفافهم بالحلف بالله تعالى وساءت شهادتهم بما لا يعتقدون به في دخيلة أنفسهم وساء نفاقهم وساء صدهم عن سبيل الله تعالى. وأسوأ شيء منهم أنهم اتخذوا الايمان جنة للصدّ عن سبيل الله تعالى فان الانسان ربما يكذب بل يحلف كاذبا ليدفع عن نفسه او عن الآخرين ضررا بليغا لا يستحقه فهذا لا بأس به بل ربما يجب وربما يحلف لجلب منفعة لنفسه او لدفع ضرر لا يهتم به او لدفع ضرر يستحقه وهذا لا يجوز كما هو واضح ولكن لا يبلغ من السوء ما اذا كان الغرض من الحلف الاضرار بالناس وأيّما اضرار؟! فان غرضهم هو اضلال الناس وابعادهم عن الحق كأنهم سفراء ابليس لعنه الله.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ... الظاهر أن الاشارة بقوله (ذلك) الى نفاقهم الذي استتبع كل هذه الاعمال السيئة فتكون الآية بصدد تعليل تمكن النفاق من قلوبهم. ولكن المفسرين ذكروا أن الاشارة الى اعمالهم السيئة التي ورد ذكرها في الآية السابقة. وذلك لانهم فسروا الايمان هنا بالايمان اللفظي غير الموافق للباطن فلا يمكن اعتبار الاشارة الى النفاق لان النفاق هو بنفسه اظهار الايمان وابطان الكفر فلا يمكن تعليله به.

ولكن الظاهر أن المراد بالايمان معناه الحقيقي وهو التصديق كما ورد في قوله تعالى (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)[13] فهم آمنوا واقعا ثم كفروا وهذا هو الموجب للطبع على القلب وأما مجرد التلفظ بالشهادة من دون تصديق فيبعد كونه مع اظهار الكفر سببا للطبع على القلب. مع أن العطف بـ(ثم) ايضا لا يناسبه اذ أنهم على هذا الفرض كافرون قبل التلفظ بالشهادة. والقول بأن التراخي رتبي لا ينفع لانه على كل حال يدل على حدوث الكفر مع أنه كان سابقا على الايمان ومستمرا.

ويلاحظ أن ما ذكروه يقلل من شأن الآية الكريمة اذ أن مردّ قولهم الى أن العلة في هذه الاعمال التي تصدر عنهم من الشهادة كذبا والحلف للصد عن سبيل الله ونحو ذلك هو ايمانهم ظاهرا وكفرهم باطنا اي نفاقهم مع أن هذا لا يحتاج الى تعليل فصدور مثل هذه الاعمال من المنافق أمر طبيعي وانما الغرض من الآية تعليل اصل النفاق فانه ربما يستغرب ذلك مع وجودهم بالقرب من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم.

وقال بعضهم ان المراد الايمان واقعا الا انه خاص ببعضهم فلعل بعضهم آمن واقعا ثم ارتد وكفر. ولكن الظاهر أن الآية تعمهم ولا أقل من شموله لأكثرهم ولكبرائهم كعبدالله بن ابي. فالظاهر أن المراد بالايمان درجة ضعيفة منه. ويظهر من الآيات ترددهم بين الايمان والكفر وتقلب أحوالهم قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا...مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا).[14]

وهذا التقلب والارتداد نجده في كثير من الناس ضعفاء الايمان اذا تغيرت بيئتهم الاجتماعية فنجد بعض الناس يعيش زمانا في بيئة مؤمنة متوغلة في الايمان فيتقشف ويتزهد ويتنسك وربما يفرط في التعبد والالتزام ثم تدور الدائرة ويهاجر او يهجر الى بيئة كافرة او فاسدة تكثر فيها مظاهر الانحلال الخلقي علانية وتغلب فيها المغريات المادية فيتحول شيئا فشيئا الى ضد الحالة السابقة وربما يرتد ويكفر خصوصا اذا ابتلي بكافرة وتزوج بها وهذا يدل على أن الانسان وان كان صادقا في ايمانه فكثيرا ما تتزلزل عقيدته ويتحلل ايمانه تبعا لابواق الاعلام المضل وتأثير البيئة الفاسدة. 

والحاصل أن الآية المباركة على ما يبدو تعلّل أصل النفاق وعدم هدايتهم الى الايمان وتبصّرهم لحقائق الامور بالرغم من مشاهدتهم لآياته تعالى ومعاجز الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأن السبب في ذلك هو ارتدادهم ورجوعهم عن الايمان بعد أن لمسوا الحق ووصلوا اليه وأدركوه بكل مشاعرهم فلم يكن كفرهم لبعدهم عن موجبات الايمان ولا لنقص في ادراكهم ولكن لعدم ملاءمته لاهواءهم. وهذا هو الموجب للطبع على قلوبهم وهو استتباع طبيعي. والاتيان بالفعل المبني للمجهول اي (فطُبع) يفيد ايضا كونه طبيعيا.

ونظيره ما ورد بشأن المشركين قال تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)[15] وليس المراد عدم ايمانهم في اول لقاء اذ ليس هو المتوقع في الحالات الطبيعية بل المراد ــ والله العالم ــ عدم ايمانهم بعد تمامية الحجة وادراكهم للحق لاول مرة ولا يكون ذلك الا لضغط من جهة خارجية او اتباع للهوى وهو الذي يستلزم قلب الافئدة والابصار فلا يدركون ولا يعقلون ولا يبصرون الحق. قال تعالى (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ..)[16] ونظيره كثير في الكتاب العزيز.

والطبع على القلوب هو الختم كأنها تقفل ويختم عليها فلا تنفتح بذاتها ولا يمكن لأحد فتحها لفهم الحقائق فلا تفقه اي لا تفهم شيئا. والمراد بالقلوب النفوس والقوى المدركة. وأغرب من طبع القلوب قلب الابصار فلا يرى ما يراه الآخرون وهو يرى واقعا ولكنه يراه مقلوبا فيرى المعجزات ولكنه يراها سحرا ويرى العلم ولكنه يراه تبجحا فهم لا يفقهون ما يتحدث به الرسول صلى الله عليه واله وسلم لا لانهم لا يفهمون بل لانهم لا يريدون ان يفهموا. ومن غريب الامر أن من الناس من كانوا أقرب ما يكون الى منبع النور الوهّاج ولم يستضيئوا بنوره.

وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ... الآية الكريمة تصورهم تصويرا مخزيا وتذكر بعض سماتهم التي يمكن معرفتهم بها فهم على مظهر حسن ملفت وكلامهم حلو يعجب السامعين. والظاهر أن الخطاب لكل مستمع او قارئ لا الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والمراد أنهم حسن الظاهر في المنظر والمسمع والظاهر أن حسن المنظر لا يقصد به صباحة الوجه كما قيل بل حسن الملبس والمظهر كما لا يقصد به شخص خاص او مجموعة خاصة كما ذكروه في عبدالله بن ابي وبعض اصحابه بل هو سمة النفاق وحيث كان الخطاب للمؤمنين فالظاهر أن المراد حسن الظاهر الديني لا خصوص المظهر الاجتماعي. وهذا هو ما نلاحظه من النفاق دائما وفي كل مجتمع فمن يظهر نفسه ثوريا لهدف غير مشروع يظهر نفسه في مظهره وكلامه بصورة اقوى المتحمسين للثورة وهكذا في الدين والمذهب.

والحاصل أنهم يعجبون عامة الناس بمظهرهم وبكلامهم المعسول. وقوله تسمع اي تستمع ولو كان المراد السماع لقال (قولهم) بدون اللام والاستماع هو الذي يتعدى باللام. والمراد أن كلامهم مما يجذب الاسماع اليه والظاهر أنه لا يراد به خصوص الفصاحة والبلاغة كما قيل بل اشتماله على ما يحبه السامع من الاطراء والمدح وادب المجلس وما يستسيغه المجتمع. وهنا ايضا يقصد على ما يبدو ما يخص المجتمع المتدين خاصة فكلامهم مما يعجب به المؤمنون.

وكل ذلك حسن واقعا ومطلوب فالمؤمن ينبغي أن يكون كذلك يحفظ ظاهره من حيث الاناقة ومن حيث المظهر الديني ومن حيث الكلام ايضا فالذم بلحاظ الجمع بين هذا المظهر الانيق وبين ما يأتي ذكره من دخيلة أنفسهم.

كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ... هذه الجملة تنبئ عن خُوائهم وفراغهم فهم مع حسن الظاهر لا ينفعون كما لا تنفع الخشبة المسنّدة الى حائط مثلا فالخشبة ايضا لها ظاهر حسن ولكنها لا تنفع الا اذا استخدمت في بناء او صنع كرسي او طاولة ونحو ذلك أما اذا اسندت الى حائط ونحوه فهي لا تنفع شيئا. والمنافق ايضا كذلك كلامه المعسول لا ينبئ عن حسن نية وظاهره الانيق يخالف باطنه الخبيث. والجملة التالية توضح ذلك.

يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ... (عليهم) اي ضدهم. وهذه صفة تميّزهم بوضوح فهم لخوفهم من افتضاح أمرهم يتوجسون الشر دائما وهذا شأن كل خائن لمجتمعه فكلما سمع صيحة توهم أنه سيقبض عليه. وهذه الجملة تنبئ بوضوح عن عدم ملاءمة ظاهرهم الانيق ومنطقهم المقبول مع باطنهم الخبيث ومؤامرتهم ضد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين والمجتمع الاسلامي. كما قال الشاعر:

         هيهات لا تخفى علامات الهوى        كاد المريب بان يقول خذوني

هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ... العدو يتساوى فيه المفرد والجمع. والالف واللام يدل على الحصر فكأنه لا عدو غيرهم مع وضوح أن أعداء المسلمين لا ينحصر فيهم فالمراد أنهم أولى من يمكن توصيفه بالعداء. والسر فيه واضح وهو أنهم أعداء الداخل وبنفس درجة العداء التي تنطوي عليها نفوس أعداء الخارج كالمشركين واليهود او اكثر ومع ذلك فهم يعتبرون في الظاهر من نسيج المجتمع المؤمن بل ربما يكون بعضهم ممن لا يعرف نفاقه يتقرب الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والى أكابر المؤمنين بما لا يمكن لغيره وبذلك يتمكن من دسّ السمّ في العسل ومن تنفيذ المخططات الشيطانية ولعلهم تمكنوا من ذلك في بعض ما أرادوه كما مرت الاشارة اليه فالعداء الحقيقي منحصر فيهم حيث يظهرون الاخوة ويبطنون أشدّ العداء.

وينبغي أن تعدّ هذه الجملة من معاجز القرآن الكريم حيث حصر العداء في المنافقين وأمر بالحذر منهم والظاهر أن الامر لا يختص بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فيجب على المؤمن أن يفتح عينه ويتبصر ويبحث عن آثار أقدام العدوّ الحقيقي للاسلام الذي سكن عقر داره ليجد ما ابتدعه من مؤامرة.

قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ... اي قتلهم الله وهو دعاء عليهم يقصد به غاية التنديد بهم. والدعاء كثيرا ما لا يقصد به حقيقة الدعاء كما تعارف بيننا اظهار الود بالدعاء في الترحيب والتوديع كما أن الصلاة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وآله الكرام لا يقصد بها الا اظهار الود والمتابعة لهم ولمنهجهم السامي وكما أن الدعاء للتعجيل في فرج مولانا صاحب الزمان سلام الله عليه لا يقصد به الا ذلك ايضا ويقصد ايضا اعلام الاستعداد للتفاني والتضحية تحت لوائه المجيد اذ لا ريب أن ظهوره عليه السلام لا يتبع هذه الدعوات وانما هو أمر منوط بعوامل ومؤثرات معقدة لا يعلمها الا الله تعالى ولذلك استأثر الله تعالى بعلمه كما استأثر بالعلم بموعد البعث.

والحاصل أن الدعاء سواء كان لأحد او ضدّه فهو في الغالب يقصد به اظهار الحب والتأييد او البغض والتنديد ومن ذلك ما ورد في الكتاب العزيز من اللعن والدعاء على الشيطان ومن تبعه.

و(أنى يؤفكون) اي يُصرفون ويُذهب بهم وفيه اشارة الى أنهم لا يتخذون منهجا وطريقا على أساس التفكر والدراية بل يتبعون عوامل شيطانية تذهب بهم الى ما لا يحمد عقباه. والظاهر أن (أنى) ظرف للدعاء اي قتلهم الله اينما كانوا. ولكن أكثر التفاسير ورد فيها أن (أنّى) استفهامية فهو سؤال يقصد به الاستنكار اي اين يذهبون كقوله تعالى (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)[17] وانما ورد بصورة المبني للمجهول لما مر. ولكن الاول أولى لعدم تناسب هذا الاستنكار لسياق ما ورد قبله فيهم اذ لم يسبق في الجمل السابقة ذكر لافكارهم ومنهجهم.

 


[1] العنكبوت: 10- 11

[2] الحاقة: 49

[3] المعارج: 36

[4] المدثر: 31

[5] محمد: 30

[6] التوبة: 101

[7] النساء: 88- 89

[8] النور: 53

[9] النساء: 62

[10] التوبة: 62

[11] التوبة: 95

[12] المجادلة: 18

[13] يوسف: 17

[14] النساء: 137- 143

[15] الانعام: 110

[16] فصلت: 5

[17] التكوير: 26