وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ... الظاهر أن الآية تنقل حادثة بعينها وليس مجرد فرض ولكنها تبين في نفس الوقت سمة من سمات النفاق ولذلك أتى بضمير الجمع مع أن مورده شخص واحد لو صحت الرواية.
وقوله (تعال) فعل امر من العلو والاصل فيه طلب الصعود الى اعلى ثم استعمل في كل طلب للقدوم وفي الجملة تقدير (اي تعالوا الى رسول الله) والقصد منه الحضور عنده صلى الله عليه واله وسلم لاظهار الندم والتوبة. وقوله (يستغفر) جواب الامر فالمعنى ان اتيتم الرسول تائبين يستغفر لكم. و(لوى رأسه) اي أماله وهو تصرف يدل على الرفض. والصد هنا بمعنى الاعراض.
والآية تنبئ عن صفة الاستكبار والغرور فيهم مضافا الى عدم الايمان بالله تعالى ورسوله فان المؤمن يتلهف شوقا اذا دعي الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ويتشرف اذا استغفر له الرسول ويزيد وثوقا وايمانا وأملا بذلك ولكنهم لا يؤمنون بالرسالة فلا يرون في الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ميزة عليهم ولا يجدون لهم حاجة الى الاستغفار بل يعتزون باثمهم قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ..).[1] وليّ الرأس يدلّ على غاية الاستكبار وازدراء الآخرين بحيث لا يجد حاجة الى الجواب اللفظي بل يكتفي بليّ رأسه ويعلم بذلك اعراضه وعدم استجابته للدعوة.
قيل ان الآية نزلت في عبدالله بن ابيّ بعد ما قال كلمته المذكورة في الآيات التالية حيث أتاه بعض المؤمنين او بعض قومه على اختلاف الروايات وطلبوا منه أن يحضر عند الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ويعتذر ليستغفر له فأعرض عن ذلك استكبارا. وهو حقيق بالاستكبار لجهله وعتوّه وطمعه في رئاسة القوم. ولكن الظاهر أن الآية عامة وأن هذا شأن كلهم او اكثرهم ولا يمنع ذلك من انطباقها على عبدالله في تلك الواقعة.
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ... اي ان استغفارك وعدمه سواء اي متساويان و(سواء) مصدر فلا يجمع ولا يثنى. وقد ورد مثل ذلك في قوله تعالى (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[2]
وربما يستغرب عدم استجابة دعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بل المساواة بينه وبين عدمه فهو لا يؤثر شيئا مطلقا. ولكنه ليس مستغربا والله تعالى لا يستجيب من الدعاء الا ما يصلح للاستجابة حتى لو كان من رسله كما قال تعالى لنوح عليه السلام (فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)[3] وكما لم يستجب دعاء الرسل في هداية قومهم لان السنة الالهية تقتضي اختيار الانسان في قبول العقيدة وردها. هذا ويلاحظ أن الآية لا تدل على انه صلى الله عليه واله وسلم استغفر لهم والله تعالى لم يغفر لهم بل تدل على حكم تعليقي وهو عدم قبول الاستغفار لو وقع.
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ... حيث كان الاستغفار بنفسه غير مفيد ما لم يتب المذنب وما لم يعد الى حظيرة الايمان ويترك فسقه وخروجه عن طاعة الله تعالى أشار في هذه الجملة الى سبب عدم استجابة الدعاء وهو أن الاستغفار لا يفيد ما دام فاسقا فلا بد قبل تأثير الدعاء من هدايته وهو لن يهتدي لانه فاسق مصر على فسقه بعد تبصّره ومواجهته للحق وآياته البينات ومن سننه تعالى عدم هداية الفاسق مع اصراره.
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا... الانفضاض: التفرق. وظاهر التعبير (هم الذين يقولون) أن هذا من مبادئهم وليس كلاما عابرا في قضية خاصة فهم يعتقدون أن اجتماع المؤمنين حول الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ليس الا لأنهم فقراء فيجتمعون للتسكّع. والظاهر أن الخطاب في النهي عن الانفاق لأهل المدينة فانهم أصحاب الثراء والارض والرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ــ حسب ظنهم ــ ليس له مال ينفق عليهم فرزقهم يتوقف على ما يتبرعون به فاذا امتنعوا من الانفاق عليهم تفرقوا عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فتـتـحقق امنيتهم.
وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... والجواب أن ما لدى الأثرياء من المال وان اكتسبوه بعملهم الا أنه في الاصل من نتاج الطبيعة وهي من خلق الله تعالى وكل ما في الكون منه بل ما بذلوا من جهد وفكر وطاقة لتحصيله منه ايضا بل الارادة والهم والتوفيق منه ايضا فالانسان لا يمكنه أن يكسب شيئا الا باذنه تعالى وارادته بل لا يشاء الا بمشيئته. وهو ان أراد أن يغني المؤمنين لفعل ولكنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفقا لنظام الكون والسنة الالهية وليبتلي الفقراء بفقرهم والاغنياء بغناهم.
والخزائن جمع خزانة بكسر الخاء وهي ما يُحرز فيها المال ويُحفظ والظاهر أن المراد بها هنا أمر معنوي حيث ان أسباب النعم بيد الله تعالى فكأنها في خزانة مقفلة لا يملك مفتاحها الا الله تعالى. والتعبير بالسماوات والارض كما قلنا سابقا يراد به الكون اي كل ما في الكون من أسباب النعم فهي لله تعالى فلا حاجة الى البحث عما في السماء مما يؤثر في نعم الارض من اشعة الشمس والمطر وغير ذلك ثم البحث عما يؤثر فيها من العوامل الارضية.
وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ... الفقه هو الادراك العميق وكون الارزاق كلها بيد الله تعالى يحتاج الى درك عميق للكون وارتباطه بالارادة الالهية وهو بعيد عن افهام كثير من المؤمنين فضلا عن المنافقين كما أنهم لا يفقهون أن الله تعالى يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر وأن كل ذلك لحكمة الهية وابتلاء للانسان.
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ... لا شكّ أن هذه الجملة تحكي عن قضية في واقعة وأن مورد هذه الجملة حينما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه خارج المدينة ومنهم المنافقون وصاحب هذه المقالة.
وقد ورد في أحاديث العامة أن صاحب القول هو عبدالله بن اُبَيّ وأنه قال ذلك في غزوة بني المصطلق والروايات مختلفة في نقل القصة اختلافا فاحشا مما يمنع من الاعتماد عليها حتى ان بعض كبار مفسريهم اعترف بذلك وقد ناقش بعض الافاضل[4] في كتابه حول سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم كل هذه الاحاديث وبيّن وجوه الضعف والتناقض فيها ولكن حيث لم يرد حديث في اسناد القول الى غيره او اليه في قصة اخرى، والآية كما قلنا ظاهرة في أن القول وقع في قصة خاصة فلا يبعد ان يكون هو القائل وأنه قاله في نفس الواقعة وانما الاشكال في ملابسات القضية ولا يهمنا ذلك.
ونحن ننقل هنا القصة باختصار من دون التعرض لموارد الاختلاف قالوا: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه فخرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع فهزم الله بني المصطلق فبينما الناس على ذلك الماء إذ حدث بين رجلين احدهما من الانصار والآخر من المهاجرين نزاع فصرخ الانصاري يا معشر الأنصار و صرخ المهاجر يا معشر المهاجرين فوقع القتال او كاد ان يقع فقال ابن أبيّ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل سمّن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ يعني بالأعزّ نفسه وبالأذلّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ثم أقبل على من حضره من قومه فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عنهم فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولأوشكوا أن يتحولوا من بلادكم ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم.
فبلغ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الخبر فأرسل إلى عبد الله فأتاه فقال ما هذا الذي بلغني عنك فقال عبد الله والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك قط. ثم نزلت الآيات وتبين كذبه. وأشار بعضهم الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بقتله فأبى وقال (لا يتحدث الناس ان محمدا يقتل أصحابه) ويلاحظ أنه صلى الله عليه وآله وسلّم عبّر عن هذا المنافق بأنه من الصحابة وهذه الجملة وردت في رواية الصحيحين ايضا.
ثم رجعوا الى المدينة فلما أراد عبدالله أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي حتى أناخ على مجامع طرق المدينة فقال ما لك ويلك قال والله لا تدخلها إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ولتعلمن اليوم من الأعز من الأذل فرجع حتى لقي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلّم فشكا إليه ما صنع ابنه فأرسل إليه النبي أن خل عنه يدخل ففعل.
وبصورة عامة يلاحظ الباحث أن هناك اصرارا من المؤرخين والمحدثين على حصر النفاق في عبدالله واصحابه وكل ما يروى من هذه القصص يقصد به ذلك مع أن النفاق كان أخطر من ذلك وفي القرآن الكريم ادلة واضحة على أن خطرهم أكبر بكثير من خطر المشركين وكذلك ورد في الاحاديث الكثيرة. كما أن الآيات تصرح بأن المنافقين غير معروفين فلا يمكن أن يختص بهؤلاء الشرذمة وقد تبين نفاقهم. ومن المعروف في التاريخ والحديث أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لم يخبر أحدا عن أسمائهم الا حذيفة بن اليمان وكان بعض الصحابة يتخوف أن يكون من المذكورين فيسأل حذيفة عن ذلك. ومع ذلك فلا يبعد أن يكون عبد الله هو صاحب هذا القول في قصة غير واضحة في جزئياتها والظاهر أن هناك أهدافا خاصة وراء ذكر بعض الاسماء في هذه القصة نعرض عن التعرض لها.
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ... تقديم الجار والمجرور للدلالة على الحصر والمراد بالعزة هنا المَنَعة وهي ما أراده المنافق في كلامه ويقصد به أنه يعتز ويتمنع بقومه وعشيرته وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم دخيل عليهم فليس له في هذه المنطقة قوم او عشيرة الا من كان معه من المهاجرين وهم فقراء وعددهم قليل فالآية ترد عليه بأن العزة لله تعالى حصرا كما أن كل شيء له حصرا فلا يعتز أحد الا به وبما أولاه من قوة ومَنَعة فان أراد أن يسلبه القوة والمنعة فعل ولا يمنعه شيء فهو العزيز المطلق الذي لا يمتنع من ارادته شيء. وقد أولى هذه العزة لرسوله صلى الله عليه وآله وسلّم واعتز به المؤمنون. وما حدث بعد القصة مما ورد في الحديث والتاريخ يؤكد هذه العزة فقد قابله أقرب الناس اليه ولم يمنعه أحد منه الا أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم باخلاء سبيله.
وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ... لا يعلمون أن العزة لله وأن ما لديهم من عزة انما هو منه تعالى فان نازعوا رسوله العزة ووسموه بالذل فسيذلهم الله تعالى في الدنيا قبل الآخرة كما فعل.
[1] البقرة: 206
[2] التوبة: 80
[3] هود: 46
[4] راجع الصحيح من سيرة النبي الاعظم صلى الله عليه واله وسلم للسيد جعفر مرتضى ج12 ص279