يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ... بعد التعرض لحال المنافقين وبعض اخطارهم وسوء صفاتهم ناسب أن ينهى المؤمنين من بعض ما يمكن أن يؤثر في بروز صفة النفاق فان النفاق صفة نفسية ومرض في القلب ربما يحصل للمؤمن كما مر في قوله تعالى (آمنوا ثم كفروا) فلا بد للمؤمن من المجاهدة مع النفس الأمارة المتقلبة لئلا يفقد ايمانه او يتزلزل ويضطرب وكم رأينا وسمعنا في التاريخ من المؤمنين البارزين الذين قدموا تضحيات في سبيل الدين ثم استهوتهم شؤون الدنيا فانحرفوا عن الحق ومع ذلك بقي الدين لعقا على ألسنتهم وهذا هو النفاق نستجير بالله منه فكل منا معرض لهذا الامتحان.
ومن هنا يتبين أن الغرض من ذكر الاموال والأولاد أقوى الامور التي يبتلى بها الانسان بوجه عام في هذا المجال والا فشؤون الدنيا الموجبة للتلهي عن ذكر الله تعالى لا تختص بهما بل ربما يكون منها ما هو أقوى الا أنه ليس من الشؤون العامة كالسلطة والهيمنة والمنصب الرفيع وان لم يكن مع هيمنة على الناس والجاه العريض في المجتمع ونحو ذلك.
والالهاء من اللهو بمعنى الانشغال بأمر تافه عن أمر مهم وذكر الله تعالى أهم شيء في حياة الانسان لانه هو الذي يبعثه على التقوى ويمنعه من ارتكاب المآثم مما تكون فيه سعادته الابدية. والمراد بذكر الله تعالى الذكر القلبي بمعنى استمرار الانسان على ذكر ربه في كل أحواله وخصوصا اذا تعرض لما يستهويه من المحرمات والمآثم ولا يبعد الشمول للذكر اللفظي ايضا لأنه يقوي الايمان ويؤثر بعمق في طمأنينة القلب كما قال تعالى (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).[1]
ومن لطيف التعبير أن النهي وجّه الى الاموال والاولاد وطلب منها عدم الالهاء مع أن التكليف متوجه الى الانسان بأن لا يلتهي بها. ونظير ذلك كثير في القرآن وفي التعابير المتعارفة في شتى اللغات كما قال تعالى (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ..)[2] وقال (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).[3] ولعل السر في اختيار هذا التعبير تنزيه المخاطب من أن يكون هو بنفسه يعمل ما لا ينبغي وانما تؤثر عليه هذه العوامل الخارجية. وهذا يؤثر تربويا في نفسية المخاطب كما هو واضح.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ... التعبير باسم الاشارة وضمير الفصل يفيد الحصر اي من يلتهي بشؤون الدنيا عن ذكر الله تعالى هو الخاسر الوحيد لأنه اشتغل بأمر لا ينفعه بل يضره، وانصرف عن أمر واجب تتوقف عليه سعادته في الدنيا والآخرة. وأي خسارة أعظم من هذا؟! والوجه في الحصر أن كل الخاسرين يوم القيامة يدخلون تحت هذا العنوان اي الالتهاء بالدنيا عن ذكر الله تعالى
. ويلاحظ تبدل التعبير ففي الجملة السابقة اعتبر الالهاء المنهي عنه من فعل الاموال والاولاد وفي هذه الجملة اعتبر موضوع الخسارة فعل المكلف والسبب أن ما استوجب عدم الخطاب في النهي صريحا كما ذكرنا غير موجود هنا لانه التهى حسب الفرض عن ذكر الله تعالى فتحققت فيه الخسارة بالفعل.
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ... بيان لأهم ما يترتب على عدم الانشغال بالاموال والاولاد وهو الانفاق في سبيل الله تعالى فان من آثار عدم الالتهاء بالمال عدم الاهتمام به ومن ثمّ انفاقه على موارد الاستحقاق وهو ايضا ينشأ من عدم الالتهاء بالاولاد غالبا لان الغالب في التقتير وترك الانفاق هو من أجل الصرف على الاولاد والاهتمام بمستقبلهم وبصورة عامة الانفاق في سبيل الله تعالى لا يجتمع مع الالتهاء والانشغال بالدنيا.
والتعبير عن الاموال بـ (ما رزقناكم) للتنبيه على أن ما تنفقونه ليس الا من عطاء الله تعالى فلا فضل لكم ان انفقتم في سبيله تعالى لئلا يستعظم الانسان عمله. و(من) للتبعيض أي أنفقوا بعض ما رزقناكم والآية ليست في مقام بيان ما يجب انفاقه وما يستحب وانما القصد منها الحثّ على أصل الانفاق وعدم البخل قبل فوات الأوان فهناك موارد للانفاق الواجب كزكاة المال والفطرة وما يوجبه الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم او الامام الحق ونفقة الزوجة والوالدين والاولاد ونحو ذلك ومنها انقاذ الجائع والمريض المشرف على الموت او الضرر البليغ فان ذلك واجب كفائي على كل من اطّلع على حاله ولا يجوز للانسان أن يمتنع من الانفاق على الفقير المشرف على الهلاك لجوع او مرض بدعوى أنه أدى الزكاة والخمس الواجبين.
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ... أصّدّق اي أتصدّق و(لولا) أداة تحضيض تفيد هنا الطلب والتمني وهذا تمنّ بعد الموت فقوله تعالى (من قبل أن يأتي أحدكم الموت) اي قبل موته وليس معناه ــ كما قيل ــ ظهرت له أمارات الموت لان نفس التعبير ورد في قوله تعالى (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ..)[4] ومن الواضح أن المراد به بعد الموت لمكان قوله (ارجعون) فهو في الواقع يطلب الارجاع لا الامهال والسبب في ذلك أن الانسان لا ينتبه حتى بعد ظهور أمارات الموت وانما ينتبه بعده وبعد أن فات الأوان.
وهو يتمنى التأخير الى أجل قريب اي مدة قليلة مع أنه عمّر في الدنيا بمقدار يكفيه للعمل كما قال تعالى (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)[5] ولكنه لم يتنبه طيلة هذه المدة وقد عاصرنا اناسا ملكوا الملايين ولم يدفعوا الحق الواجب عليهم حتى بعد أن ظهرت أمارات الموت وانما أوصوا بذلك بعد مماتهم واختلف الوراث بعدهم ولم يعمل بوصاياه ولا أظن العمل بها يفيده.
ويلاحظ الفرق بين (أصدق) فقد أتى منصوبا و(أكن) حيث أتى مجزوما ولعل الوجه في ذلك أن الاول جواب التمني حيث قالوا انه يأتي منصوبا كما في قوله تعالى (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[6] والثاني جواب شرط مقدر اي فان أتصدق أكن من الصالحين. فيظهر من ذلك أن من شروط الصلاح التصدق بالمال والمراد به الصلوح للدخول في حظيرة القرب لدى الله تعالى ودخول الجنة فمن كان قادرا على الانفاق ولم ينفق فقد خرج عن دائرة الصلاح.
والقرآن يؤكّد كثيرا على الدخول في مجموعة الخيرين الصالحين والصادقين والراكعين كما قال تعالى خطابا لمريم عليها السلام (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)[7] وخطابا للمؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[8] ويمدح عيسى عليه السلام بقوله تعالى (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ)[9] ومثل ذلك كثير. ولعل ذلك لتأديب المؤمن أن لا يشعر بميزة له على غيره في صلاته وصلاحه بل يشعر أنه ضمن مجموعة صالحة بل يشعره القرآن بآياته أنه يصلي كما تصلي كل أجزاء الكون (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ).[10]
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا... المراد بالأجل الوقت المحدّد في علم الله تعالى لموت الانسان بلحاظ جميع المقتضيات والعوامل الخارجية والذاتية فالانسان له أجل ذاتي وهو ما تقتضيه عوامل البقاء في جسمه بحيث لو لم يطرأ عليه أيّ عارض خارجي مهلك فانه لا يتعدّى ذلك الاجل وله أجل مسمّى أي محدّد عند الله بلحاظ كل المؤثرات الخارجية والذاتية فقد يكون من قضاء الله تعالى أنه يصاب بحادث فيموت قبل أجله. قال تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ..)[11] فالاجل الذي قضاه حين خلقه من طين اي من المواد الارضية هو ما تقتضيه ذاته من عوامل البقاء والاجل المسمى اي المقدر بلحاظ كل المؤثرات.
والأجل بهذا المعنى كسائر المقدرات قد يكون محتوما وقد يكون تابعا للمتغيرات كما قال تعالى (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)[12] فالمحتوم لا يعلمه الا الله تعالى وهو ما في أم الكتاب وهو ما لا يمكن أن يتغير والمقدرات المتغيرة هي ما تمكن معرفته لبعض البشر بالطرق العلمية وبحساب الاحتمالات ولبعضهم بطرق غيبية ولكنها ليست حتمية لامكان عروض ما يغير هذا التقدير.
والحاصل أن الأجل المحتوم اذا جاء لا يمكن تأخيره طبيعيا وكل ما لا يمكن طبيعيا اذا اسند الى الله تعالى اسند بنحو نفي الابد وهذا ما يفيده (لن) وذلك لأنه تعالى لا يقيد ارادته شيء حتى ما قضاه وقدّره ولكنه لا يغيّر تقديره ولن يغيّره. فقوله تعالى (ولن يؤخر..) بمعنى أنه لا يمكن وقوعه خارجا.
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ... قيل ان هذه الجملة تعود الى كل الآيات حيث نهى عن التلهي وأمر بالانفاق فأعلمهم هنا أنه خبير بحقيقة أعمالهم ليجازيهم بها. ولكن الاولى أن يقال انها مكملة للجواب عن هذا التمني وذلك كما جاء في آيات اخرى أنه لا فائدة من ارجاعكم والله تعالى خبير بأعمالكم وما تستتبع من نتائج فانكم حتى لو عدتم لعدتم على نفس الوتيرة. قال تعالى (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)[13] وغير ذلك من الآيات.
والسر في ذلك ان الانسان المعاند للحق يحاول ان يأول كل ما يراه حتى لا ينصاع للحق فلو أحيا الله تعالى أحدا منهم بعد ما رأى ما بعد الموت وتمنى الرجوع ليصلح نفسه فسيفرح بعافيته ويخدع نفسه بأن ما رآه لم يكن الا كابوسا او سحرا كما قال تعالى (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ).[14]
والحمد لله اولا وآخرا والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد واله الطاهرين.
[1] الرعد: 28
[2] الاعراف: 27
[3] لقمان: 33/ فاطر: 5
[4] المؤمنون: 99- 100
[5] فاطر: 37
[6] الانعام: 27
[7] ال عمران: 43
[8] التوبة: 119
[9] ال عمران: 46
[10] الاسراء: 44
[11] الانعام: 2
[12] الرعد: 38 -39
[13] الانعام: 27- 28
[14] الحجر: 14- 15