مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

ثلاث مقاطع متوالية بدئ كل منها بـ (ألم) وهو استفهام انكاري يراد به الاستدلال على استحقاق مكذّبي الرسالات للعذاب يوم القيامة ففي المقطع الاول يستدل بإتمام الحجة عليهم حيث لاحظوا نزول العذاب على المكذبين في الامم السالفة وفي المقطع الثاني يستدل بالآيات الموجودة في الانسان على ربوبيته تعالى ووحدانيته وهي أساس الرسالات وفي الثالث يستدل بالآيات الكونية على نفس ما ذكر ايضا.

أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ... تهديد لمشركي مكة حيث كذّبوا بالرسالة والرسول واليوم الآخر فيُسألون استفهام إنكار وهذا الاستفهام يفيد النفي. والنفي في النفي إثبات، اي قد أهلكنا الأولين.

وهذا يفيد نوعا من اخذ الاقرار من المشركين حيث كانوا يعلمون بما آل اليه أحوال الاولين من عذاب الاستئصال والمراد بهم الاقوام السالفة الذين كذبوا الرسل وطغوا في الارض وليس المراد مَن ماتوا بالموت الطبيعي كما ظن بعض المفسرين اذ لا يختص ذلك بالمجرمين.

ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ... الآخرون هم المتأخرون زمانا بالنسبة لزمان نزول الآية فينطبق العنوان على مشركي مكة. والقراءة المتداولة بالرفع لا بالجزم فليس الفعل معطوفا على الفعل السابق ليكون داخلا في الاستفهام الانكاري بل هو إخبار عن شمول الحكم للآخرين اي المشركين المخاطبين اذ لا فرق بين الفريقين فمعنى الآيتين معا أنا أهلكنا السابقين فلا موجب لعدم إهلاككم. والإتباع: الإلحاق. اي نلحق الآخرين بالاولين في العذاب.

ومثل هذا المعنى ورد في قوله تعالى (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ)[1] بعد ان حكى في الايات السابقة قصص الاقوام السابقة التي اهلكها الله تعالى بعذاب الاستئصال.

كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ... هذه الآية تبين سبب الإلحاق وأن الحكم واحد في الفريقين لوحدة السبب وهو الإجرام وأيّ جرم أعظم من تكذيب رسالة السماء بعد وضوح الآيات؟!

وقد مرّ مرارا أن الاجرام بمعنى القطع وأنه لا يطلق على كل ذنب كما يتوهم بل على ما يوجب قطع العلاقة بالله تعالى كالشرك والطغيان كما أنه في العرف الاجتماعي لا يطلق على كل عمل مخالف للقانون وانما يطلق على الفظائع كالقتل والسرقة.

ويتبين من هذا البيان أن هذه الآيات تهدّد المشركين بعذاب الاستئصال والمفسرون عادة يذكرون أنّ العذاب نزل عليهم بأيدي المؤمنين يوم بدر.

ولكن لا يبعد أن لا يكون المراد الوعد الأكيد بنزول مثل ذلك العذاب كما أوضحناه في تفسير قوله تعالى (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)[2] بل هو تهديد بوجود المقتضي للعذاب وان لم ينزل لوجود بعض الموانع كما يظهر من آيات اخرى ايضا ذكرناها هناك.

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ... اي ويل للمكذبين بالرسالات في يوم القيامة بعد أن أتمّ الله عليهم الحجة بإهلاك الاقوام السابقين المكذبين.

أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ... استفهام إنكاري ايضا يذكّر الانسان بأصل تكوّنه وتطورات وجوده في هذه الحياة. والماء المهين: النطفة. والمهين فعيل من المهانة اي الحقارة.

والغرض بيان أن الله تعالى خلق الانسان بكل ما فيه من علم وقدرة وقابليات مدهشة وأحاسيس ومشاعر ونفس خلاقة وأجهزة دقيقة في جسمه وقوى عظيمة في روحه من ماء حقير وكل ذلك مخبوء في جزء صغير منه لا يرى بالعين المجردة.

فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِين * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ... المراد بالقرار المكين الرحم وصفه به لاستقرار النطفة فيه بنحو من الثبات والاستقرار باعتبار أن النطفة بعد تلقيح البويضة بها لا توضع في الرحم فحسب بل تلتصق بجداره وتكون جزءا من كيان الام.

والقرار – في الاصل – مصدر من قرّ في المكان اذا ثبت ومنه قوله تعالى (مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ)[3] والمراد هنا المكان الذي يستقر فيه الشيء.

والمكين بمعنى المتمكن والمستقرّ في المكان فتوصيف نفس المكان به نوع من التجوز يراد به التأكيد على ثبات الشيء في المكان المعين له.

والاصل في المكان انه مَفعل من الكون ــ كما في كتاب العين ــ ولكن كثرة الاستعمال جعلهم يعتبرون الميم اصليا فصرفوه فقالوا مكين ومتمكن وإمكان وممكن كما صنعوا من المسكين المأخوذ من السكون مصدرا اي المسكنة.

والقدر: المقدار من الزمان وغيره. والقدر المعلوم زمان بقاء الجنين في الرحم الى نهاية تطوّره. والغرض أنه أمد محدّد في الطبيعة عيّنه الله تعالى تنتهي به كل مراحل تكوّن الجنين الى زمان إمكان تولّده واستمرار التطوّر خارج الرحم.

ونفس وصول النطفة الى الرحم ايضا يتمّ بعملية طبيعية معقّدة دبّرها الله تعالى والا فليست هي بالذات مما يمكنه الاستقرار فيه لولا مرورها بتلك المراحل المعقّدة.

ألا يكفي كل ذلك لينتقل الانسان الى الخالق القادر المتعال؟!

فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ... القدر والتقدير واحد كما قال تعالى (فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)[4] اي قدّرنا للجنين مراحل عجيبة من التطوّر في الرحم الى أن أصبح انسانا كاملا وخلقا سويّا في جسمه وروحه.  

وقوله (فنعم القادرون) ثناء عليه تعالى وتعجيب من خلقه للانسان. وقد تكرر في القرآن التعجيب من خلقه كما في قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)[5] وقوله (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)[6] وقوله (قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)[7] وقوله (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).[8]

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ... اي مع وجود هذه الآيات الواضحة على الربوبية والوحدانية فالمكذبون لرسالات السماء لا عذر لهم يوم القيامة فالويل لهم من عذاب ذلك اليوم.

أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا... المعروف في التفاسير بل الظاهر انه متفق عليه أن الكفات بمعنى الوعاء وأصله من الكفت اي الجمع والضمّ. قال في الصحاح (كفتُّ الشيء أكفته كفتا اذا ضممته الى نفسك وفي الحديث: اكفتوا صبيانكم بالليل فإنّ للشيطان خطفة). والمعنى ألم نجعل الارض وعاءا لكم أحياءا وأمواتا اي في الحالين فهي في حال الحياة تضمّكم اليها وفي حال الموت ايضا تجمعكم في باطنها.

والكِفات إمّا مصدر بمعنى اسم الفاعل. وقوله (أحياءا وأمواتا) مفعولان له اي كافتا للاحياء والاموات. والتنكير للتفخيم لكثرة عددهم سواء الاحياء على ظهرها والاموات في باطنها وإمّا جمع كافت باعتبار اختلاف الارضين.

ورووا عن بعض القدماء أنه أشار الى البيوت فقال (هذه كِفات الاحياء والى القبور وقال هذه كفات الاموات). ونسبه القمي الى اميرالمؤمنين عليه السلام وانه تلا الآية بعد ما قال ذلك في منصرفه من صفين. ونسبه الصدوق في معاني الاخبار الى الامام الصادق عليه السلام كما سيأتي. ولكنه منقول في سائر الكتب عن الشعبي وغيره. وكثيرا ما نجد الكلمات المأثورة تنسب الى اشخاص مختلفة والله يعلم ما هو الصحيح منها.

وورد هذا المعنى في بعض رواياتنا فقد روى في الكافي عن ابي عبدالله عليه السلام (في قول الله عز وجل "ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا" قال: دفن الشعر والظفر)[9] وهذا تطبيق لنفس المعنى المذكور للكفات. والرواية ضعيفة وفي سندها ارسال ايضا.

وروى الصدوق بسند ضعيف عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله عليه السلام (أنه نظر إلى المقابر فقال يا حمّاد هذه كفات الأموات ونظر إلى البيوت فقال هذه كفات الاحياء ثم تلا [هذه الآية] "ألم نجعل الأرض كفاتا * أحياء وأمواتا).[10]

ولكن يحتمل أن يكون معنى الآية أن الارض ترجع الاشياء من الاحياء والاموات الى اصولها وموادها الاولية قال في العين (الكَفْتُ‏: صرفك الشي‏ء عن وجهه، تَكْفِتُهُ‏ فَيَنْكَفِتُ‏ أي يرجع راجعا كَفَتَ‏ يَكْفِتُ‏ كِفَاتاً وكَفَتَاناً) وقال (والكفت تقليب الشيء ظهرا لبطن وبطنا لظهر).

وما ورد في كتب اللغة والتفسير من الحديث كشاهد عليه يمكن حمله على هذا المعنى ايضا وهو ما نسب الى الرسول صلى الله عليه واله وسلم من انه قال (اكفتوا صبيانكم بالليل..) فهم فسروا الكفت بالضم اي ضمّوهم اليكم والاولى ان يفسر بالارجاع اي ارجعوهم الى مساكنهم ولا خصوصية للضم والجمع هنا.

وعليه فقوله تعالى (كفاتا) مصدر بمعنى اسم الفاعل اي كافتا للاحياء والاموات. ولعل المراد بالاموات ما ليس له حياة اي ان كل المعادن والمواد المصطنعة تعود في الارض الى اصولها فهو كقوله تعالى (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ).[11]

ولعل التنكير في الاحياء والاموات باعتبار أن المراد ليس الأفراد من الأحياء والأموات بل المعنى يصرف الاشياء من أحياء وأموات الى اصولها.

وهذه ميزة عظيمة في الارض ونعمة جليلة يغفل الانسان عنها ولولا هذه الميزة ما كان بقاء الحياة على هذا الكوكب ممكنا ولو كانت جثث الموتى من الانسان والحيوان تبقى على وجه الارض او حتى في جوفها من دون تحوّل وتغيير لهلك الجميع ولم يمكن البقاء على وجه الارض وكذلك النفايات والقاذورات والعناصر التالفة من النباتات وغيرها كل هذه الاجسام تتحول في هذا الجهاز العظيم الى مواد اولية تتكون منها عناصر جديدة ومفيدة.

وهذا الامر ينبّه الانسان على وحدة الرب والخالق والمدبر وأنّ كلّ هذه العوامل الطبيعية المؤثرة في أصل الحياة ثم في بقائها تعمل كلها تحت تدبير واحد وهذا هو التوحيد الكامل لا خصوص نفي الآلهة او تجنب عبادة الاصنام فالتوحيد هو الاعتقاد بأن كل المؤثرات في الكون تعمل تحت تدبير رب واحد ولو لم تكن كذلك لذهب كل إله بما خلق وكل مؤثر بما يتأثر منه ولفسدت السماوات والارض ولم يكن بين هذه العوامل انسجام واتّحاد في الهدف.

ونحن نجد أن عامل وجود الحياة شيء وعوامل بقائها امور اخرى منها كون الارض جهازا لتغيير العناصر فلا بد من الالتزام بوحدة المدبر للكون وعدم استناد هذه الآثار الى المؤثرات الطبيعية المختلفة بانفسها لولا التدبير الموحّد من خالقها.   

ولم أر أحدا من المفسرين ذكر هذا المعنى للكفات بل حتى في كتب اللغة قلّ من ذكر ذلك نقلا عن العين وانّما اهتموا بالمعنى المعروف حسب ما ورد في التفاسير وهو الوعاء والسبب أن هذه الكلمة قليلة الاستعمال حتى انه اشار في العين ايضا الى الآية وفسرها بما هو المعروف وقال (وكفات الاض ظهرها للاحياء وبطنها للاموات) ولكن الظاهر أن حمل الكفات على هذا المعنى اولى.    

والذي يبعد التفسير المعروف أنه لم يرد في الآية الكريمة نجعل الارض لكم كفاتا بل هي كفات في حد ذاتها مضافا الى ان كونها تجمع الاموات غير مشهود وانما تدفن فيها اجسامهم وتبقى مدة قصيرة ثم تفنى فلا تعتبر الارض مجمعا لهم ونحن نعتقد أن حقيقة الانسان روحه والارواح لا تجتمع في باطن الارض.

مع ان هذا الامر ليس مما يمتنّ به على العباد فلا يختلف الامر بالنسبة للاحياء ان تدفن الاجساد او لا تدفن ومن الغريب ان بعض فقهاء العامة تمسكوا بالآية لترتيب احكام شرعية من قبيل وجوب الدفن ومن قبيل قطع يد النباش باعتبار الارض حرزا للميت وفقا للآية الكريمة!!

وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ... الرواسي جمع راسي من رسا يرسو اي ثبت والمراد بها الجبال حيث يضرب بها المثل في الثبات. والشموخ: العلو والارتفاع.

وهذا امتنان على البشر بخلق الجبال على الارض ولا يخفى على الناس فوائد الجبال ومن أهمها أنها مخازن المياه العذبة التي تنزل من السماء في فصل المطر وتخرج منها عن طريق العيون والآبار والانهار طيلة السنة. وكذلك هي مجمع الثلوج في مواعيدها ثم تذوب تدريجا وتسير في الانهار او تشربها الارض وتخرج ايضا عن طريق الآبار والعيو.ن وهذا أهم شيء في التنعم بالجبال اذ بدونه لا يمكن الحياة على هذا الكوكب مضافا الى منافع كثيرة اخرى فيها.

ومنها ما اشير اليه في عدة آيات أنها تحفظ الارض من الميدان والانحراف. ولعل التعبير بالرواسي يشير الى ذلك ولكن لم يتبين حتى الآن ما هو المراد منه بوجه قطعي ولا ثبت ذلك بالعلم الحديث الا أنه أمر محتمل ولعله يظهر في المستقبل فالعلم له طريق شاق وطويل الى كشف كل الحقائق لو قُدِّر لها ذلك وأنى له؟!

ويحتمل ان يكون المراد منعها من حدوث الحركة والانزلاق في سطح الارض فإنّ هذه القشرة التي نسكنها ونعتمد عليها تتحرك نوعا ما كما هو المشهود ولعل الثبات النسبي الموجود الذي نحتاج اليه في حياتنا على هذا الكوكب يستند الى وجود الجبال الرواسي وقيل إنّ هناك من النظريات العلمية ما يؤيّد ذلك.

وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا... اي ماءا عذبا وهو المطر ويناسب ذكره بعد ذكر الجبال لما مرّ من أنّ التنعم بالماء العذب طيلة العام لا يمكن لأكثر البشر الا عن طريق مخازن الماء في الجبال.

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ... مر تفسيره وذكر تناسبه مع المقطع.

 


[1] القمر: 43

[2] الدخان: 10- 11

[3] ابراهيم: 26

[4] القمر: 12

[5] المؤمنون: 12- 14

[6] غافر: 64

[7] ص: 75

[8] التين: 4

[9] الكافي ج6 ص493 باب دفن الشعر والظفر

[10] معاني الاخبار ص 342

[11] الروم: 19