مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وهنا ايضا ثلاث مقاطع يجمعها أنها تشير الى حال المكذبين يوم القيامة.

انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ... هذا خطاب موجّه اليهم يوم القيامة. والانطلاق بمعنى الذهاب او سرعة الذهاب في المحنة كما في العين وغيره. ولكن حيث انه مطاوعة الطلاق وهو تخلية السبيل ففيه معنى الذهاب مرسلا وبحرية.

وفيه تهكم واضح حيث يؤمرون بالانطلاق الى ما كانوا يكذّبون بوجوده وهو عذاب الآخرة. وهذا الخطاب يوجّه اليهم بعد الانتهاء من محاسبة يوم الفصل وهم حينئذ يبتدئون حياة الأسر والقيد والعذاب الدائم وليس لهم انطلاق وتخلية سبيل فهو تهكم واستهزاء بهم.

والخطاب إما من الله تعالى كما ربما يبدو من قوله (فان كان لكم كيد فكيدون) او الملائكة او خطاب تكويني فلا يجب ان يكون هناك خطاب ذلك اليوم وانما الخطاب والتهكم هنا في نقل حوادث ذلك اليوم العصيب بهذه الطريقة.

انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ... تكرار الامر بالانطلاق لمزيد من التهكم والاستهزاء بهم فكأنّه يؤكّد على حريتهم وانطلاقهم مع أنّ المؤكّد أنهم وقعوا في أسر أشدّ وأبقى.

وفي التعبير عن نار جهنّم بالظل تهكّم آخر فهم في ذلك الحر وبعد الحساب الطويل والمحاكمة ومشاهدة أعمالهم الاجرامية يحتاجون الى ظلّ يأوون اليه ويستريحون فيقال لهم انطلقوا الى الظل وهو النار او دخانها.

والظل هو الساتر كما في معجم مقاييس اللغة فالنار بنفسها قد تكون ظلّا اذا احاطت بالانسان من كل جانب ودخانها ايضا ظل. وقد عبّر عن النار نفسها بالظل في قوله تعالى (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ..)[1] والجمع يفيد أن النار فوقهم وتحتهم طبقات.

والشُعَب جمع شُعْبة اي الفِرقة ووصف الظل وهو النار او دخانها بانه ذو ثلاث شعب إمّا لعظمته حيث ينقسم الى ثلاثة أقسام بمعنى أنه يصعد الى فوق والى اليمين والى الشمال  وإمّا لإحاطته بهم فشعبة فوق راسهم وشعبتان عن يمينهم وشمالهم. وقيل ان التقسيم بلحاظ أعمالهم حيث إنهم كذّبوا بالله واليوم الاخر والرسالة.

لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ... توصيف الظل بأنه غير ظليل باعتبار أنه إمّا هو النار بنفسها وإمّا هو ناشئ من النار اي دخانها المتصاعد فهو يزيد الجو حرارة وخفقانا فلا يفيد فائدة الظل المرجوّة منه.

واللهب اشتعال النار كما في العين والجمهرة. وقوله (لا يغني من اللهب) اي لا يكفي ساترا وحاجزا عن اللهب و(من) بمعنى (عن). ولعل هذا يؤيد أنّ المراد بالظل الدخان فان النار نفس اللهب فلا معنى للقول بانها لا تغني من اللهب.

إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ... الضمير يعود الى جهنّم وقد اُشير اليها فيما سبق بقوله تعالى (ما كنتم به تكذبون) او يعود الى النار بناءا على أن المراد بالظل هو النار.

والتعبير يصوّرها تصويرا مذهلا فالشرر ما يتطاير من النار وهي عادة ذرّات صغيرة ولكن هذه النار شررها عظيم مرتفع كالقصر وهو معروف كقصور الملوك سميت به لأن حُرُمَهم تقصر اي تحبس فيها.

وقرئ (قَصَر) بفتحتين وفسّره في العين بأعناق النخل. وفُسِّر ايضا باُصول الشجر العظام ولكن الظاهر هو الاول. وقوله (ترمي) قد يراد به الرمي في السماء وقد يراد رميهم بها وهو فظيع جدا.

والضمير في قوله (كأنّه) يعود الى القصر لانه مذكر. والجمالة جمع جمل كالحجارة جمع حجر. وقرئ جمالات وهو أنسب باللام المفتوحة كما في رسم الخط وهو جمع جمال كرجالات جمع رجال.

وهذا ايضا رسم آخر للمشهد المروّع فهذا القصر يشبه جمالا صفرا متطايرة في الجو فالتشبيه بالجمال من جهة لون الشرر ومن جهة تحركها.

ويلاحظ أن القصر وهو البيت الشاهق المرتفع شبّه بمجموعة او بمجموعات من الجمال وهو تشبيه غريب ابتدعه القرآن وكم له فيه من نظير.

وربما يستغرب تشبيه الشرر بالقصر ثم تشبيهه بالجمال الصفر ويبدو ايضا هذا الاستغراب من محاولة المفسرين قديما وحديثا توجيه هذا التشبيه.

ولعل السرّ في اختيار هذا التشبيه أنّ القصور من تطلّعات القوم في الدنيا وأمانيهم او من مفاخرهم فبعضهم كان يعيش في القصر مفتخرا به ومتعاليا على غيره وبعضهم يتمناه وهكذا تتجلى مفاخرهم وأمانيهم بصورة شرر النار المتطاير.

واختيار الجمال من بين انواع الحيوان لعله من جهة اهتمام المخاطبين وهم اهل مكة ومشركو الجزيرة العربية بهذا الحيوان ولعل اللون الاصفر منه أجمل وأحبّ اليهم فهذا ايضا بيان لتجلّي ما يحبّونه بصورة النار العظيمة المحرقة كما أن التعبير بالظل ايضا يعكس الحياة البدوية التي كانوا يعيشونها فالبدويّ في أسفاره يبحث غالبا عن ظلّ يأوي اليه وهو قليل جدا في الصحراء القاحلة.

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ... ويل لهم من هذا العذاب الاليم الذي لا يمكن للتعبير أن يقرّبه الى الاذهان فهو بعيد عن متناول الافهام.

هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ... (هذا) إشارة الى يوم القيامة و(يوم) مضاف الى جملة (لا ينطقون) اي هذا اليوم يوم عدم نطقهم اي المكذبين ليوم القيامة.

وقد وقع الكلام قديما وحديثا في وجه نفي النطق هنا وفي موارد اخرى مع اثباته في مواضع اخرى من الكتاب العزيز وأجابوا بأن ذلك اليوم ذو مواقف كثيرة فهم ينطقون في بعضها ويصمتون في بعض آخر ورووا في ذلك روايات كثيرة عن ابن عباس وغيره.

ولكن ظاهر هذه الآية أنّ عدم النطق ميزة هذا اليوم بجميع مواقفه والا فالانسان في الحياة الدنيا ايضا ربما يمنع من الكلام او لا يستطيعه في مواقف.

وقيل: إنّ فيه إضمارا وهو أنهم لا ينطقون بحجة. وهو أبعد من الاول كما هو واضح اذ لا دليل على هذا التقييد مع أنه ايضا لا يختص بيوم القيامة فهم لا ينطقون بالحجة في الدنيا ايضا. ولذلك لم يذكره الا قليل واعتمدوا غالبا على الجواب الاول.

وقيل: إن ما ورد من عدم النطق خاص بيوم الحشر كهذه الآية وما نقل عنهم من التكلم انما هو بعد دخولهم في النار. ولكن هناك آيات كثيرة تنقل كلامهم يوم الحشر كقوله تعالى (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).[2]

والصحيح أن لذلك اليوم ميزة وهي أن الانسان يفقد اختياره الذي منحه الله تعالى في هذه الحياة فهو يتكلم هنا متى شاء وكيفما شاء وأما في تلك المرحلة من الكون فلا يتكلم أحد الا بإذن خاص وليس هناك اذن عام واختيار للانسان وان كان الاختيار هنا ايضا يمنحه الله تعالى بمشيئته وليس تفويضا ولكنه تعالى يمنحه الاختيار والقدرة ليفعل ما يشاء الا ما لم يشأ الله تعالى.

والدليل على هذا التفصيل قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ..)[3] وقوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا).[4]

ثم إنّ بعض ما ينسب من الكلام في الآيات الكريمة الى البشر او غيرهم قد لا يكون بمعنى النطق وانما هو حكاية لحاله كقوله تعالى (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ).[5]

وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ... اي لا يؤذن لهم في الاعتذار وقوله (فيعتذرون) مترتب على الاذن لا على عدمه فالنفي وارد على الاذن والاعتذار. والنتيجة أنهم لا يعتذرون وليس معنى ذلك أنّ لهم عذرا ولكنهم لا يعتذرون لعدم الاذن بل ليس لهم عذر ليعرضوه ولذلك لا يؤذن لهم فعدم الاذن ينشأ من انتفاء العذر المفيد فهو نظير قوله تعالى (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)[6] اي لا يطلب منهم ولا يؤذن لهم في الاستعتاب وهو طلب الرضا.

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ... وأيّ ويل أعظم من غضب الربّ الرحيم.

هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ... جمع في توصيف ذلك اليوم بين الفصل والجمع فهو يوم يفصل فيه بين الحق والباطل وبين أتباعهما ويجمع شتات كل منهما طيلة القرون المتمادية التي مرت على البشرية. وهذا شأن كل جامع فانه لا يكون جامعا الا اذا فصل بين الفريقين او الفرقاء فصلا تاما ليكون جامعا لجميع أفراده.

والخطاب في قوله (جمعناكم) الى المكذبين من قريش وشعب الجزيرة العربية. والمراد بالاولين المكذبون للرسالات من الامم السالفة وقد مر ذكرهم في قوله تعالى (ألم نهلك الاولين). وورد الجمع بين الاولين والآخرين في قوله تعالى (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ).[7]   

فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ... الفاء للتفريع اي بعد أن جمعناكم والاولين فقد استظهر بعضكم ببعض وأصبح جمعكم كثيرا جدا حيث يجتمع ملايين الملايين من البشر فان كان لكم كيد تعملونه ضدي او للخلاص من عذابي فافعلوا.

وهو امر تعجيزي يقصد به الاستهزاء منهم اذ يتبين لهم ذلك اليوم بوضوح أنهم لا يتمكّنون من أيّ شيء ولكن حيث كانوا في الدنيا يستظهرون بكثرة جموعهم ويكيدون بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وبالرسالة وبالمؤمنين وبكل ما يتعلق بالدين يذكّرهم الله تعالى في ذلك اليوم بكيدهم وبما كانوا يخدعون به أنفسهم من الاستظهار بكثرة الناس من حولهم ويطلب منهم تهكما ان يكيدوا به اليوم ان كان لهم كيد.

والكيد كل مكر واحتيال يحاك ضد احد. والنون في قوله (فكيدون) مكسورة تدل على الياء المقدرة اي فكيدوني!! ويا له من تحقير واستهزاء أن يطلب من العبد الذليل العاجز أن يكيد ربه جبّار السماوات والارض!!!

والاستظهار بالكثرة امر طبيعي يحصل للصالحين والفاسدين ولكنه من المغريات ومما يلبس الامر على عامّة الناس فكثيرا مّا يعتقد العامّة صحة طريقتهم بكثرة الأتباع وكلما زاد العدد زادت طمأنينتهم مع أنّ الكثرة لا تدلّ على كون الحق معهم بل ولا على غلبتهم.

قال تعالى (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)[8] وقال (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ..)[9] وقال ايضا (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[10]

وهناك آيات كثيرة مضمونها أن أكثر الناس (لا يؤمنون) (لا يشكرون) (لا يعلمون).

وقال امير المؤمنين عليه السلام (أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهِ فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَةٍ شِبَعُهَا قَصِيرٌ وَجُوعُهَا طَوِيلٌ).[11]

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ... ويل لمن كان يكيد بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وبأهل بيته الطاهرين وبالمؤمنين ظنا منه أن ليس هناك يوم يجازى فيه على جرائمه.

 


[1] الزمر: 16

[2] الانعام: 128

[3] هود: 105

[4] النبا: 38

[5] الحاقة: 25- 29

[6] الجاثية: 35

[7] الواقعة: 49- 50

[8] التوبة: 25

[9] البقرة: 249

[10] المائدة: 100

[11] نهج البلاغة الخطبة: 201