إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ... بعد الترهيب من عاقبة المكذّبين ذكر المتقين وعاقبتهم الحسنة ونعيمهم الدائم لتكتمل الدعوة فالترهيب ينبغي ان يعقّب بالترغيب في مقابله.
ومن الغريب ما ورد في بعض التفاسير من أن المراد بالمتقين الذين يتقون التكذيب ليشمل عصاة المؤمنين وذلك بقرينة مقابلة المكذبين.
وهذا تـأويل لا وجه له فالله تعالى لا يَعِدُ العصاة بأنهم في ظلال وعيون وإن أمكن أن يعفو عن بعضهم وانما الوعد للمتقين حقّ التقوى.
وكون المتقين في ظلال وعيون بمعنى مجاورتهم لها اي في مكان تكثر فيه الظلال والعيون. والظل يقال لكل موضع لم تصل اليه الشمس وان كان السبب عدم وجودها كما هو الحال في الليل. قال في العين (وسواد الليل يسمى ظلا).
وربما يظهر من القرآن الكريم أن الشمس لا توجد في الجنة لقوله تعالى (لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا)[1] وقد مر في تفسير الآية أن ذلك محتمل كما يحتمل أن عدم الرؤية لوجود الظلال الكثيرة المتراصّة بحيث لا ترى الشمس من خلالها كما هو معنى الجنة.
ويؤيد هذا الاحتمال الاتيان بصيغة الجمع هنا فانها تدل على كثرة الظلال ولا يناسب المعنى الاول اي عدم وجود الشمس.
ويمكن أن يكون المراد بالظل الساتر كما في معجم المقاييس فيصدق الظلال على الاشجار الكثيرة في الجنة وان لم تكن هناك شمس.
وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ... عطف على (ظلال وعيون) والظرفية المجازية هنا اوضح اذ لا معنى لكونهم في الفواكه فالمراد انهم في مكان مليء بالفواكه المتنوعة. و(من) بيانية والمعنى أن نوعية الفواكه لا تتحدد بشيء الا باشتهائهم فكلّ ما اشتهوه وجدوه.
والفاكهة ما يؤكل للتلذذ وكل ما يؤكل في الجنة انما يؤكل للتلذذ اذ ليس هناك جوع ليحتاج الانسان الى ما يسدّه.
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ... كلوا من فواكه الجنة واشربوا من عيونها.
و(هنيئا) صفة لمفعول مطلق مقدر اي كلوا اكلا هنيئا واشربوا شربا هنيئا. والهنيء كل امر أتاك بلا مشقّة ولا تبعة مكروهة كما في العين.
وهذا ميزة الطعام والشراب في الجنة فان الانسان مهما كان متنعما في الدنيا فهناك ما يُنغّص عليه عيشه فالاكل والشرب وان كانا لذيذين فإنّهما غالبا يضرّان الانسان من جهات شتى بعد ذلك وربّما يؤذيانه في نفس الوقت وهكذا كلّ ما يتلذّذ به الانسان في الدنيا الا اذا كان من المعرفة بحيث يتلذّذ بعبادة ربه فانها اللذّة الوحيدة في الدنيا التي لا يصاحبها مكروه ولا يتعقّبها أذى بل يتعقبها الشعور بالراحة والرضا.
وقوله تعالى (بما كنتم تعملون) يسدّ باب الاوهام التي سبقت الاشارة اليها آنفا من أن الوعد هنا يشمل عصاة المؤمنين فالوعد ليس على أساس الانتماء كما يتوهم بل على أساس العمل الصالح والله تعالى لا يُخدع في جنّـته. والغرض أن الوعد لا يشمل العصاة وان كان باب الرجاء واسعا.
والخطاب قد لا يكون لفظيا فلا حاجة الى البحث عن أنّ هذا الخطاب من تتمة خطاب المكذبين ليزدادوا بذلك تألّما وحقدا او أنه خطاب مستقل لأهل الجنة ليزدادوا بذلك تنعّما او يكون تكريما لفظيا مع التكريم العملي فقد يكون الكلام حكاية عن الواقع الموجود كما هو الحال في كثير من مخاطبات القيامة. وقد مر بعض الكلام حوله في تفسير سورة الجن.
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ... يبدو من هذه الآية التعليل وأنّ المناط في الجزاء ليس هو التقوى فحسب التي هي صفة نفسية بل لا بد من العمل كما أشار اليه في الآية السابقة ايضا. وقوله (كذلك) اي بمثل هذا الجزاء نجزي كل من أحسن في عمله.
والحاصل أن هذه الجملة ليست تكرارا وتأكيدا فحسب كما يتوهم بل فيها إشارة الى أنّ الجزاء يتبع العمل ومع ذلك ففيها تأكيد مرّة اخرى على أنّ الاكرام والانعام ليسا لمن يدعي الايمان او ينتمي الى طائفة المؤمنين كما توهمه بعضهم وانما هما للمحسنين اي الذين يحسنون أعمالهم او يعملون الاعمال الحسنة.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ... تعقيب ذكر نعم الجنة بهذا الذيل لبيان أن أحد انواع العذاب على المجرمين هناك هو الحسرة والأسف من حرمانهم من النعم الجزيلة التي يتنعم بها المتقون المحسنون.
[1] الانسان: 13