كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ... في المقطع الاخير يعود السياق الى مخاطبة المكذبين في الدنيا وتحذيرهم من عاقبة أمرهم.
والخطاب مفعم بالتهديد والإيئاس منهم فهم فرحون بما لديهم من نعم ويضحكون من الوعود الالهية بنعم الآخرة فالخطاب ينبّههم على خطأهم وأنّ هذه النعم لا بقاء لها وانما تتمتعون مدة بقائكم في الدنيا وهي مهما كانت قليلة محدودة وتنتهي بالموت.
وهذا هو الفرق الاساس بين هذا الاكل وأكل المتقين يوم القيامة مع أن نوعية الاكل والتلذذ تختلف اختلافا كبيرا الا أن المهم هو البقاء هناك والزوال هنا.
والتمتع هو التلذذ الموقت وان كان ممتدا ولذلك لا يطلق على ملذّات الجنة فقوله تعالى (قليلا) للاشارة الى أنه مضافا الى كونه زائلا أمده قصير فان عمر الانسان في الدنيا قصير مهما طال.
وجملة (إنّكم مجرمون) تعليل لما يشتمل عليه الامر بالاكل والتمتع من تحذير وتهديد وذلك لأنّ الإجرام لا يمكن أن يمرّ من دون عقوبة في هذا الكون الذي يحكمه القانون والدقة فلا بدّ من يوم يكون لكم فيه الويل والثبور جرّاء إجرامكم. وأيّ جرم أكبر من تكذيب رسالة السماء؟!
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ... يعود بهم الى يوم الفصل حيث ينال المجرمون جزاءهم.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ... قد يكون الركوع كناية عن الصلاة فالمراد أنهم يستنكفون عن عبادة الله تعالى او يكون المراد نفس الركوع بمعنى الخضوع والتسليم لأمر الله تعالى.
والتعليق على الامر بالركوع للتنبيه على أنهم لا يركعون من ذاتهم وبطبعهم بل لا يركعون حتى اذا قيل لهم وطلب منهم.
ويمكن أن يكون المراد بالقول قول الله تعالى فهم مضافا الى عدم خضوعهم لله يخالفون أمره ونهيه ويعصونه.
وقد وقع الكلام في ارتباط الآية بما قبلها فقيل إنّ الجملة معطوفة بتقدير الموصول على وصف المكذبين في الآية السابقة فالمعنى ويل يومئذ للمكذبين والذين اذا قيل لهم اركعوا لا يركعون.
ويحتمل أن تكون تعقيبا على توصيفهم بالمجرمين في الآية ما قبل السابقة وان كان فيه التفات من الخطاب الى الضمير الغائب.
وفي هذا التعقيب تعليل لتحذيرهم من زوال النعمة بأنهم لا يعبدون الله تعالى ولا يطيعونه وهو المنعم عليهم بكل ما يتمتعون به فحقيق بهم أن تزول عنهم النعمة ويتعقب تمتعهم الويل والثبور.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ... فإنّ إجرامهم واستكبارهم عن عبادته تعالى وإطاعته وكل ما يرتكبونه من فظائع تنشأ من تكذيبهم ليوم الجزاء ولرسالة السماء.
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ... الاستفهام لاستنكار التكذيب الذي كرّر التنديد به عشر مرات ولبيان أنّهم قد ختم على قلوبهم فهم لا يؤمنون بأيّ حديث الا ما يروقهم من شؤون الدنيا وما يناسب أهواءهم.
والضمير يعود الى القرآن والمراد بما بعده كل حديث غيره لا البعدية الزمانية كقوله تعالى (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ..)[1] اي إن لم يؤمنوا بهذا الكتاب...
مع وضوح حججه.
ومع أنهم يعرفون لغته وتبهتهم فصاحته وبلاغته.
ومع أنّهم يعرفون الرسول الذي أتى به ويعلمون أنه الصادق الامين وأنه لم يقرأ قبل هذا الكتاب ولم يكتب شيئا.
ومع أنّ هذا الكتاب يخبرهم عن الغيب بما يكفي دليلا واضحا على كونه نازلا من ربهم.
وكل ذلك وغيرها آيات واضحة تستوجب ايمانهم فان لم يؤمنوا فلا يمكن أن يؤمنوا بأيّ حديث غيره.
وفي ذلك إيئاس للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الامين وآله الطاهرين.
[1] يونس: 32