اختلفوا في كون هذه السورة مكية او مدنية بل اختلفت الروايات ايضا من الصحابة والتابعين ويبدو من الوجوه المذكورة في التفاسير أن المفسرين في أكثر الموارد لا يعتمدون على النقل والرواية بل على ملاحظة سياق السورة وتناسبها لأجواء مكة او المدينة.
وحيث كان سياق السورة بمعظمها مناسبا لأجواء مكة الا المقطع الاول حيث يتعرض لحكم فرعي في الدين وهو حرمة التطفيف في الكيل والوزن ارتبكوا في اعتبارها مدنية او مكية ولذلك ذهب بعضهم الى انها مكية الا هذه الآيات وقال بعضهم انها نزلت بين مكة والمدينة وقيل انها آخر سورة نزلت في مكة وقيل انها اول سورة نزلت في المدينة كل ذلك للحفاظ على تناسب السياق.
ولكن الظاهر بنفس هذا المناط انها مكية تماما وذكر موضوع التطفيف ليس الا للتنديد ببعض جرائمهم الاجتماعية كما ورد في مواضع اخرى ايضا كقتل الاولاد ووأد البنات وتحريم ما أحله الله تعالى واكل الميتة والدم ونحو ذلك وسيأتي ذكر آيات اخرى مكية تنهى عن التطفيف ايضا.
ومن هنا لم يكتف في التعرض له هنا بمجرد النهي كما هو المناسب للمجتمع الاسلامي بل ندّد به بذاته كجريمة اجتماعية وظلم على الناس ولكنه حذّرهم من عذاب يوم القيامة لكي يبقى السياق قرآنيا.
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ...
(ويل) كلمة تقال للتنديد بأحد والتقبيح لفعله. والظاهر أن معناها يختلف حسب اختلاف الموارد كما يظهر من كتب اللغة وموارد الاستعمال. وربما تشتمل على الدعاء على احد بحلول الشر او تهديد بما يصيبه منه كما قد تفيده هنا.
والتطفيف: الانقاص في الكيل والوزن قيل انه من الطفاف اي القلة ومنه يقال للشيء القليل طفيف وقيل ان الطف بمعنى الشاطئ ومنه تسمية كربلاء بالطف لانها على شاطئ الفرات ومنه طِفاف الاناء اي حافته. والتطفيف بمعنى جعل ما في الاناء موازيا لحوافّه فيكون تقليلا لما فيه.
الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ...
(اكتالوا) من الاكتيال وهو التقدير بالكيل. يقال اكتلت من فلان واكتلت عليه. ولعل تعديه بـ (على) باعتبار أنه في حد ذاته مضر بالناس لانه ياخذ منهم ما يستحق اخذه.
والاستيفاء اخذ الشيء كاملا. والمعنى أنهم اذا اشتروا من احد شيئا من المكيل يأخذونه كاملا. والظاهر ان الوزن مقدر هنا اذ لا فرق بين الاخذ بالكيل او بالوزن وانما اكتفي بذكر الاكتيال اعتمادا على ذكرهما معا في الجملة الثانية كما يقدر البرد في قوله تعالى (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ).[1]
ولا حاجة الى ما ذكره المفسرون من الوجوه في الفرق بين حالتي البيع والشراء لتبرير ترك ذكر الوزن في هذه الجملة.
وقوله (كالوهم او وزنوهم) اي (كالوا لهم او وزنوا لهم). وقوله (يخسرون) اي ينقصون من بضاعتهم. والخُسر: النقصان. وأخسرته اي نقصته.
ومجموع ما ورد ذكره في الآيتين صفة قبيحة واحدة فان الصفة الاولى في حد ذاتها لا باس بها لان المراد بها أنهم اذا اشتروا من احد شيئا اخذوا حقهم كاملا انما القبيح ان يستوفي الانسان حقه ولا يوفي الناس حقهم فالصفة الاولى تدل على انه ليس من اهل التسامح والتساهل والا لتسامح في اخذ حقه ايضا وانما يتسامح في دفع حق الناس.
أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ...
الاستفهام للاستنكار والتوبيخ اي كيف لا يظنون ولا يحتملون البعث؟!
ويمكن ان يكون الاستفهام لانشاء التعجب ومعناه اعلام انه امر عجيب في حد ذاته اي انه يستدعي التعجب من الناس لان التعجب الذي هو صفة نفسية لا يمكن اسناده الى الله تعالى. إلّا ان كونه هنا للاستنكار اقرب.
والظن هو الاحتمال غير المستند الى احساس مباشر وانما عبّر به لان الاحتمال يكفي لوجوب دفع الضرر عقلا فانه ضرر عظيم يهتمّ به العقلاء حتى لو كان الاحتمال ضعيفا فالمراد أنهم كيف لا يحصل لهم احتمال البعث وهو امر محتمل مع وجود هذه المؤشرات ولا اقل من إخبار الانبياء وتحذيرهم فقولهم يوجب الظن على الاقل ولا يمكن لاي انسان ان ينكره بدليل اذ لا يوجد طريق لادراكه او ادراك عدمه بصورة طبيعية.
وقوله (اولئك) اشارة الى المطففين وذكر المفسرون وجوها مختلفة في اختيار الاشارة دون الضمير.
ففي روح المعاني (ووضعه موضع ضميرهم للإشعار بمناط الحكم الذي هو وصفهم فإن الإشارة إلى الشيء متعرضة له من حيث اتصافه بوصفه وأما الضمير فلا يتعرض للوصف وللإيذان بأنهم ممتازون بذلك الوصف القبيح عن سائر الناس أكمل امتياز نازلون منزلة الأمور المشار إليها إشارة حسية وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد درجتهم في الشرارة والفساد).
وقال العلامة قدس سره في الميزان انه اتى باسم الاشارة الخاص بالبعيد للاشارة الى انهم بعيدون عن رحمة الله تعالى.
ولعل الاولى ان يقال ان الوجه هو التاكيد على انهم هم المقصودون هنا لا عامة الناس والضمير لا يؤكد ذلك بل ربما يوهم انه خطاب عام.
واليوم العظيم يوم القيامة وهو ليس يوما بالمعنى المعروف كما هو واضح بل هو مرحلة من مراحل التكوين وعظمته من جهة كثرة اهواله ومن جهة أن الله تعالى يحيي الموتى لينال كل احد موضعه اللائق به في ذلك العالم ويرى نتيحة اعماله خيرا وشرا بعد ان عاش في هذه الحياة من دون ان يرى الاثر الكامل لاعماله فهنا عمل ولا حساب وهناك حساب ولا عمل.
واللام في قوله (ليوم) بمعنى (في) ومثله قوله تعالى (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ).[2]
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ...
(يوم) منصوب بتقدير (اعني) او هو ظرف لقوله (مبعوثون). والمراد بالقيام حياتهم بعد الموت. وقيامهم للرب بتضمين معنى استعدادهم وتهيئهم لتلقّي حكمه تعالى فيهم.
وتوصيفه برب العالمين للاشارة الى ان هذا مقتضى تربيتهم فانهم لم يخلقوا عبثا وقد خلق لهم كل ما في الارض كما قال تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا..)[3] فلا بد من بلوغهم الى مرتبة تظهر فيها آثار اعمالهم. والعالمون كل البشر.
وفي هذه الآيات تنديد شديد بالتطفيف باعتبار أنه لا يقوم به الا من ينكر يوم القيامة انكارا فلا يحتمل وجوده ولو بظن ضعيف ولو كان يحتمل لم يعتدِ على اموال الناس خصوصا بملاحظة انه ياخذ حقه كاملا من دون تسامح وفيه تهديد بجزاء أليم لهم يوم القيامة وسيأتي في الآيات التالية بيان ذلك.
[1] النحل: 81
[2] الانبياء: 47
[3] البقرة: 29