مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ...

هذه خمس آيات مقدمة لبيان ميزة اخرى للابرار في ذلك اليوم وهو ما يأتي في نهاية السورة من ملاحظتهم لحال الكفار وهذا ايضا مما ينعم الله به على المؤمنين فانهم كانوا يرون الكفار في الدنيا يتلذذون بنعمها غير مبالين لما يحكم به الشرع ويشعرون بحرية تامة والمؤمن مقيد وملجم لا يفعل ما يشاء ولا يقول ما يشاء يلجمه الدين والضمير.

ونحن نجد بأن بعض من يدعون أنهم مسلمون ايضا من هذا القبيل يكذبون ويتهمون ويقتلون المؤمنين دون هوادة ولا يشعرون باقل تحرج من ذلك والمؤمنون يتحملون الاذى بل القتل والتشريد من اجل الحفاظ على وحدة الصف وعدم استباحة دماء المسلمين ومن الطبيعي ان هذا الامر يوجب شعورا بالاسى والالم لديهم ولا يجدون طريقا في هذه الدنيا للخلاص عنهما ولا يقدرون على الانتقام من أعدائهم فالله تعالى يجزيهم يوم القيامة بملاحظة حال الكفار والمنافقين وهم ينالون جزاء أعمالهم فتشفى صدورهم.

ومن هنا فان مضمون هذه الآيات حكاية حال يوم القيامة ولذلك أتى بالفعل الماضي (كانوا) وقد فسر الذين اجرموا بمشركي مكة. ورووا في ذلك أن بعض المشركين كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل كانوا يستهزئون بفقراء المؤمنين كعمار وصهيب وبلال والخباب.

وقيل انها نزلت بشأن بعض المنافقين حيث استهزأوا بأمير المؤمنين عليه السلام ورد ذلك في تفسير القمي. وروى الحسكاني في شواهد التنزيل عدة روايات في ذلك منها رواية عن الامام الصادق عليه السلام.

وفي الكشاف (وقيل: جاء على ابن أبى طالب رضى الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع فضحكوا منه، فنزلت قبل أن يصل علىّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ولكن شيئا من ذلك لم يثبت والظاهر أن الآيات عامة ومواردها متكررة في كل الاعصار فالمراد بالذين أجرموا كل المجرمين سواء في ذلك مشركو مكة والجزيرة العربية والكفار من اهل الكتاب والمنافقون ومن اتى بعدهم من الكفرة والمنافقين وما اكثرهم في عصرنا؟!

والاجرام كما قلنا لا يختص بالشرك ولا يصدق باي معصية بل المجرم من يقطع الصلة بينه وبين ربه او بينه بين المجتمع بارتكابه الفظائع العظيمة. والاستهزاء بالمؤمنين من حيث انهم مؤمنون من أفظع الجرائم عند الله تعالى.

والتعبير بأنهم كانوا يضحكون يدل على كونه دأبهم وديدنهم كما نلاحظه في زماننا ونسمع به في كل زمان. والضحك من الانسان تعبير عن الاستخفاف به وحيث لم يذكر عنوانا موجبا للاستخفاف يتبين أن الموجب له هو ايمانهم فهو في الواقع ازدراء للايمان بالله تعالى وباليوم الاخر وبالرسالات.

والضحك والاستهزاء من اقبح ما يلجأ اليه أعداء الرسالات وبوجه عام الاصلاحات الاجتماعية كما يظهر من موارد عديدة من الكتاب العزيز والسر فيه أن هذه الطريقة في مواجهة الحق لا يمكن الرد عليها لانها لا تستند الى دليل وحجة وهي في نفس الوقت مؤثرة تاثيرا عميقا في نفوس العامة من الناس وخصوصا في نفوس الشباب والمراهقين وتبعدهم عن الرسل والمصلحين ولا تترك لهم مجالا للتفكير.  

ولذلك ورد في القرآن الكريم عدم جواز الجلوس في مجلس يستهزأ فيه الدين قال تعالى (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).[1]

ووردت الاشارة الى هذه الآية المكية في سورة النساء وهي مدنية حيث قال تعالى (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا).[2]

ويلاحظ هنا التشديد في المنع حيث اعتبر الجالس معهم مثلهم في الاثم لقوله تعالى (انكم اذا مثلهم) بل اعتبر ذلك نفاقا وحذّر الجالس معهم بانه سيكون ضمن المنافقين والكافرين في جهنم.

 

وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ...

الضميران يمكن رجوع كل منهما الى كل من الفريقين فهذا النوع من الاستخفاف كان يحصل منهم اذا مروا هم بجماعتهم على المؤمنين او اذا مر المؤمن بهم وهم مجتمعون.

والتغامز من الغمز والاصل فيه النخس والعصر باليد كانوا يفعلون ذلك لمعرفة وجود الشحم في الدابة. ويطلق على الاشارة بالجفن والحاجب الى وجود عيب في الشخص لا يصرح به. ومن هنا يقال ليس فيه مغمز اي شيء يعاب عليه.

وهذا حكاية لحالة اخرى من بعضهم ولعله انسب بالمنافقين حيث انهم لا يصرحون بعدائهم للمؤمنين ولكنهم يتغامزون عليهم فيما بينهم للتحقير والاستخفاف وهذا ربما يخفى على المؤمن ولا ينتبه له ولكن الله تعالى يحاسبهم به فالجريمة عنده تعالى ليس خصوص ايذاء المؤمن بل الاستخفاف به حتى لو لم يعلم به. ومن هنا اشتدت حرمة غيبة المؤمن ولا ينفع في رفعها اذنه كما يتوهم لان هذا من حق الله تعالى لا من حقه.

 

وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ...

الانقلاب اي الرجوع. و(فكهين) اي فرحين معجبين بانفسهم. فكأنهم كانوا في مهمة انتهوا منها بنجاح وهي الاستخفاف بالمؤمنين وايذاؤهم فاذا رجعوا الى اهلهم اي الى مساكنهم حيث يوجد اهلهم كانوا مسرورين بما فعلوا أشرين بطرين وكأنهم ظفروا بشيء ينفعهم.

ولو لاحظنا حال مشركي مكة خاصة فهم انما كانوا يفرحون بذلك لانهم يفرغون به ما في قلوبهم من الحقد على المؤمنين ولعلهم كانوا يحسدونهم لانهم غالبا كانوا يعلمون ان الطريق الصحيح هو ما يسلكه هؤلاء بل ربما كانوا يتوقعون ان تدور الدائرة عليهم ويحكم فيهم هؤلاء في يوم من الايام ولكنهم كانوا يأبون الخضوع للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم حسدا وحقدا وكبرا وطغيانا.

ومن هنا كانوا يشعرون بخسارة عظيمة تلحق بهم حيث يرون مستقبلهم في خطر من هؤلاء الصعاليك فيحقدون عليهم ولا يمكنهم ان يفعلوا شيئا الا الايذاء والضرب والاستخفاف. ومثل هذه الحالة موجود في كثير من الموارد.

ومن هذا القبيل قوله تعالى (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ).[3]

 

وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ...

اي اذا رأوا المؤمنين قال بعضهم لبعض او قالوا لغيرهم ممن يلاحظ حال المؤمنين وهم يشيرون اليهم (ان هؤلاء لضالون) بكل تأكيد. والظاهر انهم يقولون ذلك لابعاد الناس عنهم او لاقناع انفسهم حتى لا يميلوا الى طريقتهم.

وهذا من عجيب امر الانسان فلو كان مقرا بانه على ضلال لامكن ان يهتدي الى الطريق الصحيح ولكنه يضل الطريق ويتأسف على الآخرين حيث لم يتبعوا سبيله فيعتبرهم ضلوا طريق الحياة والمشركون ايضا كانوا يرون أنهم هم المهتدون او هكذا يتظاهرون.

 

وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ...

هذا ردّ عليهم بأن الله تعالى لم يرسلكم حفظة على المؤمنين تسجلون عليهم أخطاءهم فان صح طريقهم فهو لهم وان ضلوا فهو عليهم. وهذا أمر عام فلا يحقّ لاحد ان يتدخل في شؤون هداية الآخرين الا من بعثه الله تعالى.

ومن أقبح ما نجده اليوم التشدّد الديني والتزمّت فتجد ان جمعا من المسلمين ينفردون بآراء شاذّة يعتبرونها اصل الدين وانه هو التوحيد الصحيح ويتهمون سائر الفرق بالشرك بل يستحلون دماءهم وما ارسلوا عليهم حافظين.

 

فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ...

الفاء للتفريع وهذا ما يحصل يوم القيامة نتيجة ما كان يحدث في هذه الدنيا فالمؤمنون في ذلك اليوم يضحكون من الكفار كما ضحكوا هم من المؤمنين ولكنهم ضحكوا مدة قصيرة والمؤمنون يضحكون منهم الى الابد وضحك المؤمنين انتقام من ضحكهم. والكفار يوم القيامة يشمل كثيرا ممن يعتبرون مسلمين في الدنيا.

ومر معنى الارائك في تفسير الاية 23 والمراد بالنظر هنا هو النظر بالعين وفيه احتمالان:

الاول ان يكون متعلق النظر محذوفا ويعلم ذلك من السياق اي ينظرون الى عذاب الكفار وهم يضحكون منهم. وعليه فالاية التالية مستأنفة والاستفهام للتقرير فكانه تعالى يسال المؤمنين او يسال الجميع هل راى الكفار جزاء ضحكهم على المؤمنين واستخفافهم ويظهر من السياق غضب شديد منه تعالى على ضحك الكفار من المؤمنين.

الثاني ان يكون المتعلق الجملة التالية وهي في موضع نصب ليكون مفعولا لقوله (ينظرون) وعليه فالمراد انهم متكئون على الارائك ينظرون الى الكفار ليروا هل لاقوا جزاء أعمالهم كما كانوا يتوقعون ام لا؟

والاكثر اعتمدوا الاحتمال الاول ولعل السبب ان الاحتمال الثاني يظهر منه ان المؤمنين قبل ان يروا ذلك كانوا في شك في تحقق مجازاة الكفار.

ولكن يمكن توجيهه بانهم وان كانوا يعلمون به اجمالا الا انهم ما كانوا يعلمون بتفاصيل ما يحدث وحتى لو علموا فليس ذلك كالرؤية.

و(ثوّب) من التثويب وهو فعل المجازاة والثواب: الجزاء واصله الرجوع ويطلق على الجزاء مطلقا كأنه نفس عمله او جزاؤه يرجع اليه ولكنه يستعمل في الغالب في الجزاء الحسن وفسر في بعض كتب اللغة كالصحاح بانه جزاء الطاعة وعليه فيكون الاتيان به من باب التهكم كقوله تعالى (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).[4]

وقوله (ما كانوا يفعلون) مفعول ثان للتثويب اما بلحاظ ان جزاءهم هو نفس فعلهم يرجع اليهم او بتقدير جزاء اي هل ثوبوا جزاء ما كانوا يفعلون.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد واله الطاهرين الهداة المهديين

 


[1] الانعام: 68

[2] النساء: 140

[3] المائدة: 59

[4] لقمان: 7