مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ...

(كلا) ردع للمطففين حيث يبتني عملهم على انكار يوم القيامة وعدم احتماله اساسا لقوله تعالى (الا يظن اولئك..) فيؤكد في هذه الآيات أن القيامة قائمة وأنهم في عذاب شديد.

والكتاب بمعنى المكتوب وفسّر في معظم التفاسير بالصحيفة التي سجّلت فيها أعمال الفجار وقالوا إنّ صحيفتهم مودعة في سجّين.

والاقرب ان يكون المراد بالكتاب ما سُجّل عليهم من العاقبة فهو ايضا مكتوب وعليه فمعنى كون كتابهم في سجين ان عاقبتهم انهم في سجين.

ولو قال ان الفجار لفي سجين كان صحيحا الا ان هذا البيان يفيد أن هذا مكتوب عليهم فلا يمكن تغييره والكتابة وردت في موارد اخرى ايضا لإفادة هذا المعنى كقوله تعالى (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي..)[1] وقوله (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[2] وغير ذلك مما يدل على ان المراد بالكتاب القضاء الحتم وهو كثير.

ويلا حظ أن الآية تؤكّد الامر ايضا بالاتيان بحرف (ان) ولام القسم.  

والفجار جمع فاجر وهو من الفجر اي الشقّ والمراد إمّا شقّ ستر الديانة – كما في المفردات بان يكون الانسان مرتكبا لاثم عظيم كالشرك والكفر او ما يقرب منهما وإمّا التفتّح في المعاصي – كما في معجم المقاييس – اي التوسع في الاثم بمعنى ارتكاب آثام كثيرة.

ومهما كان فهو عنوان يشمل المطففين حسب السياق فالمراد ان المطففين في سجين ضمن من فيه من الفجار وهذا غاية التنديد بالتطفيف.

ولا وجه لمحاولة بعض المفسرين تفسير الفجور بالشرك لئلا يشمل المطففين من المسلمين – وما اكثرهم؟! – فان عنوان الفجور بذاته يشمل التطفيف مضافا الى أن تعقيب حكم المطففين بقوله (كلا ان كتاب الفجار لفي سجين) بنفسه قرينة واضحة على ان المراد بالفجور هو التطفيف او مايشمله.

وأما السِّجِّين فهو اسم لمكان لانه مأخوذ من السجن وهذه الصيغة للمبالغة كما وصف امرؤ القيس بالملك الضِلّيل مبالغة في ضلاله وفسقه فالمراد أنه سجن شديد من حيث كونه سجنا لا من سائر الجهات وهذا لا يتم الا اذا كان السجين فيه مخلّدا.

وهذه الكلمة من ابتكارات القرآن لم ترد في ما سبقه من النصوص العربية على ما قيل ولذلك ارتبك في تفسيرها اللغويون والمفسرون وقال بعضهم انها ليست عربية مع ان مادتها وهيئتها عربيتان.

وقيل ان النون فيها مبدلة من اللام فهو في الاصل سجّيل بمعنى ما يسجّل فيه الاعمال. ويبدو أن هذا القول يستند الى الايتين التاليتين بناءا على انهما يفسران السجين بانه كتاب.

ولا موجب لهذا التبديل اذ يمكن ان يكون سجين بالنون اسما لتلك الصحيفة المزعومة كما قال الاخرون. مع ان اعتبار سجين صحيفة سواء مع هذا التبديل او بدونه كما يقوله الاخرون يوجب ارتباكا اخر من جهة ان كتاب الفجار كيف يكون في كتاب آخر؟!

قال في الكشاف (سجين كتاب جامع هو ديوان الشر دوّن اللّه فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والانس وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة. أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه، فالمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان وسمي سجينا).

ومن الواضح أن هذا التفسير لا يثمر شيئا ويبقى السؤال: ما هو القصد من هذه التفاصيل؟ كتاب في كتاب؟ كتاب خاص في كتاب عام؟!

والصحيح هو أن المراد بالآية الكريمة أن العاقبة المسجلة والقضاء الحتم على الفجار ومنهم المطففون ان يكونوا في سجين وهو السجن المشدد المخلد وهو في النار طبعا لان الكلام في عاقبتهم يوم القيامة.

وقد ذكر المفسرون تبعا لرواياتهم انه اسم لواد في جهنم ونحو ذلك وورد في رواياتنا ما يدل على انه اسم لمكان ولكنها مضافا الى جهالة سندها تشتمل على امور غريبة اعرضنا عن ذكرها.

 

وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ...

مرّ بنا القول في معنى (وما ادراك) وأن المراد بيان أنه ليس مما تدركه عقول البشر وهذا التعبير يدل على انه امر هائل فوق ما يتصور من أهوال هذه الدنيا.

انما الكلام في قوله (كتاب مرقوم) فقد اختلف المفسرون فمنهم من اعتبره توصيفا لكتاب الفجار لا لسجين لانه ليس كتابا وانما يوضع كتابهم فيه ولانه لو كان سجين كتابا لكان الكتاب ظرفا ومظروفا.

ولكن الظاهر انه توصيف لسجين فهو كتاب مرقوم. والدليل عليه انه جواب للسؤال عن (ما ادراك) فانه تعالى في كل مورد قال (ما ادراك) بيّن شيئا من تلك الحقيقة المجهولة.

والظاهر ان المراد بالكتاب هنا ايضا المكتوب بمعنى المقضي والمقدر لا بمعنى صحيفة الاعمال كما قالوا. والمرقوم قيل انه من الرقم وهو بمعنى العلامة او تعجيم الحروف او الخط الغليظ وبذلك فسروا الكلمة هنا بان كتاب الفجار او السجين كتاب حروفه بينة واضحة.

ولكن الظاهر أن الرقم بمعنى الكتابة ومنه الرقيم في قوله تعالى (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا)[3] اي ما رقم فيه. قال ابن دريد في الجمهرة (الرقم الخط في الكتاب وبه سمي الكتاب رقيما ومرقوما).

وقال الجوهري في الصحاح (الرقم الكتابة والختم) ومن هنا يقال فلان يرقم في الماء اي يكتب مبالغة في حذقه ومهارته.

والمراد به انه محتوم فان من التعبير المتعارف عن الامر المحتوم هو انه مسجل لا يتغير فالمراد ان سجين قضاء محتوم لا يتغير بمعنى أن كونهم في سجين قضاء حتم.

وما ذكرناه في تفسير الآيات الاربع موافق لما ذكره العلامة الطباطبائي قدس سره في الجملة.

 

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ...

المراد بالمكذبين هم المطففون او ما يشملهم وانما عبر عنهم به لان مقتضى عدم الاحتمال انهم يكذبون به اي ينكرونه وقوله (يومئذ) ظرف للويل.

والظرف الذي اضيف اليه اليوم اي قوله (اذ) اشارة الى يوم ورود القضاء الحتم عليهم بجعلهم في سجين. وقد مر في اول السورة ان الويل يختلف معناه حسب الموارد فمعناه هنا ليس التنديد والتقبيح بل التهديد. وقال بعض اهل اللغة ان الاصل فيه العذاب والهلكة وانها كلمة تقال لمن وقع في العذاب والهلكة. وانما كان لهم الويل يومئذ لانهم بتكذيبهم لم يحسبوا لها ادنى حساب ولم يراعوا اقل شيء يمكن ان يفيدهم في ذلك اليوم العصيب.

وهنا ايضا حاول بعض المفسرين اخراج المسلمين من هذا التحذير لانهم لا يكذبون بيوم الدين والواقع كما اشرنا اليه مرارا ان كثيرا من الذين يظهرون الايمان به قولا واعلانا يكذبون به في اعمالهم. وهناك يوم تبلى السرائر يتبين من كان مؤمنا واقعا بالجزاء ومن كان يعمل بحذر واحتياط كما هو الغالب من المؤمنين ايضا ومن يكذّب به في قرارة نفسه.

 

وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ...

الاعتداء هو التجاوز عما لا ينبغي تجاوزه. ويطلق كثيرا على الظلم الواضح على الناس ولا يبعد ان يكون هو المراد هنا لان السياق في مقام التنديد بالتطفيف واعتباره ظلما اجتماعيا.

والاثم معناه واضح ويشمل كل المعاصي وهو في الاصل البطء والتأخر ولعله يطلق على هذا المعنى لانه يبطئ الخير او يؤخر الانسان عن الركب السائر في الطريق الصحيح المؤدي الى رضا الله سبحانه. والاثيم مبالغة في ارتكاب الآثام.

والآية تحصر التكذيب في من يريد اعتداءا على حقوق الناس او توسعا في الاثم ومعصية الله تعالى والسر فيه انه اذا احتمل الجزاء لزمه تجنب ذلك فيحاول اقناع نفسه وتهدئتها بتكذيب الجزاء ليتسنى له ما يريد من ظلم الناس وارتكاب الآثام بلا وازع نفسي.

 

إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ...

من الطبيعي ان المكذب بالدين لا يمكنه ان يصدّق آيات الله التي تتلى عليه من كتابه تعالى لان الآيات مليئة بالتحذير من ذلك اليوم فيلزمه ان يجد لهذه الآيات مخرجا حتى لا يقع في حرج منها فيقول انها أساطير الاولين.

والاساطير جمع اُسطورة اي ما سطره وكتبه السابقون. والغالب في هذا التعبير ان يراد به ما يحكى عن الاولين من الاكاذيب والخرافات فان القصاصين كانوا دائما يحاولون المبالغة واختلاق القصص المثيرة عن السابقين للاثارة في نفوس الناس المتجمعين حولهم.

وهذا التوصيف تسبب في القول باختصاص الآيات بالكفار حتى ان العلامة رحمه الله ايضا اعتبرها خاصة بهم بقرينة هذه الآية وما بعدها.

ولكن الظاهر ان هذا التكذيب لآيات الكتاب مما لا بد منه لكل من يريد الاعتداء المبرح على الناس والتوسع في الاثم وان كان يتهرب من التصريح به حتى بينه وبين نفسه.

 

كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ...

(كلا) ردع عن اتهامهم لآيات الله تعالى بأنها من أساطير الاولين إما عن نفس التهمة وإما عن كونها هي السبب في إصرارهم على العدوان والاثم.

والرين في الاصل الصدأ ثم اطلق على كل ما يغطي شيئا. و(ما) مصدرية. وهي فاعل (ران) اي ران على قلوبهم كسبهم.

والكسب على ما في معجم المقاييس (يدل على ابتغاء وطلب وإصابة). ويستعمل في الغالب في طلب الرزق بل اعتبر في كتب اللغة معناه الاصل ولكنه يستعمل مجازا فيما يطلبه الانسان بتوهم انه خير له او موجب لالتذاذه ثم يكون عليه وبالا وهذا هو المقصود هنا وفي كثير من الايات التي تعتبر الاثام مكاسب للانسان.

وقوله (كانوا يكسبون) يدل على التكرر والاستمرار اي الآثام التي كانت دابهم وديدنهم كما هو الحال في المطففين غالبا بخلاف ما لو قيل بما كسبوا.

وعليه فالمراد أن دافعهم امر آخر وهو أن ما كسبوه من الآثام تسبّب في حدوث الرين والغشاوة على قلوبهم فلا يدركون الحقائق ولا يتاثرون بالمواعظ.

والسر في ذلك أن المعصية والعدوان في اول حدوثه ربما لا يكون مع تكذيب الآيات بل قد يكون مع الخوف من العذاب نوعا ما ولكنه بتكرر العصيان والاستخفاف به يتدرج شيئا فشيئا الى ان يصل الى هذه الدرجة.

وهو أحد التفسيرين في قوله تعالى (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ).[4]

ومن الغريب انهم اعتبروا هذه الآية من القرائن على الاختصاص بالكفار والاولى ان تكون قرينة على ان المراد بهم المسلمون فان الكافر يكذب بالآيات من اول الامر ولا يتوقف تكذيبه على حصول الغشاوة على قلبه بتكرر المعصية وان كان ربما يشمله بعناية ايضا.

 

كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ...

الظاهر ان هذا تكرار للردع السابق وليس ردعا عن امر اخر.

والحجب: المنع. وليس بمعنى الستر وانما يطلق عليه لانه يمنع الرؤية. وكونهم محجوبين عن ربهم ليس بمعنى عدم ادراكهم او عدم حضورهم امام الله تعالى فان الكل يحضرون ويحاسبون ويدركون ويكشف الغطاء عن الجميع.

وليس ايضا بمعنى عدم رؤيتهم له تعالى بالعين كما يظن الجاهلون فانها امر مستحيل في جميع العوالم.

ولا بمعنى حرمانهم عن كرامة القرب والمنزلة كما في الميزان فانهم بعيدون عنه كل البعد وهذه الكرامة لا تحصل لكثير ممن هم ليسوا بهذه المنزلة من البعد ايضا.

وليس بمعنى حجبهم عن الحضور والتشرف كما يحضر الناس عند الملوك فانه ايضا كالقول السابق.

وانما المراد على ما يبدو من التعبير بالرب انهم ممنوعون في ذلك اليوم مما يليق بهم من شؤون الربوبية فان مقتضاها حتى في ذلك اليوم العناية بالمربوب وان يشمله شيء من الرحمة والغفران.

فهذا كقوله تعالى (أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[5] فان مفاد الآية أن عدم مكالمته تعالى وعدم النظر والتزكية شأن غير العذاب الاليم وهو حرمانهم من نظر الرب وعطفه وعنايته. ولذلك أتى بذكر العذاب في الاية التالية بالعطف بـ (ثم) مما يدل على نوع من التراخي والترتب.

 

ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ...

مر الكلام عن الصلي في سورة الانفطار وقلنا انه في الاصل بمعنى ايقاد النار ويطلق ايضا على من مسته النار واحرقته ولا يطلق على من تدفأ بها بل يقال حينئذ انه اصطلى بها. و(صالو) جمع صالي.

و(ثم) كما قلنا آنفا للترتيب والتراخي الحقيقي وليس تراخيا في الكلام كما قال العلامة ولا تراخيا رتبيا كما قال غيره حيث قالوا ان العذاب أشد من الاهانة الحاصلة لهم بالحجب.

وهو غير معلوم ومهما كان فدخولهم النار مترتب ومتاخر عن حجبهم عن ربهم وعن رحمته بل هو السبب اذ لو شملتهم الرحمة والعطف فلعلهم كانوا ينجون من العذاب او يخفف عنهم.

 

ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ...

(ثم) هنا ايضا للتراخي الحقيقي اي بعد ان يدخلوا الجحيم يقال لهم ذلك تنديدا وتقريعا. وهذا التقريع وارد في آيات كثيرة والمفسرون يبحثون عن قائله هل هو خازن النار او اهل الجنة ويمكن ان لا يكون له قائل وانما هو بيان لحقيقة تتضح ذلك اليوم فكأنّ هناك من يقول فان الحقيقة بنفسها تقول ذلك والكون كله يكرّر هذا الاعلان وانما المهم هنا تنبيههم في هذه الدنيا على بروز هذه الحقيقة يوما مّا بوضوح فيتأسّفون من تكذيبهم لها في الدنيا وعدم الاستعداد لمواجهة هذا الامر.

والمهم ايضا التنبيه على عنوان التكذيب اذ لو كانوا يحتملون ويحتاطون ويحسبون لما لا يعلمون حسابا لما آل امرهم الى هذا الموقف. 

 


[1] المجادلة: 21

[2] الانفال: 68

[3] الكهف: 9

[4] الروم: 10

[5] ال عمران : 77