سورة المزّمّل سورة مكية. وهو واضح من سياق آياتها حيث يبدو أنّ الغرض منها إعداد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لتحمّل العبء الثقيل وهو القرآن الكريم ولمواجهة المشركين والمكذبين اولي النعمة. وتشتمل على تهديدهم والاستخفاف بشأنهم، إلّا الآية الاخيرة التي تختلف سياقها ووزنها وآخرها عن سائر الآيات فإنّها بحسب المضمون ايضا تختلف وتناسب أجواء المدينة كما سيأتي بيانه.
وقيل إنّها نزلت في أوائل البعثة وقد قيل إنّها الثانية او الثالثة او الرابعة في ترتيب النزول. ولكن يبعّد هذا الاحتمال اشتمال السورة على الامر بترتيل القرآن في قيام الليل مما يدلّ على نزول قسم كبير منه حين نزولها فلا يناسب أن يكون اول البعثة الشريفة.
ويبعّده ايضا قوله تعالى (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا) وما بعدهما من الآيات مما يدلّ على أنّها نزلت بعد اعلان الدعوة ومواجهة المشركين.
وظاهر وحدة السياق أنّ هذه الآيات نزلت مترتّبة بعد مبدأ السورة ويستبعد اختلاف زمان نزولها وسيأتي ان نفس التوصيف بالتزمل ايضا ينافي كونها من اوائل السور.
ويلاحظ أنّ الروايات الواردة في تحديد تاريخ نزول السور في الغالب متعارضة ومتناقضة وضعيفة في حدّ ذاتها فلا يعتمد على شيء منها بل يلاحظ في أكثرها تدخّل أهواء الوضّاعين ومَن وراءهم من أتباع السلطة فالمتّبع لمعرفة تاريخ النزول هو سياق الآيات الكريمة وما تقتضيه مضامينها.
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ... اي المتزمل ابدلت التاء زاءا وادغمت. والمتزمّل: المتلفّف بثوبه كما في العين وكذا في الجمهرة وفيها ايضا انه بمعنى التغطي بالثوب. وقال في معجم المقاييس ما مجمله (ان الاصل فيه تحمل الحمل الثقيل ويقال المتزمل لمن ضاعف عليه الثياب فصار كأنّه حمل) ولعله لذلك فسره بعضهم بالذي تحمّل أعباء النبوّة وهو بعيد.
ومثله قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)[1] والتدثر لبس الدثار وهو ما يلبس فوق سائر الثياب وخلافه الشعار اي ما يلبس على الجسم مباشرة وهناك بحث واختلاف في وجه توصيفه صلى الله عليه واله وسلم بهما في هاتين السورتين.
قال الزمخشري (نودي بما يهجن إليه الحالة التي كان عليها من التزمل في قطيفته واستعداده للاستثقال في النوم كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن) ومثله ما قاله الراغب في المفردات من ان (ذلك على سبيل الاستعارة كناية عن المقصر والمتهاون بالامر تعريضا به) وفي هذا جرأة وقلة ادب بل وسوء ظنّ فالرسول صلى الله عليه واله وسلم لم يتهاون في تبليغ الدين لحظة بل تحمّل من اول خطوة أشدّ التحديات.
نعم يمكن أن يوجّه ذلك بأنه صلى الله عليه واله وسلم ربما كان يتأثر من شدة تهاجم المشركين وسوء تعاملهم وإيذائهم فيعود الى داره منكسر الخاطر فيتلفف بثوبه او يتدثر أسفا على قومه فيتوجه اليه هذا الخطاب تسكينا له وحثّا على القيام في وجه الظالمين.
ولا يبعد أن يكون التعبير بالتزمل والتدثر كناية عن حالته الانفعالية وان لم يتلفّف بثوبه فعلا. فان صحّ هذا الاحتمال وهو ليس ببعيد فيقتضي أن تكون السورة نازلة بعد اعلان الدعوة ومواجهة ايذاء المشركين ولا يناسب كونها من السور النازلة في بدء البعثة كما ورد في بعض روايات العامة وسيأتي بعض الكلام حوله في تفسير سورة المدثر ان شاء الله تعالى.
قال العلامة الطباطبائي قدس سره (وظاهره أنه صلى الله عليه واله وسلم كان قد تزمل بثوب للنوم فنزل عليه الوحي وخوطب بالمزّمّل) ومعنى ذلك أن توصيفه صلى الله عليه واله وسلم بذلك لا يعني شيئا ولا خصوصية له الا انه كان بذلك الحال في وقت نزول الآية.
وهو بعيد جدا والله تعالى لا يصف احدا بشيء في كتابه العزيز الا للتنبيه على خصوصية وليس في القرآن كلمة زائدة لا دلالة لها او لا وجه لذكرها. ويؤكّد الاستبعاد تكرار هذا التوصيف في السورتين مما يدل على الاهتمام بهذا الوصف والعلامة أشار الى ما مر ذكره من التوجيه بعد ذلك ولكن يبدو انه اعتمد على هذا الوجه.
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ... الامر بالقيام هنا اما بمعنى الانتباه من النوم او القيام للصلاة. والليل ظرف اي قم في الليل. واختلف في معنى الاستثناء هل هو من ساعات الليل اي قم الليل الا قليلا من ساعاته او استثناء من عدد الليالي اي قم كل ليلة الا قليلا من الليالي حيث تكون معذورا لتعب او مرض.
فان قلنا بأنّ المراد الاستثناء من عدد الليالي فيكون (نصفه) بدلا عن الليل اي قم في بعض الليالي نصفه او اقل من النصف بقليل او ازيد منه بقليل. وان قلنا إنه استثناء من ساعات الليل فيكون (نصفه) بدلا او بيانا للقليل اي قم كل ليلة من منتصفها او اقل او اكثر. والنتيجة بالنسبة لقيام جزء من الليل واحدة الا أن الاختلاف يؤثر في جواز استثناء بعض الليالي فلا يقوم اصلا.
وقد ورد في رواية صحيحة رواها الشيخ الطوسي قدس سره باسناده عن محمد بن الحسين عن محمد بن إسماعيل عن منصور عن عمر بن أذينة عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله تعالى: (قم الليل الا قليلا) قال: أمره الله ان يصلي كل ليلة إلا أن يأتي عليه ليلة من الليالي لا يصلي فيها شيئا).[2]
والحديث الصحيح هو المتبع ومعناه أن الاستثناء انما هو من عدد الليالي بل لولاه ايضا لكان المستفاد من الآية الكريمة ذلك اذ بناءا على الوجه الآخر لا بد من اعتبار (نصفه) بدلا من قوله (قليلا) وهو بعيد جدا اذ لا يعتبر النصف قليلا.
وكأنّ العلامة الطباطبائي قدس سره تهرب من الاشكال فقال انه بدل عن (الليل الا قليلا) اي المستثنى والمستثنى منه معا وهو ايضا بعيد لان معناه ان الليل الا قليلا يكون نصف الليل وكل هذه المحاولات نشأت من حمل الاستثناء على كونه من ساعات الليل.
قال العلامة (وقيل: إن نصفه بدل من الليل لكن المراد بالقليل القليل من الليالي دون القليل من أجزاء الليل، والمعنى قم نصف الليل أو انقص منه قليلا أو زد عليه إلا قليلا من الليالي وهي ليالي العذر من مرض أو غلبة نوم أو نحو ذلك، ولا بأس بهذا الوجه لكن الوجه الأول أسبق منه إلى الذهن). والغريب أنه رحمه الله روى الحديث وقال (الرواية تشير إلى أحد الوجوه في الآية).
وقد مرّ نظير هذا الاختلاف في قوله تعالى (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)[3] ونقلنا استعظام بعض التابعين للامر حيث يصعب ترك النوم طول الليل الا في زمان قليل وفي تفسير تلك الآية ايضا وردت رواية صحيحة عن ابي عبد الله عليه السلام تدلّ على أنّ المراد نومهم وعدم قيامهم لصلاة الليل في قليل من الليالي لعارض.[4]
فتحصل أن القليل استثناء من جنس الليل اي قم كل ليلة الا قليلا من الليالي حيث يمنعك عارض. و(نصفه) بدل من الليل اي كن قائما بالصلاة نصف الليل او قم حينما يبلغ الليل نصفه. وقوله (او انقص منه قليلا) اي من النصف فيكون قيامه صلى اللّه عليه وآله وسلّم اقل من نصف الليل بقليل. وقوله (او زد عليه) اي زد على النصف قليلا ايضا وهذا محذوف يعرف من سابقه.
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا... قال في العين (الرَّتَل: تنسيق الشيء... ورتّلتُ الكلام ترتيلا اذا أمهلت فيه وأحسنت تأليفه وهو يترتّل في كلامه ويترسّل اذا فصّل بعضه عن بعض) وقد فسر الترتيل في القراءة بتعابير مختلفة كلها ترجع الى تبيين الحروف وتمييزها وتنسيقها. ونحن نقتصر على ما ورد في روايات اهل البيت عليهم السلام:
روى الكليني بسنده عن عبد الله بن سليمان قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: "ورتل القرآن ترتيلا" قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: بيّنه تبيانا ولا تَهذِه هَذَّ الشعر ولا تنثره نثر الرمل ولكن أفزعوا قلوبكم القاسية ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة).[5] والهذّ – في الاصل – سرعة القطع، واستعير لسرعة القراءة.
وروى ايضا عن علي بن أبي حمزة قال: سأل أبو بصير أبا عبد الله عليه السلام – وأنا حاضر – فقال له: جعلت فداك أقرأ القرآن في ليلة؟ فقال: لا فقال في ليلتين؟ فقال: لا حتى بلغ ستّ ليال فأشار بيده فقال: ها، ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا محمد إن من كان قبلكم من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقرأ القرآن في شهر وأقل، إنّ القرآن لا يقرأ هذرمة ولكن يرتّل ترتيلا إذا مررت بآية فيها ذكر النار وقفت عندها وتعوّذت بالله من النار.. الحديث).[6] والهذرمة – في الاصل – كثرة الكلام. واستعير لسرعة القراءة للتلازم بينهما.
وفي مجمع البيان عن أبي بصير عن أبي عبد الله في قوله تعالى" ورتل القرآن ترتيلا" قال (هو أن تتمكّث فيه وتحسّن به صوتك).
والظاهر من لفظ الآية الكريمة أنّ المراد بالامر تلاوة القرآن مستقلا ولكن يحتمل أن يكون المراد به صلاة الليل. وقد عبّر في القرآن عن الصلاة بالقرآن قال تعالى (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا).[7] كما ورد تفسيره بها في روايات أهل البيت عليهم السلام ومنها ما هي صحيحة السند.[8]
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا... فسّر بعضهم الالقاء بالطرح وهو غير مناسب للمقام وفي كتاب العين أن إلقاء الكلام بمعنى تلقينه وهذا هو المناسب. وهذه الآية صريحة في أنّ الملقى الى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم هو القول والالفاظ وليس المعاني كما يدعيه بعض المتفلسفين الجدد. كما يظهر منه كيفية تلقّيه صلى اللّه عليه وآله وسلّم للقرآن وأنه بطريقة إلقاء الالفاظ وتلقينه إياها. كما ورد ايضا في قوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى).[9] والاتيان بضمير المتكلم مع الغير باعتبار أنّ إلقاء القرآن عليه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان عن طريق ملائكة الوحي.
والظاهر أن هذه الآية في مقام التعليل للامر بقيام الليل وأنّ المراد إعداده صلى اللّه عليه وآله وسلّم لتلقّي هذا القول الثقيل ولكن الزمخشري قال إنّ المراد بهذه الجملة بيان أنّ ما اُمر به من القيام بالليل وان كان تكليفا ثقيلا الا انه سيلقى مثله من التكاليف فهذه مقدمة المشاق. وهو بعيد.
والظاهر أنّ من اعتبر هذه السورة من أوائل السور نظر الى هذه الآية حيث تدلّ على أنّ القول الثقيل وهو القرآن لم ينزل بعد لقوله (سنلقي) وانما نزلت بداياته وغفل عن أنّ الأمر بالتلاوة ينافي ذلك فلعلّ المراد بالقول الثقيل آيات خاصّة لم تنزل بعد كالتي تحمل التكاليف الشاقة كالجهاد او المراد الاشارة الى كثرة ما سينزل من الآيات.
والقول الثقيل كل ما يصعب تحمّله من الكلام ووجه ثقله قد يكون من جهة معنوية لا ندركها كما يلاحظ من حالة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم حين نزول الوحي على ما ورد في الروايات. وهذا بالطبع لا يختص بآية دون آية وان ورد في بعض الروايات تعاظم حالته صلى اللّه عليه وآله وسلّم في بعضها، ولكن الوارد في بعضها الآخر أنّ الحالة كانت تغشاه لدى كل وحي ينزل عليه.
وهذا الامر اي غشية النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم حين نزول القرآن مما ورد في أحاديث العامّة وفي بعض مراسيل اصحابنا رضوان الله عليهم وفي الميزان في ذيل هذه الآية انه مما وردت به الاخبار المستفيضة ولكن لم أجد ذلك في مجاميعنا الحديثية بل في بعض رواياتنا ما ينافي ذلك وأن ما كانوا يشاهدونه منه صلى اللّه عليه وآله وسلّم حين نزول الوحي كان في موارد خاصة.
فقد قال الصدوق رحمه الله (وإن النبي صلى الله عليه وآله كان يكون بين أصحابه فيغمى عليه وهو يتصابّ عرقا فإذا أفاق قال: قال الله عز وجل كذا وكذا أمركم بكذا ونهاكم عن كذا. وأكثر مخالفينا يقولون: إن ذلك كان يكون عند نزول جبرئيل عليه السلام عليه فسئل الصادق عليه السلام عن الغشية التي كانت تأخذ النبي صلى الله عليه وآله أكانت تكون عند هبوط جبرئيل عليه السلام فقال: لا إن جبرئيل كان إذ أتى النبي صلى الله عليه وآله لم يدخل عليه حتى يستأذنه وإذا دخل عليه قعد بين يديه قِعدة العبد وإنما ذلك عند مخاطبة الله عز وجل إياه بغير ترجمان وواسطة. حدثنا بذلك الحسن بن أحمد بن إدريس رضي لله عنه عن أبيه عن جعفر بن محمد بن مالك عن محمد بن الحسين بن زيد عن الحسين بن علوان عن عمرو بن ثابت عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام).[10]
ولكن الرواية التي استند اليها ضعيفة جدا. الا أنّ هذا المضمون اي الفرق بين حالة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم حين نزول جبرئيل عليه السلام وحاله حين تجلي الله تعالى عليه وارد في روايات اخرى.
فقد روى هو بنفسه بسنده عن عبيد بن زرارة عن أبيه قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك الغشية التي كانت تصيب رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أنزل عليه الوحي؟ فقال: ذاك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد، ذاك إذا تجلى الله له قال: ثم قال: تلك النبوة يا زرارة، وأقبل متخشع)[11] وفي بعض الكتب يتخشع وهو الصحيح.
وفي سنده محمد بن سنان وهو ضعيف ايضا.
ومهما كان فكون غشية الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم حين نزول الوحي من ثقل الوحي او القول غير معلوم فيحتمل أن يكون السبب ارتباطا خاصا مباشرا بالله تعالى. ويؤيد هذا الاحتمال موارد مذكورة في الروايات أنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان يخبر وهو على المنبر في حال طبيعي عن الغيب ويقول (هذا اخي جبرئيل يخبرني بكذا وكذا) منها إخباره عن شهادة جعفر عليه السلام وزيد بن رواحة رضي الله عنه.
ويمكن أن يكون المراد بثقل القول شموله على حقائق عن صفات الله تعالى وجلاله وجماله مما يستدعي الخضوع والخشوع وان كان البشر الجاهل قلّما يتأثر بتلك المعاني السامية فيكون ثقله خاصا بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ومن كان يتلقى منه العلم قال تعالى (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ..).[12]
ولكن الاقرب أنّ المراد به ثقله من حيث التكاليف التي يشتمل عليها وهي ثقيلة على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم قبل غيره واكثر من غيره – وان كانت تشمل الجميع – فهو المكلف فوق التكاليف العامة بتحمل مسؤولية التبليغ ومقاومة المشركين وتحمل أذاهم ثم الهجرة وتحمل مشاقها ثم مقاومة المنافقين وتحمل نفاقهم وهو أشدّ من أذى الكفار خصوصا من كان لا يعرف نفاقه عامة الناس ثم تحمّل مسؤولية الجهاد مع الاعداء وردّ مكائدهم وهو أسهلها وغير ذلك من شؤون الرسالة المترتبة على تلقّي القرآن الكريم.
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا... (نشأ) قيل: إنه بمعنى ارتفع، وقيل: بمعنى حدث. والناشئة يمكن ان تكون مصدرا كالعاقبة والعافية بمعنى اسم الفاعل، او هي اسم فاعل صفة للساعة مقدرة اي الساعة الناشئة من الليل فيكون المراد اول الليل. ويمكن ان تكون الناشئة صفة لساعات الليل فانها تنشأ شيئا فشيئا فكلما تنشأ ساعة فهي ناشئة فيكون المراد كل ساعات الليل لا اوله. وقيل غير ذلك. ولكن الاقرب والاوضح من كل ما قيل ان يكون المراد بالناشئة الذي ينشأ في الليل من الصلاة والقيام، فالناشئة صفة لما يحدث.
والوطء بمعنى وضع القدم على الشيء. والمواطأة بين الاثنين: الموافقة كأنّ كلا منهما وضع قدمه على موضع قدم الآخر. والظاهر أن المراد بكون الصلاة في الليل أشد وطئا أنه أشد وقعا في النفس وتأثيرا فيها حيث إنّ الغرض من التأكيد على صلاة الليل هو تقوية عزيمة النفس في مواجهة المشاكل المكتنفة بالدعوة.
و(أقوم) بمعنى أثبت وأبعد عن الاعوجاج والانحراف والميل الى احد الجانبين. والقيل هو القول. وكون الصلاة في الليل أقوم الاقوال باعتبار أنه أصدقها وأثبتها لخلوص النية والبعد عمّا يدعو الى الرياء وعمّا يلفت الانتباه فيبقى الانسان متوجّها الى ربه لا يلتفت الى شيء لا بوجهه ولا بقلبه.
روى الكليني قدس سره بسند صحيح عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام (في قول الله عز وجل: «إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا» قال: يعني بقوله «وَأَقْوَمُ قِيلًا» قيام الرجل عن فراشه يريد به الله عز وجل لا يريد به غيره).[13]ورواها الصدوق والشيخ قدس سرهما عن هشام ايضا.
فيتبين من الحديث الشريف أنّ المراد بكون قيام الليل اقوم القيل خلوص النية فيه لبُعده عن ما يوجب الرياء. والآية في مقام التعليل للتأكيد على صلاة الليل كوسيلة لتصفية النفس وتجليتها وتخليص النية والركون الى الله تعالى وحده في مواجهة الاعداء ومصائب الدهر.
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا... السبح والسباحة في الماء معروف، واستعير هنا للنشاط اليومي والحركة من دون مانع وبسهولة وسرعة في مختلف جوانب الحياة. وتوصيفه بالطول باعتبار الزمان اي بامكانك ان تتحرك زمانا طويلا في النهار سعيا وراء شؤونك الخاصة او العامة. وهذه الآية تعليل لتخصيص العبادة الخاصّة المؤثّرة بالليل باحد الوجهين:
إمّا بمعنى أنك لا تحتاج الى إنجاز اعمالك بالليل لامكان إنجازها بأجمعها في النهار فلا مانع من تخصيص الليل بالنوم والعبادة، وإمّا بمعنى أنّ النهار لا يناسب لتشريع هذا الحكم فيه لحاجتك الى إنجاز اعمالك فيه فلزم تخصيص الليل بالعبادة الخاصة.
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا... الظاهر أنّه عطف على قوله تعالى (ورتّل القرآن) فيكون ما قبلها تعليلا ضمن الكلام المتصل. والمراد باسم الرب الذكر اللفظي او هو اشارة الى الصلاة خاصّة. وقيل: إنّ هذه الآية تعميم لوجوب الذكر في جميع الاوقات من الليل والنهار. وكأنّ القائل نظر الى تناسب هذا التعميم لورود ذكر السبح في النهار والا فلا دليل عليه من اللفظ.
والكلام مع أنه خطاب بينه تعالى وبين عبده المصطفى صلى اللّه عليه وآله وسلّم ولكنه تعالى ذكر عنوان الربّ ليثير فيه الشوق الى ذكره نظير ما يقول الاب في خطابه الى ولده ألا تحب أن تساعد أباك؟ او إنّ أباك يطلب منك كذا.. ليثير فيه عاطفة البنوة. فذكر عنوان الرب هنا تعليل للحكم اي اذكر اسمه تعالى لانه ربك الذي يربيك وينمي قابلياتك لتصل الى غاية الكمال البشري المناسب لك.
والتبتّل مطاوعة التبتيل. والبتل: القطع والابانة. والمراد الانقطاع الى الله تعالى من علائق الدنيا المغرية. والتبتّل حسب صيغته التي تفيد المطاوعة يوحي بأنّ هناك عاملا غيبيا يوجب قطع الانسان الى ربه من غيره وهو يطاوعه قسرا وقهرا وليس ذلك الا الحب الشديد والانجذاب اليه تعالى بدوافع ذاتية. ولهذا سميت فاطمة الزهراء سلام الله عليها بالبتول لانقطاعها الى ربها انقطاعا تاما.
وليس معنى هذا الانقطاع البعد عن المجتمع وحاجات الحياة كما هو حال الرهبان والمتصوفة بل المنقطع الحقيقي هو الذي لا يشغله شيء من هذه المغريات المحيطة به – بالرغم من تعامله معها تعاملا طبيعيا – عن الانقطاع الى ربه لأنه يجاهد نفسه في كل حال ويقطعها عن غير ربه باستمرار ويبذل كل جهده في هذا الامر فهو ليس منفعلا فحسب بل هو فاعل ايضا في نفس الوقت. وهذا هو الجهاد الاكبر.
ومن هنا يتبين الوجه في الاتيان بالمفعول المطلق للتبتّل بصيغة التبتيل مع أن المفروض أن يقال (تبتّلا) وذلك لأنّه منقطع بنفسه وقاطع ايضا كما ذكرنا فالجملة بمنزلة ان يقال فتبتّل اليه تبتّلا وبتّل نفسك عن غيره تبتيلا. بل التبتيل تفيد المبالغة في القطع كما هو مقتضى صيغة التفعيل.
وقد ورد في الروايات أن التبتّل تحريك السبّابة ففي صحيحة محمد بن مسلم عن ابي عبد الله عليه السلام (والتبتّل تُحرِّك السبابة اليسرى ترفعها في السماء رِسلا وتضعها..)[14]وورد هذا المضمون في عدة روايات.
ولعل الاشارة بالاصبع كما أفاده بعض شراح الكافي للاشارة الى الانقطاع اليه. ووضعها رسلا اي بالرفق والتدريج للاشارة الى أنه يعود الى الدنيا ومغرياتها تدريجا. ثم الرفع مرة اخرى يفيد الانقطاع عن الدنيا والرجوع الى الله تبارك وتعالى مرة بعد مرة. وهذا هو معنى التوّاب والأوّاب حيث مدح الله تعالى بهما رسله. ولعل الاختصاص باليسرى بلحاظ أنه يرفع اليمنى للدعاء وهو أنسب باليمنى كأنه يتلقّى بها العطاء.
وفي رواية علي بن جعفر عن اخيه موسى عليه السلام (التبتّل أن تقلب كفيك في الدعاء إذا دعوت)[15]ولكن السند غير نقي. ولو صح فهو ايضا يفيد نفس المعنى بالاشارة بلحاظ أنه يدعو ربه ثم يعود الى الدنيا فيتوب ويرجع الى الدعاء.
ولكن الاول أقوى في الدلالة لأن الاشارة بالاصبع يحدد المقصود فكأنه يشير به الى شخص بعينه وهو يريد بها ربّه ثم لا يعود الى الدنيا فجأة بل ببطء بخلاف هذه الاشارة فانها اشبه بالتحيّر والتقلّب كأنّه لا يعلم ماذا سيكون مصيره.
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا... خبر مبتدأ محذوف اي هو ربّ.. والتعبير بالمشرق والمغرب كناية عن الكون كلّه لأنّ الانسان يرى نفسه محاطا بهاتين الجهتين فيعبّر عن الكون بما بين المشرق والمغرب نظير التعبير بالسماء والارض عن الكون مع إرادة الاجرام الفلكية من السماء مع أنه أكبر منهما بكثير.
وذكر ربوبية الكون بعد قوله (ربك) لعله لمنع توهّم أنه ربّه الخاصّ به. وله نظائر في القرآن كقوله تعالى (اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)[16]وقوله تعالى (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).[17]
وهذا الوصف يعلل الانقطاع المذكور في الآية السابقة فاذا كان هو الربّ المؤثّر في الكون كله فلا تتوجّه الى غيره وانقطع اليه في جميع شؤونك. ويترتب عليه ايضا كلمة التوحيد التالية (لا اله الا هو) اي لا معبود سواه. لأن الانسان لا يعبد الا من يتوقع منه الخير او يخاف منه الضرر فمن يعبد الصنم او الشمس والقمر او الكواكب يرى انها هي المؤثرة في الكون فيتوقّع منها بعبادته جلب الخير ودفع الضرر. ومن يعبد المال كما هو شأن أكثر البشر يرى كل الخير منه. ومن يعبد الجبابرة والطغاة يتوقع منهم كل الخير ويخاف منهم الشر.
مع أن كل مؤثرات الكون سواء كانت طبيعية ام غيبية لا تؤثر الا باذنه تعالى بل بارادته وهو المدير والمدبّر لها فلا يستحق العبادة غيره. والتوحيد ينقذ الانسان من عبودية غيره تعالى ويحفظ كرامته التي منحها الله تعالى له.
ويترتب على ذلك لزوم إيكال الامر كله اليه تعالى (فاتخذه وكيلا).. وكيلا مطلقا في جميع الامور.. اتخذه وكيلا واسترح.. وكن مطمئن البال وانعم بالرخاء والراحة.. والامر كله اليه أساسا شئت ام ابيت وسواء اتخذته وكيلا ام لا فلا يتحقق الا ما يريد وانما ينفعك إيكال الامر اليه في راحة النفس وطمأنينة البال.
وليس معنى الايكال اليه ان تترك كل نشاطك وتتكاسل عما امرك الله تعالى به بل معناه أن تُشعر نفسك بأنه لن يكون شيء الا ما أراده الله تعالى وانه هو الاصلح لي فلا اريد الا ما اراد فتنعم بالرضا بما يقسمه ويرضاه لك.
وهكذا تشعر بالراحة التامة كما نجد المؤمنين المخلصين لا يشعرون بقلق واضطراب من حوادث الدهر ونكباته بل نجدهم مضافا الى ذلك ينعمون بالرزق ورغد العيش من دون تعب وجهد بالغ فالله تعالى يرزقهم من حيث لا يحتسبون حيث اوكلوا امرهم اليه تعالى كما قال عز من قائل (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا).[18]
ولكن الله تعالى لا يعطيهم ما يشاءون فهذا خاصّ بالجنة وانما يعطيهم ما هو الاصلح لحالهم في الدنيا والآخرة فالمتوكّل على الله تعالى يجب ان يكون على بصيرة من الامر فلا يكوننّ كالطفل الصغير يطلب ما يحلو له فإنّ الوالدين لا يعطون الولد ما يحبّ بل ما يفيده والغالب من الناس يطلبون ما يضرّهم كالاطفال.
والرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم سيد المتوكلين وقد أنعم الله تعالى عليه بما هو خير الدنيا والآخرة فعاش في الدنيا بكل راحة ورضا ولكنه عاش عيشة الزهد والتقشّف بالرغم من كونه زعيم القوم. ولو كان بنوامية يُبقون حجراته صلى اللّه عليه وآله وسلّم لكانت خير دليل على زهده في الدنيا بل إنّ مسجده ايضا كان كذلك.
روى الكليني بسند صحيح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنى مسجده بالسَّميط[19] ثم إن المسلمين كثروا فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فزيد فيه، فقال: نعم فأمر به فزيد فيه وبناه بالسُّعيدة[20] ثم إن المسلمين كثروا فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فزيد فيه فقال: نعم فأمر به فزيد فيه وبنا جداره بالأنثى والذكر ثم اشتد عليهم الحر فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فظُلِّل فقال: نعم فأمر به فأقيمت فيه سواري[21] من جذوع النخل ثم طرحت عليه العوارض[22] والخَصَف[23] والإذْخِر[24] فعاشوا فيه حتى أصابتهم الأمطار فجعل المسجد يكف عليهم فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فطُيِّن فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا، عريش كعريش موسى عليه السلام فلم يزل كذلك حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان جداره قبل أن يظلل قامة فكان إذا كان الفيئ ذراعا وهو قدر مربض[25] عنز صلى الظهر وإذا كان ضعف ذلك صلى العصر. وقال: السَّميط لَبِنة لبنة والسُعَيدة لبنة ونصف والذكر والأنثى لبنتان مخالفتان).[26]
[1] المدّثّر: 1
[2] تهذيب الاحكام ج2 ص335
[3] الذاريات: 17
[4] الكافي ج3 ص447
[5] الكافي ج2 ص614
[6] الكافي ج2 ص618
[7] الاسراء: 78
[8] الكافي ج3 ص271
[9] الاعلى: 6
[10] كمال الدين: 86
[11] التوحيد ص115
[12] الحشر: 21
[13] الكافي ج3 ص446
[14] الكافي ج2 ص480
[15] معاني الاخبار ص370
[16] الصافات: 126
[17] الجاثية: 36
[18] الطلاق: 2- 3
[19] قال ابن فارس في معجم المقاييس (سمط اصل يدل على ضمّ شيء الى شيء وشدّه به فالسَّمِيط الآجرّ القائم بعضه فوق بعض)
[20] قال الصاحب بن عباد في المحيط (السَّعد: ثلث اللَّبِنة والسُّعَيد: ربعها). وقال ابن سيده في المحكم (السعيدة اللبنة)
[21] السواري: جمع سارية اي الاسطوانة
[22] العوارض: الخشب يوضع على السقف
[23] الخَصَف الحُصُر والجِلال
[24] الإذخِر: حشيشة برّيّة
[25] المربَض والمربِض مقدار ما تستقر فيه الشاة ونحوها
[26] الكافي ج3 ص296