مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ... عطف على الامر باتخاذه تعالى وكيلا فكأنّه قال اذا أوكلت أمرك اليه تعالى فلا تهتمّ بما يقولون فإنّ الله تعالى لهم بالمرصاد وهو لا يخاف الفوت فكل شيء تحت قبضته.

والمراد بالصبر هنا تحمّل الأذى والاستمرار في الدعوة وعدم المقابلة بالمثل وعدم الجزع والخوف من مقالاتهم وتهديدهم. ومن الواضح تاريخيا أنّ المشركين كانوا يؤذون الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بكل ما في وسعهم ومن ذلك توصيفه بانه ساحر او شاعر او كاهن او مجنون، او إتهامهم إياه بأنه تلقّى القرآن من اهل الكتاب، او قولهم إنا لو نشاء لقلنا مثل هذا، او ان ما جاء به اساطير الاولين، او انه مفتر كذاب الى غير ذلك من أباطيلهم التي كانوا يؤذون بها الرسول الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلّم.

وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا... الهجر: القطيعة. فالمراد أن يقاطعهم فلا يدخل في مجامعهم ولا يخالطهم بل لعله يشمل عدم إظهار اي نوع من العلاقة حتى التحية ولكنه وصفه بالجميل ولعل المراد أن لا يزيد على الهجر ما يكون من قبيل المعاملة بالمثل في مواجهة ما يقولون.

وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا... اي اتركني واياهم ولا تمنعني من إنزال العذاب عليهم وهذا التعبير يقال في العرف لتهديد العدوّ ولطمأنة الولي وإشعاره بأنه قادر على الايقاع به بما يستحقه وعلى ردّ كيده ومنعه عنه فطلبُ عدم المنع لا يعني أنه يمنعه واقعا او يمكنه المنع بل هو تعبير يقصد به هذا التهديد والطمأنة.

والمراد بالمكذّبين اُولي النعمة صناديد قريش وفيه تعريض بهم أنّهم ليسوا اهل حرب ومقاومة بل هم اهل تنعم وترفّه كما أنه يعرّض بهم انهم يكذّبون رسالة ربهم ويتنعمّون بنعمه. والنعمة بكسر النون بمعنى الإنعام فهو فعل الله تعالى وبفتحها بمعنى التنعم والترفه.

وقوله (قليلا) اي زمانا قليلا اي بمقدار بقائهم في الدنيا وهو قليل مهما كان. وقيل: الى زمان نزول عذاب الدنيا عليهم. وهو غير صحيح بقرينة الآيات التالية التي تهدّد بعذاب الآخرة.

إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا... بيان لما هدّد به في الآية السابقة. وقوله (لدينا) اي إنّها موجودة بالفعل ومعدّة لهم.

والأنكال جمع النكل بكسر النون وهو القيد. والجحيم: النار العظيمة الشديدة التوهج. وانما أتى بالانكال والجحيم نكرة للاشارة الى عظمتها.

والغصّة ما ينشب في الحلق فلا ينزل. ومنه مايقال غصّ بريقه اي لم يتمكن من الخوف او الحزن ان يبلع ريقه مع انه اخف الاشياء على الحلق. وربما يكون سبب الغصة نفس الطعام لا الحالة النفسية فاذا كان الطعام خشنا او مرّا او له رائحة كريهة فينشب في الحلق ولا ينزل وهذا هو المراد هنا.

وقد وصف الله تعالى طعام أهل النار في مواضع من كتابه العزيز قال تعالى (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ)[1] وقال (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ)[2] وقال ايضا (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ).[3]  

و(ذا) بمعنى صاحب اي ان لدينا طعاما نطعمهم اياه ومعه غصّة او انه بنفسه يغصّ في الحلق فلا يستمرئونه ولا يمكنهم بلعه.

والمراد به الزقوم والغسلين والضريع ولعل كل ذلك تعابير مختلفة عن حقيقة واحدة فالطعام في الدنيا انما يأكله الانسان للتلذّذ والتغذّي وهذا لا يتلذّذ به الانسان ولا يتغذّى ولكنه يأكل ليسدّ جوعه ولكنه جوع لا ينتهي ولكي يبلع الطعام او يذهب بالغصة التي ملأت حلقه او ليرفع عنه العطش يستسقي فيسقى من الحميم.

قال تعالى (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ)[4] وقال ايضا (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)[5]

وهكذا يصوّر القرآن الكريم حالة المجرم يوم القيامة حيث تظهر الحقائق وتبلو السرائر وتفيق الضمائر فهو يطوف متلهثّا بين طعام غير مريء وشراب حميم ووطاء وكساء من نار كما قال تعالى (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ..).[6]

والعذاب يوم القيامة ليس من سنخ عذاب الدنيا ولا يضاهيه شيء في هذه الحياة وانما يريد الله تعالى بهذا الاُسلوب العجيب أن يقرّب الينا بشاعة ذلك العذاب وفظاعته وهو صنيعة يد الانسان وعمله المتجلي بحقيقته البشعة قال تعالى (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا..)[7]

والتنكير في قوله (وعذابا أليما) للتهويل فهو عذاب منكر لا تُعرف حدوده ولا كيفيته وانما هو عذاب اليم اي مؤلم في مقابل تنعّمهم في الدنيا وكفرهم بالمنعم.

يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا... ظرف لقوله تعالى (ان لدينا) اي ان هذه الفجائع تحصل يوم ترجف الارض والجبال.

والظاهر أن المراد بالرجفة ليس هو التحوّل الذي يحصل في الكون حيث يبدّل الله الارض غير الارض بل المراد الرجفة باستمرار في تلك الارض التي يعيش عليها الانسان في عالم الآخرة. والارض كل ما يستقر عليه لا خصوص هذا الكوكب فأينما كان الانسان يعتبر ما يستقرّ عليه أرضا وما يعلوه سماءا. فهو نظير ما حكاه تعالى من كلام اهل الجنة (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ..).[8]

ولعل المراد برجفة الارض عدم استقرار الانسان عليها من هول ما يحدث في ذلك اليوم كما يعبّر مجازا عن القلاقل والاضطرابات الاجتماعية بالزلزال.

والكثيب: مجتمع الرمل. والمهيل اسم مفعول من هال يهيل قال في العين (الهائل من الرمل لا يثبت مكانه حتى ينهال فيسقط) فالمراد أن الجبال تتحول رملا متساقطا ومثله قوله تعالى (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا)[9] والهباء: الغبار.

ولعلّ المراد برجفة الجبال ما ذكره تعالى بقوله (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا)[10] وقد ذكرنا بعض الكلام حوله في تفسير قوله تعالى (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً).[11] وقلنا انه لا يبعد أن يكون المراد عدم بقاء ما يلوذ به الانسان او يستخفي به فالارض هناك قاع صفصف ليس فيها جبال ولا تعاريج ولا كهوف، والانسان اينما كان لا ملجأ له من الله الا اليه ولكنه في هذه الدنيا يخدع نفسه باللجوء الى الطبيعة هربا من عذاب الله ومن تبعة اعماله كما قال ابن نوح عليه السلام (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ..)[12] أما في تلك النشأة فلا يجد ما يخدع به نفسه في اللجوء.

كما أنه لا يجد ما يتخفى به عن الانظار وليس ذلك في الواقع من جهة عدم وجود الحواجز بل من جهة أن الحقائق تظهر ذلك اليوم بوضوح والانسان لا يرى الاشياء بعينه ولا يشعر بحواسه بل بكل وجوده فلا يخفي جبل شيئا عنه ولا يمكن للمجرم انكار ما فعل ولكن الله تعالى يعبر عن هذه الحقيقة البعيدة عن فهم عامة الناس بزوال الجبال التي يمكن للانسان ان يتخفى بها عن اعين الآخرين.

والحاصل أنه لا يبعد أن يكون زوال الجبال كناية عن هذين الامرين.

 


[1] الدخان: 43- 46

[2] الحاقة: 35- 36

[3] الغاشية: 6- 7

[4] الصافات: 62- 68

[5] الرحمن: 43- 44

[6] الاعراف: 41

[7] أل عمران: 30

[8] الزمر: 74

[9] الواقعة: 4- 6

[10] طه: 105- 107

[11] الحاقة: 14

[12] هود: 43