إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا... تغيّر السياق الى مخاطبة اهل مكة او العرب ليكون إنذارا مباشرا لهم بعد تطبيق عنوان المكذبين اولي النعمة عليهم وذلك بالاشارة الى ما حدث لمن كان قبلهم متنعما اكثر منهم بكثير وذا سطوة معروفة لديهم كما هو معروف في التاريخ وأنه بعصيان الرسول لقي العذاب ليأخذ المخاطبون حذرهم.
وفي الآية تأكيد للقوم بأنّ من يخاطبهم ويتلو عليهم القرآن رسول من الله تعالى اليهم وهذا وان لم يكن كلاما مشفوعا بدليل الا أنّ الاعجاز ومعرفتهم للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وصدق حديثه يكفي في ذلك والغرض منه مجرد التنبيه والتخويف وإلّا فهم يعرفونه حق المعرفة وفيه ايضا تنبيه على كونه شاهدا وليس مجرد رسول يأتي اليهم بخبر السماء.
وقد مرّ توضيح معنى الشهادة في تفسير قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا).[1] ومجمل القول أن شهادة الرسول قد تكون من قبيل إشراف زعيم المجتمع على شعبه حيث يتتبع ظواهر اعمال الناس برجاله وعيونه، وقد تكون بمعنى اطّلاعه بواسطة الملائكة على بواطن اعمال الناس، وقد تكون بمعنى كونه في الدنيا مثلا يقتدى به لانه امام نصبه الله تعالى للبشر وهو بذلك يكون مقياسا يوم القيامة تحدّد به درجات الناس قربا وبعدا عما أراده الله تعالى منهم. وأتى بالرسول في الموردين نكرة من جهة أن الغرض ليس هو الاشارة الى الشخص بل الى صفة الرسالة.
فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا... لم يذكر اسم الرسول وانما علّق الحكم على عصيان الرسول ليكون تنبيها لاهل مكة على عظمة مكانة الرسول عند الله تعالى وأنّ عصيانه هو الموجب للعذاب مع أن عصيان الله تعالى هو الموجب واقعا وعصيان الرسول انما يقبح لانه رسول من الله تعالى ولكن العذاب لا ينزل حتى يرسل الله تعالى رسوله فيتم الحجة.
قال تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).[2] وقال ايضا (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)[3] وقال تعالى (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ).[4]
والأخذ كناية عن الاهلاك كأنّه اُخذ من موضعه واُلقي في مكان آخر كما قال تعالى بصراحة في موردين (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ..).[5] فهذا التعبير يصحّح كون الاخذ كناية عن الاهلاك. والوبيل بمعنى الغليظ الشديد اي لم يكن هلاكا طبيعيا فقد اُغرق مع كل جنوده بطريق الاعجاز.
ولعل ذكر اسم فرعون مرتين هنا مع أنّ موسى عليه السلام ارسل الى القوم بأجمعهم من جهة أن وجهة رسالته عليه السلام ابتداءا كانت الى فرعون بنفسه لان قومه كانوا يتبعونه متابعة الاعمى لقائده بل يعتبرونه الها يعبد.
مضافا الى أن رسالته كانت تشتمل على امرين الايمان بالله تعالى وبالرسول واطلاق سراح بني اسرائيل وكان هذا الامر مهمة مستقلة في رسالته والطلب فيها متوجه الى فرعون بالذات قال تعالى (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ..).[6]
ومضافا الى ان ذكر فرعون بشخصه كان له تأثير بليغ في نفوس القوم المخاطبين المعجبين بنفوذه وقدرته حيث يلاحظون أنه بالرغم من ذلك نزل به عذاب الله تعالى وأهلكه.
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا... الفاء للترتيب فكأنه قال لو فرض عدم نزول العذاب الدنيوي عليكم كما نزل على فرعون ولكن كيف تتوقّون وتحفظون أنفسكم اذا كفرتم بالله وباليوم الآخر من العذاب الذي يستتبعه الكفر يوم القيامة ذلك اليوم الذي من شدّة أهواله ينقلب الاطفال شيوخا.
وعلى هذا يكون قوله (يوما) ظرفا للعذاب المقدر وهو مفعول الاتقاء اي فكيف تتقون وتحفظون انفسكم من العذاب في ذلك اليوم ويمكن أن يكون المراد باليوم نفس العذاب مجازا.
والشيب جمع أشيب وهو الذي شاب رأسه اي ابيضّ شعره. والمراد بيان شدة اهوال يوم القيامة بحيث يتحول الطفل شيخا كبيرا فلا يمر بمرحلة الشباب والكهولة او يشيب شعره وهو طفل. وهذا بالطبع ليس مما يقع بنفسه وانما هو تعبير عن غاية الشدة في اهوال ذلك اليوم وليس في ذلك مبالغة كما قيل فانها في الواقع اعظم مما يمكن للتعبير أن يصوّره.
السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ... تعبير آخر عن شدة اهوال يوم القيامة والباء للسببية والضمير يعود الى اليوم اي السماء منفطر بسببه اي بسبب اهواله والمراد بانفطارها تشققها كاي جسم آخر والواقع ان السماء ايضا لا تتشقق وانما هو تعبير عن شدة الهول اي تكاد السماء ان تنفطر فهو نظير قوله تعالى (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا * تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا).[7]
ويبعد ان يكون المراد نزول الملائكة على ما مر في تفسير قوله تعالى (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا..)[8] اذ لا يناسب المقام ذكره فان الغرض هنا الاشارة الى شدائد ذلك اليوم وأهواله وتحذير الانسان منها والتنبيه على انه لا يتمكن من اتّقائها ونزول الملائكة امر آخر من خصائص ذلك اليوم ولا علاقة له باهوالها.
مضافا الى أنه لا بد من تأويل الباء على هذا التفسير لتكون بمعنى (في) اي السماء منفطر فيه اذ ليس اليوم سببا لانفطار السماء بهذا المعنى وهو بعيد اذ لا موجب للتغيير.
وقد وقع الكلام في توصيف السماء بوصف مذكّر مع أنّ المشهور تأنيث السماء وأحسن ما قيل هو أنّ اللفظ حيث كان مذكّرا والمعنى مؤنث مجازي جاز التوصيف بهما.
كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا... (كان) منسلخ عنها الزمان فتفيد اصل الثبوت والضمير لله تعالى والمراد بالوعد الموعود. والمعنى أن ما وعد به الله تعالى مفعول اي متحقق لا محالة لأنّ عدم إنجاز الوعد لا يكون الا لجهل او ضعف فالانسان قد يعد بشيء لا يمكن أن يتحقق جهلا بالمستقبل او يعد فلا يتمكن من إنجازه او يعد كاذبا لأنه لا يجد طريقا آخر للوصول الى غرضه الا الكذب والله تعالى منزّه عن كل ذلك.
والغرض من التنبيه على هذه الحقيقة التأكيد على أنّ هذا الامر اي تحقق يوم الجزاء حتميّ فلا يخدعنّ الانسان نفسه بأنّ كل ما يقال ليس الا من قبيل التهديد وربما يأوّل بعضهم كل ما ورد من وصف الجنة بأنّ المراد المجتمع المثالي في هذه الدنيا كما أنّ المراد بأوصاف النار خلافه ثم يحاول كل قوم تطبيق ذلك على ما يراه مجتمعا مثاليا كما سمعنا من بعض أتباع الفكر الاشتراكي قبل ظهور ضعفه في ريادة المجتمع البشري حيث أوّلوا هذه النصوص بتحقق المجتمع اللاطبقي!!!
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا... قيل: (هذه) اشارة الى جميع آيات القرآن وقيل الى هذه السورة والظاهر أنها إشارة الى أواخر آياتها التي تحذّر من عذاب يوم القيامة. ومثلها قوله تعالى (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ).[9]
والتذكرة تفعيل من الذكر ومعناه تنبيه الغافل او الناسي فيقتضي أن يكون المخاطب عالما بالاصل او شاعرا به بفطرته وضميره وانما ينسى هذه الحقائق او يغفل عنها او يتغافل جريا وراء الاهواء فالآيات تنبهه وتذكره بما نسيه او تناساه.
ولعل في الناس من لا يشعر بهذه الحقائق أساسا ولكنهم قلة والغالب فيهم هو أن الضمير البشري يدعوهم الى التوجه الى الله تعالى والى أن لخلق الانسان هدفا أسمى من خلق الحيوان الاعجم وأنه يجب أن يدفع عن نفسه الخطر المحتمل في الحياة الاخرى وأنه يجب عقلا وبدعوة من الضمير الحي تحصيل رضا الرب المنعم.
ومفعول (شاء) مقدر تدل عليه جملة الجزاء اي فمن شاء ان يتخذ الى ربه سبيلا اتخذه. وفي هذا التعبير تهديد لمن لا يتذكر بهذه الآيات وليس فيه تخيير او اباحة كما ربما يتوهم بل هو امر واجب ومثله قوله تعالى (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا..)[10] والمراد بكون السبيل اليه تعالى انه ينتهي الى تحصيل رضاه لا الى الحضور لديه فانا راجعون اليه شئنا ام أبينا.
[1] الاحزاب: 45
[2] يونس: 47
[3] الاسراء: 15
[4] القصص: 59
[5] القصص: 40 الذاريات: 40
[6] طه: 47
[7] مريم: 88- 90
[8] الحاقة: 16- 17
[9] المدثر: 54- 55
[10] الكهف: 29