إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ... في هذه الآية المباركة يخفف الله تعالى الحكم على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم وعلى المؤمنين بالاكتفاء بالقيام في جزء من الليل وان لم يبلغ ثلثه ويذكر لهذا التخفيف سببين كما سيأتي بيانهما.
وليس معنى ذلك أن الحكم كان هو الوجوب ثم خفّف المقدار فالآيات السابقة لا تأمر المؤمنين بذلك بل هو أمر خاص بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم. وهذه الآية تكاد تكون صريحة في عدم الوجوب لقوله (وطائفة من الذين معك) مما يدلّ على أنّ أكثرهم لم يقوموا أصلا ولم يستنكر منهم ذلك.
وقوله (ان ربك يعلم..) تعبير مفعم باللطف والعناية ويدل على قبوله تعالى لعمل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم والطائفة التي كانت معه. والمراد بالمعية الصحبة والايمان. والتعبير بالمضارع في قوله (تقوم) يدل على الاستمرار والمواظبة. و(أدنى) بمعنى أقرب اي تقوم ما يقارب ثلثي الليل. والدنوّ: القرب. ولا موجب لاعتباره كناية عن الاقل كما قالوا.
وهذا يدلّ على أنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم والطائفة قاموا بأكثر مما طلبه الله تعالى لأنهم قاموا ما يقارب ثلثي الليل والمطلوب القيام نصفه او اقل بقليل او اكثر بقليل ولعل السبب فيه ما يأتي من عدم التمكن من معرفة الوقت بدقة. وقوله (ونصفه وثلثه) عطف على (أدنى) اي تقومون تارة ثلثه وتارة نصفه وتارة ما يقارب الثلثين.
وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ... القدر: مبلغ الشيء ومقداره. والتقدير: جعل الشيء بمقدار محدد. قال جمع من المفسرين: إنّ المراد أنه تعالى هو الذي يقدّر الاوقات ويخلقها فكيف لا يعلم بمقدار قيامكم؟!
وهو بعيد جدا اذ لا علاقة بين علمه تعالى بقيامهم وبين تقديره الليل والنهار وليس المقام مقام تأكيد على علمه تعالى ليحتاج الى دليل فالمخاطب هو الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم والمؤمنون.
والظاهر أن المراد كما قال بعض آخر أنه تعالى يزيد فيهما وينقص فيصعب عليكم معرفة النصف والثلث ومن هنا تقومون ما يقارب الثلثين احتياطا.
عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ... اي لن تحصوا التقدير. قال في العين (الاحصاء: إحاطة العلم باستقصاء العدد) اي معرفة مقدار الشيء بدقة. وهذا يكمل ما يستفاد من الجملة السابقة فالله تعالى يزيد من قدرهما وينقص وأنتم لا تحصون ولا يمكنكم الاحاطة بمقدار هذه الزيادة والنقيصة لعدم وجود وسائل معرفة الوقت في ذلك العصر وهذا هو السبب الاول للتخفيف.
والتوبة في الاصل بمعنى الرجوع كما في الصحاح ومعجم المقاييس واذا اسندت الى الله تعالى فبمعنى عطفه على عباده بالرحمة والمغفرة. والمراد هنا أنه تعالى حيث علم أنكم لا تقدرون على معرفة الوقت بدقة فتحتاطون بقيام معظم الليل لامتثال امره تعالى رفع عنكم الكلفة فلا تتعبوا أنفسكم وان كانت الكلفة هنا بالندب حيث إنّ قيام الليل غير واجب على غير النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم على الاقل وهذا التخفيف ورفع الكلفة رجوع عليهم بالرحمة فعبر عنه بالتوبة.
ومثله ما ورد من التعليل بالغفران والرحمة في عدم التشديد بالتكليف ورفع المؤاخذة عن الخطأ والنسيان كقوله تعالى في منع التعبير عن الادعياء بالابناء (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[1] وقوله تعالى في رفع التكليف عن غير المقدور (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ).[2]
والمراد بما تيسّر من القرآن ما يسمح به الوقت وحالة المكلف فلا يطلب منه أن يتحمل اكثر من ذلك ويشقّ على نفسه. وهذا الامر بالقراءة اما ان يكون متعلقا بقراءته مستقلا في الليل او في صلاة الليل ويبعد بملاحظة ظاهر اللفظ أن تكون قراءة القرآن هنا كناية عن نفس الصلاة كما ورد تفسير القرآن في قوله تعالى (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)[3] بصلاة الصبح في عدة روايات منها ما هو صحيح سندا.
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ... وهذا هو السبب الثاني لتخفيف الحكم وهو وجود حالات خاصة تستوجب المشقّة على المكلفين إن أرادوا الالتزام بما أمر به الله تعالى – ولو ندبا – لسلوك سبيل مرضاته. وورد هنا ذكر ثلاث حالات هي الغالب من الموانع ولا تنحصر فيها طبعا فذكر هذه الموارد من باب المثال.
فإحدى الحالات المانعة المرض والثانية السفر وهو المراد بالضرب في الارض. والابتغاء: الطلب والمراد طلب الرزق فان ما يحصل عليه الانسان من رزق انما هو من فضل الله تعالى فهذا تعبير عن السفر للتجارة وهو ايضا من باب المثال فالاسفار لا تنحصر في التجارة ونحوها بل قد تكون للحج او للعمرة او للزيارة او لصلة الرحم او لاداء حق عليه او للعلاج او للترفيه عن النفس وغير ذلك.
والحالة الثالثة القتال في سبيل الله وهو قد لا يستلزم السفر فلا يدخل في المورد السابق كمن يدافع عن البلد في خارجه او حتى في داخله. والظاهر أن قوله (فاقرءوا ما تيسر منه) خطاب للجميع لا لخصوص ذوي الاعذار والا لقال (فليقرءوا) فوجود هذه الحالات هو السبب في الترخيص العام.
وقوله (علم) في الموردين لا يدل على الحدوث فان علمه تعالى ازلي ولا يحدث له علم بسبب تحقق الحوادث ولا يزيد علما بذلك والازمان مطوية عنده فلا فرق بين الماضي والحال والاستقبال وانما نجد الفرق بينها بسبب خصائص الطبيعة فإسناد الفعل الى الله تعالى بأيّ صيغة كان لا يدل الا على تعلّق علمه تعالى بالحادث فالمراد وجود هذا العلم وهو في الواقع اشارة الى وجود هذه الحقيقة اي طروّ حالات المرض والسفر والجهاد فالتعبير عنها بعلمه تعالى من جهة كونه سببا لإنشاء الحكم.
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا... في هذا إشارة الى أن التخفيف في صلاة الليل لا يعني التهاون في الوظائف الشرعية نظير ما ورد في نسخ الحكم بوجوب التصدق قبل النجوى مع الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم قال تعالى (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ..).[4]
والمراد بإقراضه تعالى التبرّع بالمال في ايّ جهة يقصد بها رضاه تعالى مما أمر به او ندب اليه وهو انما يعتبر إقراضا بلحاظ أنه تعالى تعهّد بالاجر عليه أضعافا مضاعفة.
قيل إن توصيف القرض بكونه حسنا لإخراج ما اذا كان التبرع لرياء او سمعة او ايذاء للمستحق او منة عليه.
ولكن الصحيح أن انتفاء هذه الامور شرط الصدقة المندوبة وليس شرطا للاقراض الحسن فالظاهر أن المراد به الاقراض الذي يستتبع زيادة من المقترض لم تشترطها عليه. والتبرع في سبيله تعالى إقراض له يستتبع اضعافا مضاعفة من فضله تعالى وقد تكرر الوعد به في القرآن الكريم.
وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا... المراد بالخير هو العمل الصالح وحيث إنّ الانسان يعمل الخير في الدنيا ويسجّل له الثواب في الآخرة بهذا العمل فكأنّه قدّم عمله لصالح نفسه اي ارسله قدّامه وقبل موته ولذلك عبّر عنه بما يقدمه الانسان لنفسه من الخير.
و(تجدوه) من افعال القلوب واسمه الضمير المتصل ومفعوله الثاني اي خبره (خيرا) والضمير في قوله (هو خيرا) للفصل أي تجدون العمل عند الله يوم القيامة افضل مما عملتم في الدنيا ومعنى ذلك أنه يرى عمله بنفسه ولكنه يراه بصورة اخرى تختلف عن ذات العمل في الدنيا وهي صورة اجمل وافضل وهذه الجملة مما تدل على ما يعبّر عنه بتجسّم الاعمال يوم القيامة.
وقوله (وأعظم أجرا) اي مما توقّعتم فان العمل ليس له أجر في الدنيا ليقارن بأجر الآخرة ويقال إنه أعظم فلا بد من حمل الآية على كونه أعظم أجرا مما يتوقّعه الانسان ويتصوّره فانه تعالى يضاعف الاجر أضعافا مضاعفة.
والواقع أنّ الاجر هناك ليس من سنخ اجور الدنيا ولا من سنخ ما يتوقّعه الانسان من أجر فهو كيفما كان فوق التوقّع والتصوّر ولا يقاس بالنعم المادية في هذه الحياة.
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ... عطف على الامر بإقامة الصلاة وإتيان الزكاة فإن العمل قد لا يفيد مع الذنب. وهناك من الذنوب ما تُحبط الاعمال فلا بدّ للانسان في تحصيل رضا الله تعالى بعمله من الاستغفار. وعقّب ذلك بالتعليل بأنه تعالى غفور رحيم فلا تترددوا في الاستغفار والتوبة.
هذا وقد اختلفوا في أنّ هذه الآية مكية او مدنية وليس في هذا البحث كثير فائدة ولكن سياقها أنسب بأجواء المدينة ففيها الامر بالزكاة والتبرع بالمال والمؤمنون في مكة ما كان لهم من المال ما يناسب هذا الطلب كما أنّ اعتبار أحد أسباب التخفيف وجود المقاتلين في سبيل الله تعالى لا يناسب أجواء مكة.
ولكن قيل انها لا تدل على الاختصاص بالمدينة لمكان السين في قوله (سيكون منكم مرضى.. وآخرون..) والسين تدل على أنه سيتحقق في المستقبل بل لعله أنسب بمكة فإنهم في المدينة كان لهم مقاتلون بالفعل فلا يناسب التعبير بسين الاستقبال.
ولكن الصحيح ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله من ان الظروف في مكّة ما كانت تسمح بان يشار بهذا الامر حتى في المستقبل كما هو واضح والله العالم.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
[1] الاحزاب: 5
[2] المجادلة: 12
[3] الاسراء: 78
[4] المجادلة: 13<