سورة النبأ من السور المكية وتتضمن الحديث عن يوم القيامة وحوادثها ونتائجها.
عمّ يتساءلون... اي عن ماذا يتساءلون؟ فالميم مخفف عن (ما). ومعنى التساؤل سؤال بعضهم بعضا كما هو المراد في سائر موارد استعماله في القرآن الكريم وغيره ومر بعض الكلام حوله في تفسير قوله تعالى (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ)[1] ولا وجه لما قيل من أن المراد سؤال المشركين عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم او عن المؤمنين فالتساؤل اذا نسب الى جمع فلا يعني الا سؤال بعضهم بعضا.
ولكن الكلام في مرجع الضمير الفاعل في هذه الآية فالمعروف أن المراد بهم المشركون ولكن لا يبعد أن يكون المراد البشر كلهم فإن مورد السؤال ان كان هو يوم القيامة كما يبدو من السياق فهو مورد اهتمام الجميع حتى المؤمنين فيما بينهم.
ولعل التعبير يشمل سؤال الانسان نفسه حول هذا الامر فهو جزء من هذا الجمع ويكون في هذا الفرض سائلا ومسؤولا. وهو أهم من سؤال الآخرين وأقرب الى معرفة الجواب لو راجع الانسان ضميره ووجدانه الحيّ وكل انسان يلاحظ أن هذا الاستفهام الكبير يقضّ مضجعه وينغّص عيشه: ماذا يحدث بعد الموت؟؟؟
ولمعرفة الجواب الكامل والدقيق عن هذا السؤال لو لم يلجأ الانسان الى وحي السماء فانه يبقى حائرا مضطربا لا يهتدي الى جواب ولكنه لمعالجة هذا الاضطراب يلجأ الى كل ما يبعده عن الاهتمام بالحياة بجدّ والنظر اليها بنظرة واقعية ويلهي نفسه بكل ما يشغله ويصرفه عن النظر بجدّ واهتمام الى مستقبله الغامض فتجده يفضّل المخاطرة بالسكر والتخدير فضلا عن الاشتغال بالملاهي والالعاب ناهيك عن الاهتمام بالسياسة والتجارة والصناعة وان كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا وكله لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر ونسيان للهدف والغاية من وجود الانسان على هذا الكوكب.
وان كان مورد السؤال غير يوم القيامة كما سيأتي فهو ايضا مورد اهتمام الجميع لانه يعود في النتيجة الى ما سيحصل للانسان يوم القيامة ولولا ذلك ما كان موضع اهتمامه.
ومهما كان فطرح هذا السؤال في مبدأ السورة لجلب اهتمام السامع الى الجواب وللاشارة الى أنه سؤال الجميع والى قلق الانسان واضطرابه بالطبع بالنسبة الى مستقبله وأن الموت هل هو النهاية كما يظنه بعضهم أم لا؟ فهذه الآية تنبّه الانسان على ما هو السؤال الاكبر والاهم في حياته ولكن التنبيه جاء بصيغة السؤال.
عن النبأ العظيم... هذا جواب عن السؤال السابق اي يتساءلون عن النبأ العظيم. والنبأ: الخبر. وفي معجم مقاييس اللغة أن الاصل فيه الاتيان من مكان الى مكان. وفي مفردات الراغب ان النبأ لا يطلق على كل خبر بل هو الخبر ذو الفائدة العظيمة الذي يحصل به العلم او غلبة الظن.
ولكن يبدو أن الاصح ما ورد في كتاب الفروق في اللغة للعسكري من أن الفرق بينهما من جهتين إحداهما أنّ النبأ إخبار بما لا يعلمه المخبر والثانية أن النبأ خبر عظيم الشأن. فالتوصيف بالعظيم في الآية الكريمة تأكيد على عظمة الخبر.
وقد اختلفوا في المراد بالنبأ العظيم هل هو القرآن الكريم أم يوم القيامة أم ما أخبر به الرسل من الوحدانية والربوبية والشريعة والبعث وغير ذلك.
والاخير بعيد جدا لأن الظاهر من التعبير أنه خبر خاص لا كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم او سائر الرسل الكرام عليهم السلام.
واستدل بعضهم على كون المراد القرآن الكريم بقوله تعالى (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ)[2] وقد مرّ الكلام حوله واستظهار أنّ المراد به القرآن من قرائن في الآيات السابقة واللاحقة.
ولكن مجرد وحدة التعبير لا يدلّ على وحدة المراد في الموضعين وان كان محتملا والانسب بسياق الكلام ان يكون المراد به البعث.
وهناك عدة روايات عن ائمة اهل البيت عليهم السلام ان المراد به امير المؤمنين عليه السلام او ولاية اهل البيت عليهم السلام بالمعنى العام.
ولو صحت الرواية فهو من باب التطبيق مع افتراض ان المراد به في الآية الكريمة معنى عام ينطبق على كل ما جاء ت به الرسل ومما لا شك فيه ان الولاية أهم ما اوصى به الرسول صلى الله عليه واله وسلم لان الدين لا يبقى الا بها.
ولذلك قال تعالى في شأنها (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).[3]
الذي هم فيه مختلفون... اذا كان التساؤل بين الناس جميعا فالاختلاف واضح سواء كان المراد بالنبا البعث ام القران ام الرسالة وما تتضمنه ام خصوص الولاية.
وان كان المراد خصوص المشركين كما قيل فالاختلاف ايضا موجود فيما بينهم في هذه الامور من جهة أن بعضهم ينفي النبأ قطعا وبعضهم يستبعد وجوده وبعضهم يظهر الشك او الظن.
فهناك من يعبّر القرآن عن عقيدتهم بالتكذيب والكفر كقوله تعالى (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ..)[4] وهناك من يعبر عن موقفهم بالشك والمرية كقوله تعالى (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ)[5] وعن بعضهم بالظن وعدم اليقين كقوله تعالى (مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ).[6]
ومن هنا يتبين أن الاولى الحمل على كل الناس حيث ان الاختلاف مستحكم بينهم فمنهم مؤمن به ومنهم كافر سواء قلنا ان النبأ هو البعث أم غيره.
كلا سيعلمون... المعروف أنّ (كلا) حرف ردع وزجر ونفي لما سبقه. وقيل إنها قد تفيد معنى التنبيه فتكون بمعنى (ألا) او (حقا) كما في المجمع.
وأوضح مثال في الآيات على هذا المعنى قوله تعالى (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى)[7] اذ لا يمكن أن تكون ردعا عما سبق من الآيات لعدم الارتباط. وتكلّف المفسرون في ارجاعها الى ما سبق وبالغ بعضهم في التكلف فجعلها ردعا عما يأتي. وقد بحث ابن هشام عن مفادها في المغني بحثا وافيا.
وعليه فان قلنا بأنها للتنبيه فالامر واضح ومعنى (سيعلمون) أنهم قريبا يعلمون ما هو الحق في مورد الاختلاف لانهم سيحضرونه ويرونه ان كان التساؤل عن المعاد وان كان عن القرآن او الرسالة فسيعلمون ايضا يوم الفصل ما هو الحق فيرتفع الاختلاف.
والسين تفيد الاستقبال القريب فان الفاصل بين الانسان والمعرفة هو مدة حياته فاذا مات انكشف عنه الغطاء.
وان قلنا بأن (كلا) ليست الا للردع والزجر كما اختاره بعض كبار علماء العربية كالخليل وسيبويه فيمكن تأويلها بأن المراد الردع عن الاختلاف في النبأ العظيم كما مر بيانه.
ولكن المفسرين غالبا قالوا انه ردع عن التساؤل لان المشركين لا يقصدون به الا الانكار والاستهزاء وقالوا ان هذا الردع والزجر دليل على ان المتسائلين هم المشركون وقالوا ان التعبير بانهم سيعلمون مفعم بالتهديد نظير قوله تعالى (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).[8]
وبما ذكرناه يتبين أنه لا موجب لما قالوا فلو فرض ان (كلا) تفيد الزجر والردع فلا مانع من ان تكون للزجر عن الاختلاف وأنهم سيعلمون ويرونه بالعيان. ولو فرض فيه تهديد ووعيد فهو لا يختص بالمشركين وليس تهديدا على شركهم او تكذيبهم بل هو تهديد للانسان وتخويف له عما يستقبله من سؤال وجزاء.
ثم كلا سيعلمون... (ثم) للتراخي وحيث ان التكرار للتأكيد فيمكن أن يكون في التراخي اشارة الى أن مفاد الجملة المكررة يختلف عن الاولى في أنها تؤكد المضمون فكأنها أقوى مما سبق.
ونسب الى ابن عباس انه للتراخي واقعا فهم سيعلمون الحق عند الموت مرة ثم يزيدون علما واطلاعا حين البعث.
وهو بعيد من جهة تكرار (كلا) سواء كان بمعنى الزجر او التنبيه اذ لا وجه لتكراره الا التاكيد.
[1] المدثر: 40
[2] ص: 67- 68
[3] المائدة: 67
[4] الاعراف: 147
[5] النمل: 66
[6] الجاثية: 32
[7] العلق: 6
[8] الشعراء: 227