مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة النجم مكية تتناول التوحيد والنبوة والمعاد كسائر السور المكية وفي آخرها عدة آيات متناسقة تندد بشدة من يمتنع من الانفاق في سبيل الله. وتتناول السورة بوجه خاص معراج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبلوغه اعلى مراتب القرب لدى الله تعالى حيث لا يبلغه احد ويبدو ان مضامين السورة كانت تؤثر اثرا عظيما في قريش ولذلك غضب بعضهم وتهجم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد روت العامة حديثه بوجوه مختلفة.

منها ما رواه الثعلبي في تفسيره قال (وروى عروة بن الزبير عن رجال من أهل بيته قالوا: كانت بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند عتبة بن أبي لهب فأراد الخروج إلى الشام فقال: الأبتر محمد فلأوذينّه في ابنته فأتاه فقال: يا محمد هو يكفر بالنَّجْمِ إِذا هَوى وبالذي دَنا فَتَدَلَّى، ثم تفل في وجهه وردّ عليه ابنته وطلّقها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك» قال: وأبو طالب حاضر فوجم لها وقال: ما كان أغناك يا بن أخي عن هذه الدعوة. فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره بذلك ثم خرجوا إلى الشام، فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: هذه أرض مسبعة، فقال أبو لهب لأصحابه: أعينونا يا معشر قريش هذه الليلة فإني أخاف على ابني دعوة محمد، فجمعوا أحمالهم وفرشوا لعتبة في أعلاها وناموا حوله، فجاء الأسد فجعل يتشمم وجوههم ثم ثنى ذنبه فوثب وضرب عتبة بيده ضربة، وأخذه فخدشه، فقال: قتلني ومات مكانه. فقال في ذلك حسان بن ثابت:

سائل بني الأصفر إن جئتهم                      ما كان أنباء أبي واسع

لا وسّع الله له قبره                                 بل ضيّق الله على القاطع

رمى رسول الله من بينهم                         دون قريش رمية القاذع

واستوجب الدعوة منه بما                         بيّن للنّاظر والسامع

فسلّط الله به كلبه                                    يمشي الهوينا مشية الخادع

حتى أتاه وسط أصحابه                            وقد عليهم سمة الهاجع

فالتقم الرأس بيافوخه                               والنحر منه قفرة الجائع

ثم علا بعد بأسنانه                                  منعفرا وسط دم ناقع

قد كان هذا لكم عبرة                               للسيّد المتبوع والتابع

من يرجع العام إلى أهله                           فما أكيل السبع بالراجع

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى... مرّ بعض الكلام حول القسم في القرآن الكريم في تفسير سورة الذاريات والطور وقد أقسم تعالى في كتابه بموجودات كثيرة مما خلقها تناسب المقسم عليه وهذا من انحاء براعة الاستهلال. والنجم في الاصل بمعنى الطلوع. نجم نَجْما ونُجوما اي طلع. و(هوى) من الهوي بمعنى السقوط من علو. واختلف المفسرون في المراد بالنجم والمعروف بينهم ان المراد جنس النجم قالوا والمراد بالهوي الغروب فهذا قسم بالنجم حين غروبه. والتخصيص بزمان الغروب قد يكون من جهة أنّ طلوع الكواكب وغروبها من آياته تعالى الدالة على عموم ربوبيته.

ولكن بعض المفسرين خصه بالثريا بدعوى ان العرب اذا اطلقت النجم ارادته وبعضهم خصه بالشعرى لورود ذكرها في السورة وبعضهم بالشهاب اذا سقط وفي رواية تأويله بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم عند نزوله من المعراج وفي اخرى ان المراد بهويه وفاته صلى الله عليه وآله وسلم وبعضهم اوله بالنجوم من القرآن اي كل قسم منه حيث ينزل وحيا بالتدريج فانهم كانوا يعبرون عن كل قسم من شيء يوزع على اقسام حسب المدة الزمنية بالنجم لانهم كانوا يعينون اجزاء المدة بطلوع النجوم.

والظاهر أن اقوى الاحتمالات هو حمله على الشهاب لان تاويل الهوي بالغروب بعيد فالنجوم لا تهوي للغروب وانما يتراءى للرائي انها تتحرك ببطء نحو الافق ثم تختفي ولا مناسبة للتعبير عن ذلك بالهوي فان الهوي هو السقوط وليس الانحدار انما الذي يهوي واقعا وظاهرا هو الشهاب والتعبير عنها بالنجم غير بعيد لان النجم بمعنى كل شيء طالع ولذلك يقال نجم السن والقرن والنبت اذا طلع.

هذا مضافا الى أن ظاهر الآية يأبى من الحمل على كل النجوم لانها لا تغرب معا فلا بد من ارادة نجم خاص ولا دليل على حمله على خصوص الثريا او الشعرى وما ورد من التاويل بالقران او بالرسول صلى الله عليه واله وسلم لا سند له وكل منهما تأويل بعيد في حد ذاته.

ومضافا الى أن توجيه التناسب بين المقسم به وهو النجم بالمعنى المعروف في حال الغروب والمقسم عليه وهو نفي الضلال والغواية عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صعب جدا. اما اذا اريد به الشهاب فالمناسبة واضحة بملاحظة قوله تعالى (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)[1] والشهب هي التي تمنع الشياطين من استراق السمع كما ورد في مواضع من القرآن وقد مر البحث عنه في تفسير سورة الصافات حتى لو اريد بالشهاب معنى اخر فان الرمزية للشهب الموجودة في السماء تبقى كما هي.

مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى... يبدو من كتب اللغة وموارد الاستعمال ان الضلالة في مقابل الهداية هي عدم معرفة الطريق الصحيح ولا تستلزم سلوك الطريق الباطل بل يصدق مع التحير. والغواية ــ في مقابل الرشد ــ هي سلوك الطريق الباطل فهي اخص من الضلالة. والمراد بالصاحب هو المصاحب للقوم وليس في الصحبة اي دلالة على الصداقة والود كما توهم بل يصدق حتى مع العداء كما قال تعالى في صحبة الكافر والمؤمن (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا)[2] فالغرض من التعبير به التنويه على انه مصاحبكم سنين عديدة وانتم تعلمون خصائصه ونفسياته ولم تشاهدوا منه طيلة هذه المدة ما يستوجب الحكم بضلاله او غوايته. فتعليق الحكم بهذا الوصف لبيان الدليل على المدعى.

وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى... اي وما ينطق صاحبكم وهو الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. والمراد بالهوى هوى النفس ويقال ذلك لكل ما تميل اليه النفس ولا يختص بالشهوة او بما هو باطل كما قيل ومنه قوله تعالى (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)[3]. والحاصل أن الآية تنفي أن يكون ما ينطق به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ناشئا عن مقاصد شخصية وانما هو وحي من الله تعالى والضمير في قوله (ان هو) يعود الى ما ينطق به وهو مذكور بالمعنى في قوله (وما ينطق) و(ان) نافية وتفيد مع (الا) الحصر اي ليس ما ينطق به شيئا خارجا عن الوحي الالهي وورد قوله (يوحى) مبنيا للمجهول تعظيما للموحي وهو الله تعالى.

وقوله (ما ينطق) يشمل كل ما ينبئه عن الله تعالى عن طريق الوحي سواء كان قرآنا او حكما شرعيا او خبرا غيبيا اوغير ذلك ويبعد جدا ان يراد به خصوص القرآن الكريم كما يقال اذ ليس كل ما اخبر به من احكام الله تعالى وغيرها واردا في الكتاب العزيز وهناك روايات كثيرة مضمونها انه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: هذا اخي جبرئيل يخبرني بكذا وكذا وقد ورد في بعض الروايات التصريح بشمول هذه الآية لما كان يقوله الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم غير القرآن.

فقد روى الكليني عن ابي جعفر عليه السلام في حديث طويل ( "وما ينطق عن الهوى" يقول ما يتكلم بفضل اهل بيته بهواه وهو قول الله عز وجل "ان هو الا وحي يوحى"..)[4] وروى الصدوق في الامالي عن الامام الصادق عليه السلام في حديث طويل قوله (ألم ينسبوه صلى الله عليه وآله وسلّم الى انه ينطق عن الهوى في ابن عمه علي عليه السلام حتى كذّبهم الله عز وجل فقال سبحانه "وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى"..).[5]

وروى الصدوق قدس سره حديثا طويلا عن الامام العسكري عليه السلام عن ابيه عن آبائه عليهم السلام وفيه خطاب من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لابن مسعود (يا ابن مسعود اياك ان تجد في نفسك حرجا مما أقضي فتكفر فوعزة ربي ما انا متكلف ولا ناطق عن الهوى في علي والائمة من بعده..).[6]

وهذا المعنى روي في بعض كتب العامة ايضا ففي الدر المنثور في ذيل الآية المباركة (أخرج ابن مردويه عن أبي الحمراء وحبّة العرني قالا (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسدّ الأبواب التي في المسجد فشقّ عليهم قال حبّة: اني لأنظر إلى حمزة بن عبد المطلب وهو تحت قطيفة حمراء وعيناه تذرفان وهو يقول أخرجت عمك وأبا بكر وعمر والعباس وأسكنت ابن عمك فقال رجل يومئذ ما يألو برفع ابن عمه قال فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قد شقّ عليهم فدعا الصلاة جامعة فلما اجتمعوا صعد المنبر فلم يسمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة قط كان أبلغ منها تمجيدا وتوحيدا فلما فرغ قال يا أيها الناس ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها ولا أنا أخرجتكم وأسكنته ثم قرأ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى‏ ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى‏ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى..).

ولا تشمل الآية ما يتحدّث به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عن نفسه من شؤونه الخاصة كما ورد من تفضيله لبعض الطعام او حبه للطيب ونحو ذلك على تقدير صحة الاحاديث بل لا يشمل ما يحكم به حكما مولويا في مورد خاص وذلك بقرينة الحصر في الوحي في قوله تعالى (ان هو الا وحي يوحى).

واما ما يحكم به كشرع ودين حتى لو كان من تشريعه صلى الله عليه وآله وسلم فهو بالنهاية وحي من الله ولو من جهة تنفيذه تعالى لاحكامه صلى الله عليه وآله وسلّم حيث ورد في بعض الروايات ان الله تعالى فوض الى رسوله التشريع في بعض الشؤون كاضافة الركعة والركعتين في الفرائض حيث كانت في الاصل مفروضة من الله تعالى ركعتين ركعتين وكوضعه صلى الله عليه وآله وسلم الزكاة في تسعة اشياء وعفوه عما عدا ذلك مع ان الفرض من الله تعالى كان مطلقا وغير ذلك من السنن الواجبة التي شرعها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذلك فانه تعالى نفذ تشريع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيكون ايضا من الوحي.

روى الكليني قدس سره عن عَلِيّ بْن إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ لِبَعْضِ أَصْحَابِ قَيْسٍ الْمَاصِرِ (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَدَّبَ‏ نَبِيَّهُ فَأَحْسَنَ أَدَبَهُ فَلَمَّا أَكْمَلَ لَهُ الْأَدَبَ، قَالَ «إِنَّكَ‏ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ» ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَ الدِّينِ وَالْأُمَّةِ لِيَسُوسَ عِبَادَهُ‏ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ «ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلّم كَانَ مُسَدَّداً مُوَفَّقاً مُؤَيَّداً بِرُوحِ الْقُدُسِ لَا يَزِلُّ وَلَايُخْطِئُ فِي شَيْ‏ءٍ مِمَّا يَسُوسُ بِهِ الْخَلْقَ فَتَأَدَّبَ بِآدَابِ اللَّهِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ الصَّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ فَأَضَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلّم إِلَى الرَّكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَإِلَى الْمَغْرِبِ رَكْعَةً فَصَارَتْ عَدِيلَ‏ الْفَرِيضَةِ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُنَّ إِلَّا فِي السَّفَرِ وَأَفْرَدَ الرَّكْعَةَ فِي الْمَغْرِبِ فَتَرَكَهَا قَائِمَةً فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فَأَجَازَ اللَّهُ لَهُ ذلِكَ كُلَّهُ فَصَارَتِ الْفَرِيضَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ سَنَّ‏ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلّم النَّوَافِلَ أَرْبَعاً وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً مِثْلَيِ الْفَرِيضَةِ فَأَجَازَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ ذلِكَ وَالْفَرِيضَةُ وَالنَّافِلَةُ إِحْدى‏ وَخَمْسُونَ رَكْعَةً مِنْهَا رَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعَتَمَةِ جَالِساً تُعَدَّانِ‏ بِرَكْعَةٍ مَكَانَ الْوَتْرِ وَفَرَضَ اللَّهُ فِي السَّنَةِ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلّم صَوْمَ‏ شَعْبَانَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِثْلَيِ الْفَرِيضَةِ فَأَجَازَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ ذلِكَ وَحَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ الْخَمْرَ بِعَيْنِهَا وَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلّم الْمُسْكِرَ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ فَأَجَازَ اللَّهُ لَهُ ذلِكَ‏ وَعَافَ‏ َرسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله أَشْيَاءَ وَكَرِهَهَا لَمْ يَنْهَ‏ عَنْهَا نَهْيَ حَرَامٍ إِنَّمَا نَهى‏ عَنْهَا نَهْيَ إِعَافَةٍ وَكَرَاهَةٍ ثُمَّ رَخَّصَ فِيهَا فَصَارَ الْأَخْذُ بِرُخَصِهِ‏ وَاجِباً عَلَى الْعِبَادِ كَوُجُوبِ مَا يَأْخُذُونَ بِنَهْيِهِ وَعَزَائِمِهِ وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلّم فِيمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ نَهْيَ حَرَامٍ وَلَافِيمَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ فَرْضٍ لَازِمٍ فَكَثِيرُ الْمُسْكِرِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ نَهَاهُمْ عَنْهُ نَهْيَ‏ حَرَامٍ لَمْ‏  يُرَخِّصْ فِيهِ لِأَحَدٍ وَلَمْ يُرَخِّصْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلّم لِأَحَدٍ تَقْصِيرَ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ضَمَّهُمَا إِلى‏ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَلْ أَلْزَمَهُمْ ذلِكَ إِلْزَاماً وَاجِباً لَمْ يُرَخِّصْ لِأَحَدٍ فِي شَيْ‏ءٍ مِنْ ذلِكَ إِلَّا لِلْمُسَافِرِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُرَخِّصَ‏ مَا لَمْ يُرَخِّصْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلّم فَوَافَقَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلّم أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَهْيُهُ نَهْيَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَوَجَبَ عَلَى الْعِبَادِ التَّسْلِيمُ لَهُ كَالتَّسْلِيمِ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى‏). [7] وسندها صحيح.

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى... الضمير المفعول في (علمه) يعود الى (صاحبكم) والفاعل (شديد القوى) والمفعول الثاني ضمير مستتر يعود الى ما عاد اليه ضمير (هو) اي ما ينطق به اي علم شديد القوى الرسول صلى الله عليه واله وسلم ما ينطق به. والمشهور بين المفسرين ان شديد القوى صفة لجبرئيل عليه السلام واستشهد بعضهم بقوله تعالى في وصفه (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ).[8]

ولكن التعبير يختلف وهناك فرق شاسع بين التوصيف بشديد القوى والتوصيف بانه ذي قوة. ولم يرد شديد القوى في القرآن الا هنا وورد شديد المحال في سورة الرعد من صفات الله. قال تعالى (وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)[9] وفسره بعضهم بالقوة وفيه اختلاف.

وورد (شديد القوى) في الادعية المأثورة من صفاته تعالى وورد في روايات كثيرة عن أئمة اهل البيت عليهم السلام ان قوله تعالى (ثم دنا فتدلى) يصف دنو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الله عزّ وجلّ. وعليه فالظاهر ان المراد بشديد القوى هو الله تعالى وهو الذي علمه القرآن وجبرئيل عليه السلام كان واسطة في ايصال الوحي والعلم اليه صلى الله عليه واله وسلم في الدنيا واما في هذا المورد فقد تلقى العلم من ربه بلا واسطة وستأتي قرائن اخرى تقتضي ذلك.

والقوى جمع قوة والظاهر ان المراد بها القدرة والمصدر لا يجمع فلا بد من حمله على ارادة شدة قدرته تعالى بحسب الموارد اي هو قويّ في علمه وفي ارادته وفي سمعه وبصره وبطشه وكل افعاله ومعنى قوة سمعه وبصره احاطته بكل المبصرات والمسموعات ومعنى شدة قواه تعالى كونها شديدة في حد ذاتها لا بالقياس الى غيرها اذ لا يقاس به احد في اي شيء من صفاته تعالى ومعنى الشدة المطلقة انها غير متناهية وليس لها حد فلا يمكن ان تتخلف قدرته في اي شيء يريده.

ولعل السر في ذكر هذا الوصف هنا التنبيه على ان الذي علمه شديد في قدرته العلمية فلا حد لعلمه وشديد في قدرته على التعليم فلا يبقى شيء مما اراد تعليمه اياه الا وصل اليه وادركه باقوى وجه بحيث لا يبقى نقص فيه وشديد في قدرته على طرد الشياطين فلا يمكن ان يتدخل احد منهم بادنى وجه وشديد في قدرته على حفظ ما تعلمه الرسول صلى الله عليه واله وسلم كما قال تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى)[10] الى آخر ما يتطلبه هذا التعليم من القدرة.

ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى... المِرّة: القوة. ومنه أمرّ الحبل اي فتله فصار قويا وفي حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم (لا تحل الصدقة لغنيّ ولا لذي مِرّة سويّ)[11] والمراد بها الزكاة الواجبة. فذو مِرّة هو القوي. والسوي صحيح الاعضاء. وفسر المرة بعضهم في هذه الآية خاصّة بالحصافة والعقل. والسبب في هذا التفسير انهم حيث اعتبروه صفة اخرى لجبرئيل عليه السلام فاستوجب التكرار بل لا يناسب ان يقال عنه أوّلا انه شديد القوى ثم يوصف بانه ذي قوة فجعلوه وصفا للعقل والحكمة ولم نجد في النصوص توصيف الملك بذلك مع ان القوى تشمل العقل ايضا فيكون تكرارا لا محالة بل تنزلا.

ومن فسره بجبرئيل فسر الاستواء بظهوره على صفته الاصلية ويقال ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يره على تلك الصفة الا مرتين وانه ملأ الافق الى آخر ما قيل ولا يوجد دليل معتبر على شيء من ذلك بل لا بد من تأويل ما ورد بهذا المضمون لو صحت الاخبار فان الملائكة ليست أجساما حتى تملأ الافق ولا يرى الملك الا ببصيرة معنوية نعم ربما يتمثل الملك بشرا فيتعامل معه الانسان كبشر وحينئذ لا يملأ الافق ومهما كان فتـفسير الاستواء به لا يصحح فاء التفريع اذ لا تناسب بين ظهوره على تلك الصفة مع كونه ذا قوة او ذا حكمة وعقل كما قالوا. وهذه الملاحظة تقوّض من الاصل تفسير ذو مرة بجبرئيل عليه السلام بل تفسير شديد القوى به ايضا. وستأتي قرائن اخرى على ذلك.

وقال آخرون انه وصف للرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتقدير الضمير اي هو ذو مرة اي قوة وهو الصحيح. والاستواء: الاعتدال والاستقامة. والمراد به هنا انه كان في حدّ ذاته قويا باذن الله تعالى وقابلا لتلقّي الوحي من الله فلمّا علّمه ربه استوى وكمل علما وروحا يقال استوى الرجل اذا كمل وانتهى شبابه وطيشه وقد يأتي الاستواء بمعنى الاستيلاء فيكون المراد انه استولى على الوحي والغيب اي تلقاه بكماله.

وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى... الجملة حالية اي انه استوى حال كونه في الافق الاعلى اي اعلى الآفاق على الاطلاق. والافق هنا ليس بمعناه المتعارف فانه من صفات الامكنة ومعناه مبلغ ما يمتد اليه البصر من اطراف السماء والارض ومورد الكلام هنا خارج عن حدود المكان فالمراد به اعلى افق في الكون الشامل للعوالم الغيبية المجردة وهو معنى خارج عن حيطة المكان والزمان.

ومهما كان فالجملة حال من فاعل استوى فيختلف المعنى باختلاف التفسيرين، فان فسر بجبرئيل عليه السلام فالمعنى انه استوى على هيئته الاصلية حال كونه في الافق الاعلى وان فسر بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم فالمعنى انه استوى كمالا او استولى على الغيب والوحي وهو في عالم آخر وراء عالم الطبيعة وفي اعلى آفاقها حيث لا يبلغه ولم يبلغه انسان قبله وهذا هو المتعين فان كون جبرئيل عليه السلام على هيئته الاصلية في الافق الاعلى ليس امرا حادثا ليخبر عنه.

وربما يقال ان قوله تعالى في سورة التكوير (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) يدل على ان المراد بمن كان في الافق الاعلى هنا هو جبرئيل عليه السلام اذ لا شك ان هذه الاوصاف له وفاعل رآه (صاحبكم) وضمير المفعول يعود الى جبرئيل.

ولكن لا دليل على أن الافق المبين هو نفسه الافق الاعلى بل اختلاف التعبير يقتضي الفرق فالافق المبين هو الافق الواضح والافق الاعلى هو اعلى الآفاق على الاطلاق. ولعل التعبير بالافق المبين في سورة التكوير للتأكيد على انه كان يراه بوضوح دفعا لتوهم المشركين من نزول الشياطين عليه صلى الله عليه وآله وسلّم واشتباه الامر عليه.

ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى... الدنو: الاقتراب. وفي التدلي احتمالان احدهما انه ايضا بمعنى القرب ومنه الادلاء اي تقريب الدلو من الماء في البئر فيكون المعنى ثم قرب فقرب اي ازداد قربا بالتدرج. والاحتمال الآخر انه بمعنى التعلق وأن منه إدلاء الدلو اي ارساله فالتدلي مطاوعة الادلاء اي الارسال والتعليق. والتعلق هنا كناية عن غاية القرب ولعل له معنى آخر لا تصل عقولنا الى كنهه وورد التعبير بالتعلق عن نوع الارتباط بين العبد والرب في بعض الروايات مما يؤيد المعنى الثاني. منها ما ورد في المناجاة الشعبانية المروية عن اميرالمؤمنين عليه السلام (الهي هب لي كمال الانقطاع اليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها اليك حتى تخرق ابصار القلوب حجب النور فتصل الى معدن العظمة وتصير ارواحنا معلقة بعز قدسك)[12] ومهما كان فعلى كلا التفسيرين تدل الآية على التدرج في القرب.

واختلف هنا ايضا في فاعل الدنو وما دنا منه فقيل انه جبرئيل عليه السلام وانه دنا من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مقدمة للايحاء اليه ايحاءا مباشرا فهو يختلف عن الكيفية المتعارفة حيث كان الملك ينزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم في عالم الاجسام بصورة انسان فيبلغ رسالة السماء. وقيل ان من دنا هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وانه دنا من جبرئيل عليه السلام ليتلقى الوحي مباشرة.

ولكن الوارد في روايات كثيرة عن اهل البيت عليهم السلام انه صلى الله عليه وآله وسلم دنا من ربه وهو انسب بالتدرج في القرب على ما مر وهو ليس دنوا جسمانيا كما ان دنوه من جبرئيل عليه السلام ليس جسمانيا ايضا ان لم يتمثل بشرا بل هو دنو معنوي فالامر هنا كله يتعلق بالقلب والروح.

وحقيقة الانسان هي الروح والنفس الانسانية والجسم ليس الا وسيلة للارتباط بالطبيعة وهو بذاته قيد له يمنعه من الارتباط بما لا سبيل اليه في الطبيعة سواء لبعده المكاني او الزماني او لعدم كونه جسما وجسمانيا فاذا تحرر الانسان من هذا القيد تمكن من الارتباط بكل شيء حسبما يليق بقوته الروحية فان كان ذو مرة كالرسول صلى الله عليه وآله وسلم تمكن من الارتباط بالله تعالى كمال الارتباط وهو ما تعالجه هذه الآيات وهذا غاية الكمال الانساني ويصعب علينا تصور هذه الحالة فضلا عن البحث فيها فهذا مقام لم يبلغه بشر قبله ولم يرد في الآيات ولا الروايات ما يدل على بلوغ احد من الرسل عليهم السلام هذه المرحلة التي توصف بالدنو من الله تعالى غاية الدنو خصوصا اذا فسر التدلي بالتعلق.

ومن الروايات الواردة ما في الكافي في حديث عن البطائني: (سَأَلَ أَبُو بَصِيرٍ أَبَا عَبْدِاللَّهِ عليه السلام وَأَنَا حَاضِرٌ فَقَالَ جُعِلْتُ فِدَاكَ كَمْ عُرِجَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ مَرَّتَيْنِ فَأَوْقَفَهُ جَبْرَئِيلُ مَوْقِفاً فَقَالَ لَهُ مَكَانَكَ يَا مُحَمَّدُ فَلَقَدْ وَقَفْتَ مَوْقِفاً مَا وَقَفَهُ مَلَكٌ قَطُّ وَلَا نَبِيٌّ إِنَّ رَبَّكَ يُصَلِّي فَقَالَ يَا جَبْرَئِيلُ وَكَيْفَ يُصَلِّي قَالَ يَقُولُ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ أَنَا رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم اللَّهُمَّ عَفْوَكَ عَفْوَكَ قَالَ وَكَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى‏).[13]

وروى الصدوق حديثا وفيه (فلما اسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان من ربه كقاب قوسين او ادنى رفع له حجاب من حجبه).‏[14]

وروى الشيخ في المصباح عن عاصم بن حميد عن ابي عبدالله عليه السلام عملا لقضاء الحاجة ويقول في دعائه "اللهم اني اتقرب اليك بنبيك ــ الى ان يقول ــ فنظر الى نورك وراى آياتك وكان منك كقاب قوسين او ادنى..).[15]

وروى في الامالي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لما عرج بي الى السماء دنوت من ربي عز وجل حتى كان بيني وبينه قاب قوسين او ادنى).[16]

والروايات كثيرة مع ان مقتضى ظاهر الآيات ايضا هو هذا المعنى.

فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى... اي دنا ثم دنا فكان دنوه قاب قوسين اي مقدار قوسين. والقاب مقلوب القيب بكسر القاف والاصل فيهما القاد والقيد بكسر القاف ايضا وهو المقدار قال في معجم المقاييس (الكلمة فيها معنيان ابدال وقلب فاما الابدال فالباء مبدلة من دال والالف منقلبة من ياء والاصل: القيد) ومن هذا الباب قولهم قِيد رمح او قِيد انملة. والقوس ما يرمى به وقيل هو من القياس اي ما يقاس به وهو الذراع فالمعنى أنّ الفاصل كان بقدر قوسين او ذراعين. وقيل القاب ما بين مقبض القوس وسيتها اي ما بين وسطها وطرفها (يلاحظ أن القوس التي يرمى بها مؤنث) فلكل قوس قابان. وقيل ان التثنية في الآية من القلب واصلها قابي قوس.

و(او) في قوله (او ادنى) ليست للترديد اذ هو مستحيل على الله تعالى ومثله قوله تعالى في قصة يونس عليه السلام (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ)[17] بل هي إمّا بمعنى الواو او بمعنى  (بل) او بمعنى انه يتراءى للناظر مرددا وهو على كل حال تقريب الى الذهن والا فالقرب هنا ليس بالاجسام حتى يقدر بذلك كما هو واضح وانما يراد بيان انه صلى الله عليه وآله وسلّم اصبح اقرب الخلق الى الله تعالى.

فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى... المعنى واضح بناءا على تفسير الدنو بقرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من ربه جل وعلا قربا معنويا فيكون الايحاء المباشر بينه تعالى وبين عبده والابهام في (ما اوحى) للتفخيم كقوله تعالى (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ)[18] وقوله في هذه السورة (اذ يغشى السدرة ما يغشى) اي فأوحى الله تعالى الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عند دنوه من ربه ما لا يمكن للبشر ادراكه. وفي العدول عن الضمير الى الاسم الظاهر (عبده) مع الاضافة الى ضمير المفرد تأكيد على مقام العبودية الخاصة.

 واما بناءا على تفسير الدنو بقربه صلى الله عليه وآله وسلّم من جبرئيل عليه السلام فيقع الاشكال في التعبير بعبده واوله القائلون به بوجوه لعل اقربها ان جبرئيل اوحى الى عبد الله ما اوحى او اوحى ما اوحى الله اليه وهو على كل حال تكلف واضح وهذه الآية مما يؤكد التفسير الآخر. ويمكن ان يقال: ان فاعل اوحى هنا هو الله تعالى ولا ينافي ان يكون القرب والدنو بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجبرئيل عليه السلام اي اوحى الله بعد تحقق هذا التداني بينهما. وهو ايضا تكلف واضح يأباه الذوق السليم.

مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى... الكذب اذا نفي عن حاسة من الحواس فمعناه انها لم تخطئ في احساسها تقول ما كذبتني عيني اي ما رايته كان امرا واقعيا لم ينشأ من الوهم والخيال. والفؤاد والقلب والنفس بمعنى واحد والمراد به هنا قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وفاعل (رأى) ضمير يعود الى الفؤاد فالمعنى ان قلبه صلى الله عليه وآله وسلم لم يخطئ في رؤيته وإدراكه فليس ما وصل اليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بقلبه وروحه وَهْما او خيالا بل هو وصول وادراك واقعي.

بل يمكن ان يكون المراد من الآية معنى عام طُبِّق على هذا المورد وهو ان رؤية الفؤاد لا يمكن ان تكون كذبا لانها ادراك للشيء ووصول اليه وليست علما حصوليا. ورؤية القلب اقوى واوثق الادراكات الانسانية وهناك فرق بيّن بين الادراك والعلم الحصولي فالعلم هو انكشاف الشيء بالواسطة لان المعلوم المباشر ليس هو ذات الشيء بل صورته الذهنية واما الادراك فهو ان يصل الانسان الى نفس المعلوم بذاته وهو العلم الحضوري وليس لنا من هذا الادراك الا علم الانسان بذاته فكل واحد منا يدرك ذاته ويعلم بها لا لانه يراها او يحس بها او يسمع صوتها بل لانه يدركها اي هو واصل اليها بالذات ولذلك لا يختلف الحال بافتقاد الحواس وهذا هو ما عبّر عنه في الآية برؤية القلب وهذا لا يمكن ان يخالف الواقع ولا يشتبه عليه الامر لانه علم حضوري فالمعلوم بذاته حاضر لدى العالم وهذا الحضور في علم الانسان بنفسه واضح لوحدة العالم والمعلوم وأما فيما رآه الرسول صلى الله عليه واله وسلم بقلبه في المعراج فهو نوع من الحضور لا ندركه.

ولكن ما هو الذي رآه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقلبه؟ هل المراد رؤية جبرئيل عليه السلام بصورته الاصلية ورؤية الوحي المباشر منه ورؤية الدنو والتدلي وغير ذلك من الآيات بقرينة ما سيأتي من قوله تعالى (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) ام المراد رؤية ربه تعالى كما ان الدنو كان منه؟

هناك روايات كثيرة عن طرقنا بل عن غيرنا ايضا تدل على الثاني ولكن منها ايضا ما تدل على الاول وترد على من زعموا امكان رؤيته تعالى بالعين وقد روى القوم عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم احاديث تدل على أن اهل الجنة يرونه تعالى بالعين حسب تفسيرهم للاحاديث وهذا البحث قائم الى يومنا هذا. وروايات اهل البيت عليهم السلام تردّ على هذا الزعم بقوة ولكن هذه الروايات لا تمنع كون المراد بالرؤية في هذه الآية رؤيته تعالى لان المفروض انها رؤية بالقلب وليس بالعين وتعابير القرآن تدل على تحقق هذه الرؤية للمؤمنين بل للجميع يوم القيامة كالتعبير بلقاء الله تعالى. وقد قال امير المؤمنين عليه السلام (لَا تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ وَلَكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ) ويلاحظ التعبير بالادراك في كلامه عليه السلام وهو الوصول.

وروى الكليني بسند صحيح عن ابن ابي نصر عن ابي الحسن الرضا عليه السلام قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لما اسري بي الى السماء بلغ بي جبرئيل مكانا لم يطأه قط جبرئيل فكشف له فأراه الله من نور عظمته ما أحبّ).[19] وقوله (فكشف له..) ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بل من كلام الامام عليه السلام والمراد ان الرسول صلى الله عليه واله وسلم كشف له...

وروى الصدوق بسند صحيح عن محمد بن الفضيل قال سألت أبا الحسن عليه السلام (هل رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ربه عز وجل فقال نعم بقلبه رآه أما سمعت الله عز وجل يقول (ما كذب الفؤاد ما رأى) اي لم يره بالبصر لكن رآه بالفؤاد).[20]

ولكن ظاهر بعض الروايات ربما ينافي ذلك فقد روى الكليني ايضا بسند صحيح عن صفوان بن يحيى قال (سَأَلَنِي أَبُو قُرَّةَ الْمُحَدِّثُ أَنْ أُدْخِلَهُ عَلى‏ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام فَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي ذلِكَ فَأَذِنَ لِي‏ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْأَحْكَامِ حَتّى‏ بَلَغَ سُؤَالُهُ إِلَى التَّوْحِيدِ فَقَالَ أَبُو قُرَّةَ: إِنَّا رُوِينَا أَنَّ اللَّهَ قَسَمَ الرُّؤْيَةَ وَالْكَلَامَ بَيْنَ نَبِيَّيْنِ‏ فَقَسَمَ الْكَلَامَ لِمُوسى‏ وَلِمُحَمَّدٍ الرُّؤْيَةَ فَقَالَ أَبُوالْحَسَنِ عليه السلام: فَمَنِ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ إِلَى الثَّقَلَيْنِ مِنَ‏ الْجِنِّ وَالْإنْسِ‏ "لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ"  وَ "لا يُحِيطُونَ‏ بِهِ عِلْماً" وَ "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ"؟ أَلَيْسَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ بَلى‏ قَالَ كَيْفَ‏ يَجِي‏ءُ رَجُلٌ إِلَى الْخَلْقِ جَمِيعاً فَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ بِأَمْرِ اللَّهِ فَيَقُولُ‏ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي وَأَحَطْتُ بِهِ عِلْماً وَهُوَ عَلى‏ صُورَةِ الْبَشَرِ؟! أَمَا تَسْتَحُونَ‏؟! مَا قَدَرَتِ الزَّنَادِقَةُ أَنْ تَرْمِيَهُ بِهذَا أَنْ يَكُونَ يَأْتِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏ بِشَيْ‏ءٍ، ثُمَّ يَأْتِي بِخِلَافِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. قَالَ أَبُو قُرَّةَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ: «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى‏» فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام: «إِنَّ بَعْدَ هذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلى‏ مَا رَأى‏ حَيْثُ قَالَ: «ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى‏»  يَقُولُ: مَا كَذَبَ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ مَا رَأَتْ‏ عَيْنَاهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَا رَأى‏، فَقَالَ «لَقَدْ رَأى‏ مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى‏» فَآيَاتُ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: «وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» فَإِذَا رَأَتْهُ الْأَبْصَارُ فَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ الْعِلْمَ‏ وَوَقَعَتِ الْمَعْرِفَةُ. فَقَالَ أَبُو قُرَّةَ: فَتُكَذِّبُ بِالرِّوَايَاتِ؟ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام: إِذَا كَانَتِ الرِّوَايَاتُ مُخَالِفَةً لِلْقُرْآنِ كَذَّبْتُهَا وَمَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَايُحَاطُ بِهِ عِلْماً وَلا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ).[21]

فظاهر هذا الحديث بناءا على قراءة (كذّب) بالتشديد ان المراد بالرؤية رؤية العين ولكن المرئي هو بعض آيات الله. فيكون معنى الحديث تفسير قوله تعالى (ما كذّب الفؤاد ما رأى) أن قلبه صلى الله عليه وآله وسلّم لم يكذّب ما رآه بعينه. وهذا يبتني على قراءة غير مشهورة فان الموجود في المصحف (ما كذب) وليس من باب التفعيل.

ويمكن أن يكون قوله عليه السلام (ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه) جملتان منفصلتان وتكون (كذب) بدون تشديد كما هو في المصحف و(ما) الثانية نافية وليست موصولة ومفعولا لقوله كذب كما في القراءة السابقة للحديث وبذلك يتم الرد على ابي قرة فبالجملة الاولى يحدد ان الرؤية هنا كانت بالفؤاد وبالجملة الثانية ينفي ان تكون الرؤية بالعين كما توهمه ابو قرة وقوله عليه السلام بعد ذلك (ثم أخبر بما رآى فقال لقد رأى من آيات ربه الكبرى..) قصد به الرؤية بالعين. 

وهذا أولى من توجيه العلامة الطباطبائي قدس سره حيث قال في شرح الرواية في الميزان (الظاهر أن كلامه عليه السلام مسوق لإلزام أبي قرة حيث كان يريد إثبات رؤيته تعالى بالعين الحسية فألزمه بأن الرؤية إنما تعلقت بالآيات وآيات الله غير الله ولا ينافي ذلك كون رؤية الآيات بما هي آياته رؤيته وإن كانت آياته غيره، وهذه الرؤية إنما كانت بالقلب كما مرت عدة من الروايات في هذا المعنى). فان النتيجة على هذا التوجيه التسليم لما هو الظاهر في بادئ الامر من ان قوله (ما كذب) بالتشديد وأن الرؤية كانت بالعين ولكنها متعلقة بالآيات وهو مخالف لما مر من الروايات ولظاهر الآية ايضا. والله العالم.

أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى... المماراة: المجادلة. والاستفهام للاستنكار وانه لا تمكن مجادلة من يرى شيئا وان كنتم لا ترونه والخطاب للمشركين المكذبين للرسالة. والرؤية رؤية القلب وهي ــ كما قلنا ــ اوثق من رؤية العين فلا مجال للمماراة. والتعبير بفعل المضارع يدل على استمرار الرؤية ولو صح ان ما ورد في الآيات يراد به رؤيته صلى الله عليه وآله وسلّم بالعين للصورة الاصلية لجبرئيل عليه السلام لم يبق مبرر لهذا التعبير لعدم استمراره.

وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى... النزلة: المرة من النزول فالمعنى ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما رآه سابقا في نزول له رآه ايضا في نزول آخر. والمشهور ــ تبعا لما مر ــ ان المرئي هو جبرئيل عليه السلام على صورته الاصلية وأن المراد بالنزول نزوله الى الارض ليعرج به الى السماء فلما بلغ سدرة المنتهى تراءى له على صورته الاصلية. وهذا خلاف ظاهر الآية حيث تدل على أنه رآه في نزلة اخرى فلا بد من ان تكون النزلة عند سدرة المنتهى والظاهر انها غاية ما يصعد اليه فلا يصح التعبير بالنزول.

والتفسير الآخر لعله اقرب خصوصا في هذه المجموعة من الآيات وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه رؤية قلبية في نزلة اخرى بمعنى ان الله تعالى نزل له نزولا معنويا اي تجلى له حتى يتمكن من الوصول اليه.

وفي الميزان ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نزل مرة اخرى الى السماء. وهو بعيد اذ التعبير المناسب هو الصعود لا النزول ولعله أوّله بذلك لاعتباره احد منازله في صعوده ولكن التعبير بالنزلة لا يناسب. فالظاهر ان هذه الآية قرينة على أن الرؤية في المرة السابقة كانت في نزلة ايضا منه تعالى ويبعد جدا ما قيل ان المعنى انه رآه مرة اخرى لكنه في هذه المرة كان مع النزول كما انه لا وجه لما يظهر من بعضهم ان النزلة بمعنى المرة.

ولعل النزلة تعبير آخر عن التجلي ومهما كان فالجزم بفهم المعنى صعب جدا والتعبير بالنزول ليس معهودا في حقه تعالى ولذلك تجد الارتباك والاضطراب باديين على كل التفاسير والآيات معقّدة غاية التعقيد والله العالم بحقيقة الحال.

عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى... السدرة واحدة السدر وهو شجر معروف ثمره النبق ولا شك ان المراد بها هنا معنى آخر لا نتعقله وانما عبر عنه بالسدرة لضيق التعبير فكل ما ورد في هذه الآيات كنايات ورموز ولعل الوجه في التعبير بالسدرة انه ليس موضعا للسكنى والاقامة بل هو كشجرة يأوي اليها المسافرون. واضافتها الى المنتهى إمّا بيانية اي السدرة التي هي المنتهى بناءا على ان المنتهى مصدر او من اضافة الشيء الى محله اذا اعتبر المنتهى اسم مكان ولو مجازا.

ولعل التعبير بالمنتهى لبيان أنها غاية ما يصل اليه الخلائق مطلقا حتى الملائكة الكرام وليست هي غاية مكانية. ويظهر من بعض الروايات ان جبرئيل عليه السلام لم يبلغها بل طلب من الرسول صلى الله عليه واله وسلم ان يتقدم وقال انك بلغت ما لم يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل. وفي بعضها انه صلى الله عليه واله وسلم اجتاز السدرة. والروايات في هذا الباب كثيرة ننقل بعضها.

روى الشيخ الصدوق قدس سره بسنده عن يونس بن عبدالرحمن قال قلت لابي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام (لاي علة عرج الله بنبيه صلى الله عليه واله وسلم الى السماء ومنها الى سدرة المنتهى ومنها الى حجب النور وخاطبه وناجاه هناك والله لا يوصف بمكان؟ فقال عليه السلام ان الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان ولا يجري عليه زمان ولكنه عز وجل أراد أن يشرّف به ملائكته ويكرّمهم بمشاهدته ويُريَه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه وليس ذلك على ما يقول به المشبّهون سبحان الله وتعالى عما يشركون)[22]

وروى عن حبيب السجستاني في حديث طويل وفيه: (قال ابوجعفر عليه السلام يا حبيب ولقد رآه نزلة اخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى يعني عندها وافى به جبرئيل حين صعد الى السماء قال فلما انتهى الى محل السدرة وقف جبرئيل دونها وقال يا محمد ان هذا موقفي الذي وضعني الله عز وجل فيه ولن اقدر على ان اتقدمه ولكن امض انت امامك الى السدرة فقف عندها قال فتقدم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وتخلف جبرئيل عليه السلام...).[23]

وفي بصائر الدرجات عن محمد بن عيسى عن عبدالصمد بن بشير عن ابي جعفر عليه السلام قال (انتهى النبي صلى الله عليه واله وسلم الى السماء السابعة وانتهى الى سدرة المنتهى قال فقالت السدرة ما جاوزني مخلوق قبلك ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين او ادنى... الحديث).[24]

وقد مر في صحيح ابن ابي نصر آنفا قوله صلى الله عليه واله وسلم (بلغ بي جبرئيل مكانا لم يطأه قط جبرئيل).

عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى... المأوى اسم مكان او مصدر من أوى يأوي اذا انضمّ الى مجمع او الى مكان يأمن فيه ويستريح والاضافة بيانية اذا كان اسم مكان اي جنة هي المأوى او بتقدير اللام ان كان مصدرا ومثله دار الخلد وقد ورد هذا التعبير في قوله تعالى (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[25]  وربما يستفاد منه ان جنة المأوى في اصطلاح القرآن خاص بالمقربين فانهم الذين يخافون مقام الرب وعامة الابرار يخافون عذابه ولذلك فرّق بينهم وبين غيرهم في سورة الرحمن فقال (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)[26] وخصّ جنتيهم باوصاف ثم ذكر انّ من دونهما جنتين وهما دونهما في الاوصاف ايضا فلا يبعد ان يقال ان جنة المقربين عند سدرة المنتهى وهي مقام غاية الكمال البشري.

واما قوله تعالى (أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[27] فلعل الجنات تختلف في مصطلح القرآن عن جنة المأوى. ويمكن ان يكون المراد بالذين آمنوا قسما خاصا منهم كما تقتضيه الآيات السابقة.

وعلى كل حال فما ذكرناه مجرد احتمال ومحاولة والذي يدفعنا الى ذلك الاهتمام في الآية بتعريف سدرة المنتهى بان جنة المأوى عندها فهذا التعريف مع كون هذه السدرة رمزا لاعلى درجات القرب يقتضي ان تكون جنة المأوى مصطلحا لمقام المقربين.

إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى... الغشيان: الستر والتغطية. والظرف متعلق بقوله (رآه) فبناءا على ما هو الاقرب في تفسير الآيات رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بقلبه ربه عند سدرة المنتهى اي عندما بلغ اعلى مراتب القرب والكمال البشري رآه تعالى حينما كان يغشى السدرة ما يغشاها من آيات الجمال الربوبي وقد مر في صحيح ابن ابي نصر عن الكافي قوله عليه السلام (فأراه الله من نور عظمته ما أحبّ).

ولعل الابهام في قوله (ما يغشى) مقصود بذاته لبيان ان ما غشيه مما لا يمكن توصيفه ولا يتحدد بالبيان او انه من الاسرار التي لا يمكن لعامة الناس فهمها بل حتى لخاصتهم. والتعبير بفعل المضارع يدل على ان التجلي الربوبي على السدرة أمر مستمر.

الله اكبر!! ما أعظم شأن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلّم! وما أشرفه وأكرمه من بشر بل ومن موجود فهو أكرم الموجودات وأشرفها!

مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى... الزيغ هو الميل والانحراف عن الحق والواقع. والطغيان هو التجاوز ولا يبعد ان يكون المراد بالاول ــ كما في الميزان ــ رؤية الشيء على غير ما هو عليه وبالثاني رؤية ما لا حقيقة له. واللام في (البصر) بدل عن المضاف اليه اي ما زاغ بصره وما طغى. والمراد به بصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. ولعل المراد به الابصار بالقلب اذا كان المبصر نفس ما اريد بقوله تعالى (ما كذب الفؤاد ما رأى) كما هو الظاهر. والبصر يطلق على ذلك قال تعالى (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا)[28] واحتمال ارادة الابصار بالعين يتوقف على ثبوت المعراج الجسماني وأن يكون المرئي آيات الله تعالى. وهذه الجملة مقدمة للتأكيد على الجملة التالية.

لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى... اللام في قوله (لقد) لام القسم فهنا قسم مقدر و(من) تبعيضية وقوله (الكبرى) مفعول رأى اي والله قد رأى الكبرى من آيات ربه ومعناه أنه رأى أكبر آية من آيات الله تعالى على الاطلاق. والابهام هو السائد على الموضوع تماما ولا شك في أن أعظم آيات الله تعالى لا يحيط به بيان ولعل الكبرى من آيات الله تعالى هو ما ورد في صحيحة ابن ابي نصر من قوله عليه السلام (فأراه الله من نور عظمته ما أحب).

وقيل ان المعنى رأى بعض آيات ربه الكبرى وقال بعضهم ان التفسير الاول غير صحيح لان آياته تعالى لا تحصر ولا يحيط بها احد. وهذا خطأ لان المفروض انه صلى الله عليه واله وسلم انما رأى الكبرى من الآيات لا كلها ولعل الكبرى منها آية واحدة لا يعادلها شيء. وفي بعض رواياتنا ان هذه الآية تردّ على من يقول بأنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه والمراد نفي الرؤية بالبصر ومهما كان فهذه الآية لا تنفي تعلق الرؤية القلبية بالله تعالى وأما رؤية الكبرى من الآيات او بعض الآيات الكبرى فيمكن ان تكون بالعين او بالقلب.

والحاصل أن هذه الآيات تدل على حدوث امر عظيم في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والحادثة هي ما اشتهرت بالمعراج وظاهر هذه الآيات انها تحققت مرتين الا أن الثانية أعظم لبلوغه صلى الله عليه وآله وسلم فيها الى اعظم مقام يمكن الوصول اليه ومن الناس من اعتبر المجموعة الثانية من الآيات متعلقة بالمعراج دون الاولى. وهناك من يشتبه لديه الامر بين الاسراء والمعراج والاول هو ما ورد ذكره في مطلع سورة الاسراء حيث اسري به ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى وهو من معجزاته الواضحة صلى الله عليه وآله وسلّم.

وقد وقع الكلام في ان المعراج هل كان بالروح او بالجسم ويقال ان الشيعة مجمعة على انه بالجسم وهذا غير واضح والذي يبدو ان ما يقابل رأي الشيعة هو ما تبنته بنوامية وتبعوا في ذلك شيخهم معاوية حيث قال انه كان مناما رآه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو باطل قطعا ومناف لصريح الآيات المباركة ولكن القول بكونه روحانيا لا يلازم هذا القول السخيف وقد ذكرنا في تفسير سورة الاسراء تبعا للعلامة رحمه الله تعالى ان الصحيح هو ان الاسراء بالجسم ولا يبعد ان يكون المعراج امرا روحانيا بل يصعب تعقل كونه جسمانيا الا ما يتوهم من انه كان في الواقع سفرا الى الاجرام الفلكية وهذا انكار لعظمة المعراج والله العالم.

 


[1] الشعراء: 210 - 212

[2] الكهف: 37

[3] ابراهيم: 37

[4] الكافي ج8 ص380

[5] الامالي ص 164

[6] كمال الدين وتمام النعمة ص 262

[7] الكافي ج1 ص267 باب التفويض الى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم

[8] التكوير: 20

[9] الرعد: 13

[10] الاعلى: 6

[11] تهذيب الاحكام ج4 ص51 باب مستحق الزكاة

[12] بحار الانوار ج91  ص99

[13] الكافي ج1 ص443 باب بلد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ووفاته

[14] علل الشرايع ج2 ص332

[15] مصباح المتهجد ص326

[16] امالي الطوسي ص352

[17] الصافات: 147

[18] طه: 78

[19] الكافي ج1 ص98 باب ابطال الرؤية

[20] التوحيد ص 116

[21] الكافي ج1 ص96 باب ابطال الرؤية

[22] التوحيد ص175

[23] علل الشرايع ج1 ص277

[24] بصائر الدرجات ص 212

[25] النازعات: 40- 41

[26] الرحمن: 46

[27] السجدة: 19

[28] الانعام: 104