أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى... بعد أن أكد على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ماض في طريقه على بصيرة وعلم وادراك ورؤية لا مجال فيه للمماراة والجدال وجّه الخطاب الى مناوئيه ليعلن لهم انهم لا يستندون الى علم وبصيرة في امرهم بل يستندون الى الظنون والاوهام ويعبدون أسماءا ليست لها مسميات في الواقع. فالفاء في قوله (أفرأيتم) لتفريع بيان حال الاصنام وعبدتها على ما مر من المقام المنيع للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الذي لا يقارن باحد.
واللات والعزى ومناة ثلاثة أصنام كانت العرب تهتم بها وتعتبرها أعظم آلهتها شأنا. والتاريخ يذكر لنا قصصا مختلفة حول نشأة هذا الفكر الخاطئ المضحك وكذلك الاختلاف في اماكن الاحتفاظ بها ولم يثبت شيء منها بسند واضح الا ان المتيقن منها انهم كانوا يعتقدون ان تدبير العالم بيد مجموعة من الموجودات الغيبية او الملائكة زعما منهم انه لا يمكن ان يدبر الله تعالى وهو خالق الخلق هذه الامور المختلفة المتباينة ثم صنعوا تماثيل من الخشب والحجر وغيرهما تمثل هذه الملائكة واخذوا يعبدونها خوفا وطمعا وحيث كانوا يعتقدون ان الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى سموا هذه الاصنام باسماء مؤنثة فاللات لعله تانيث للاله والعزى للاعز ويقال انهم سموا الثالث مناة لان دماء الذبائح تمنى عندها اي تراق. وقوله (الثالثة) صفة لها وكذلك قوله (الاخرى) والمراد الاخيرة في الذكر قيل وفي ذلك تحقير لها مع انها كانت اعظم عندهم.
والمفعول الثاني لقوله (أرأيتم) ما يدل عليه ما بعده من الآيات من استنكار توصيف الملائكة بالانوثية واعتبارهم اولادا لله تعالى وعبادتهم للاصنام واعتقادهم بتاثيرها وغير ذلك. ويمكن أن تكون الرؤية للاستخبار وطرح الشيء ليخبر عنه او يستفهم اي هو بمعنى (أروني) او (أخبروني) ومثله كثير في القرآن كقوله تعالى (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ)[1] وما بعدها.
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى... الهمزة للاستنكار ومناسبته لما سبق انهم كانوا يرون الاصنام اناثا لانها تمثل الملائكة عندهم ويعتقدون ان الملائكة بنات الله جل وعلا. وقد تكرر هذا الاستنكار في القرآن الكريم ومنها ما مر في سورة الطور (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ)[2] ويستند هذا الاستنكار ــ كما قلنا هناك ــ على الجدل فهو يعترض عليهم بمقتضى افكارهم من ترجيح الذكور على الاناث ومن شعورهم بالاحتقار اذا رزقوا بالبنات بحيث يظل الوجه مسودا وهو حائر أيمسكه على هون ام يدسه في التراب؟! فيقال لهم: كيف تنسبون البنات الى الله تعالى ولا ترضون لانفسكم الا بالبنين؟! والمفروض انه تعالى بيده كل شيء فلماذا اختار لنفسه البنات؟! وهذا تسفيه لمعتقدهم حسب اصولهم.
تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى... اي جائرة من الضيز ــ بالفتح ــ وهو الضيم والجور اي ان هذه القسمة بينكم وبين ربكم قسمة جائرة وقوله (اذا) اي على مبناكم واعتقادكم وكل ذلك باطل في باطل فالله تعالى لا يمكن ان يكون له ولد ولا يحتاج الى مساعد ليتخذ من عباده اولادا والملائكة ليسوا كالبشر والحيوانات فيوصفوا بالانوثة اوالذكورة ولكن لو فرض كل ذلك فان هذا التقسيم جائر.
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ... ضمير (هي) يعود الى الاصنام المذكورة او الى مطلق الاصنام والمعنى أن هذه أسماء ليست لها مسميات واقعية فكل ما تعبدونه ليس الا خشبا او حجرا او شجرا او كوكبا او غير ذلك واما هذه العناوين (اللات، العزى، مناة) وغير ذلك فهي اسماء لا يعادلها مسمى خاص له خصوصية وليس معنى ذلك انها ليست اسماء لاشياء خاصة بعينها فانه خلاف الواقع بل المراد انها لا خصوصية لها من بين سائر الاحجار والاخشاب فالتسمية الموروثة من الآباء ليست على اساس امر واقعي بل وهمي.
ومثل هذه الآية قوله تعالى (أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ..)[3] فقد عبر هنا عن نفس الاصنام بالاسماء بمعنى انها لا تحكي عن مسميات واقعية. وكذلك قوله تعالى (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ..).[4]
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ... السلطان مصدر بمعنى السلطة والمراد به ما يوجب الغلبة على الخصم وهو الحجة والبرهان والدليل القاطع فيمكن أن يكون المنفي الانزال التشريعي فهو بمعنى أن الله تعالى لم ينزل آية من السماء تجيز عبادة الاصنام او تدل على أن لها تأثيرا في الكون. ويمكن أن يكون تكوينيا بمعنى أنه ليس هناك في الواقع ما يقتضي خصوصية لهذه الاخشاب والاحجار فما تدّعونه لها ليس الا من صنع الوهم ومتابعة الاهواء. والثاني أظهر. و(من) زائدة لتأكيد نفي ادنى شيء من الحجة.
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى... ليس معنى الظن الاحتمال الراجح كما قيل بل الاعتقاد الحاصل من بعض الشواهد من دون استناد الى حس او دليل قطعي وان اوجب الاطمئنان. ويقابله العلم المستند الى الحس او الدليل القطعي فهذه الجملة تكمل الجملة السابقة اي انهم لا يتبعون سلطانا وبرهانا بل يتبعون اوهاما وخرافات موروثة حتى لو حصل لهم اعتقاد راجح كما هو الحال في الغالب.
والهوى الميل الى الشيء مأخوذ من الهُوِيّ وهو بمعنى السقوط ولعل الوجه فيه ان ميول النفس تهوي بالانسان الى المهالك ومعنى الآية انهم بعبادتهم للاصنام يتبعون ما تميل اليه أنفسهم ولعل المراد به أنهم يمنون أنفسهم بشفاعة الأصنام ليتسنى لهم العمل بما يحبون مما يعلمون بضمائرهم أنها أعمال خاطئة.
وهكذا الانسان يحاول بشتى الطرق تبرير موقفه بالاماني الكاذبة ومنها شفاعة الشفعاء وينبغي أن نكون نحن ايضا على حذر من أمرنا حتى لا نقع في فخّ الشيطان ولا في خداع النفس فنخدع أنفسنا بالاماني فشفاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والائمة عليهم السلام وان كانت قطعية الا ان لها شروطا لعلنا نفقدها فلا يغرّنّـنا الشيطان بهذه الاماني كما غرّ اولئك بشفاعة ما لا شفاعة له.
وقوله (ولقد جاءهم..) جملة حالية اي انهم يتبعون الظن والاهواء مع انهم قد جاءهم الهدى من الله تعالى فاتّباعهم للهوى قبل الرسالة ليس مستغربا ولكنهم يتبعون الاهواء بعد ان جاءهم الهدى من ربّهم الذي أرسله لتربيتهم ولذلك أتى بفعل المضارع (يتبعون) للدلالة على استمرار غوايتهم والمراد بالهدى القرآن الكريم والرسالة التي جاءهم بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى... وهذا تعقيب للامنية الكاذبة التي جعلتهم يلجأون الى الاستشفاع بالاصنام ليهنأوا بمتابعة الاهواء وهو استفهام انكاري اي لا يتمكن الانسان من بلوغ كل ما يتمنى ولا أحد يلجأ الى احلام اليقظة الا الاطفال والاغبياء من الناس.
والجملة التالية تعليل للنفي المستفاد من الاستفهام فالانسان لا يبلغ ما يتمناه لانه ليس بيده شيء بل الامر كله لله والمراد بالاولى الحياة الدنيا وحاصل المعنى أنه لا فرق بين العوالم من حيث الاستناد الى الله تعالى وأن كل شيء ملك له لا يتحكم فيه الا هو. والسبب في هذا التنبيه أن البشر كثيرا ما يتوهم أن الله تعالى هو الحاكم في الآخرة وأما عالم الطبيعة فالامور فيه تجري وفق القوانين والنظم الطبيعية ولا دخل لارادة الله فيها والقرآن يصرّ على تنبيه الانسان على خطئه في معرفة الله تعالى.
والنتيجة أن الانسان يجب أن يلجأ الى ربه ويطلب منه العون حتى في دنياه فلا يغـرّنّ البشر ما توصّل اليه بعلمه فانّ ذلك لا يوصله الى كلّ أمانيه بل يلاحظ أن العلم اليوم هو أساس الشقاء والبؤس لمستقبل البشرية بما تسبب فيه من الكوارث البيئية وغيرها.
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى... تعقيب ايضا على تصورهم الخاطئ في الاستشفاع بالاصنام على انها تماثيل للملائكة مع أن ذلك لا أساس له وهي ليست الا أسماء لا تعبر عن أمور واقعية الا أنه حتى لو فرض كونها معبرة عن الملائكة فالملائكة ايضا لا تجوز عبادتهم على أساس أنهم هم المدبرون للكون وأنهم شفعاء ووسطاء بين الله وخلقه لأن الشفاعة لا تكون الا باذنه تعالى فالعبادة والدعاء وطلب الحاجة استقلالا انما يصح منه تعالى لانه هو المؤثر في الكون لا غيره والملائكة مع أنهم وسطاء وشفعاء في التدبير ولكنهم حتى في شفاعتهم لا يستقلون بل بأمره يعملون ويشفعون فالمرجع الاول والاخير هو الله تعالى.
وقوله تعالى (في السماوات) للتنبيه على علو مقام الملائكة وانه لا معنى للمقارنة بينهم وبين الاصنام فالملائكة في السماوات العلى اي في مقام رفيع بعيد عن ملابسات المادة ومع ذلك فان شفاعتهم لا تغني شيئا الا باذنه تعالى. والاغناء بمعنى الكفاية اي لا تنفع شفاعتهم شيئا ولا يعني ذلك انهم يشفعون ولكن شفاعتهم لا تنفع فانهم لا يشفعون قبل اذنه كما قال تعالى (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى).[5]
والشفاعة من الشفع والاصل فيه الزيادة ومنه ضمّ شيء الى شيء فمن تجعله شفيعا عند من بيده الامر لتصل الى بغيتك كأنك تضمّ قربه لدى الرجل الى حاجتك وتشفعه بها ليلبي طلبك. وشفاعة الملائكة لیست من هذا القبیل بل هم شفعاء ووسطاء بين الله وخلقه بمعنى أن التدبير الالهي ينتقل الى كل أجزاء الكون بوساطتهم ولكنهم لا يتوسطون ولا يطلبون شيئا من الله تعالى ابتداءا وانما ينتظرون اوامره لينفذوها فشفاعتهم لا تغني اي لا تنفع الا بعد اذنه تعالى.
ولعل أوضح آية تبين عدم استقلالهم في الشفاعة قوله تعالى (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)[6] على ما فسره به العلامة الطباطبائي رحمه الله تعالى وهو الصحيح كما مر في موضعه. وحاصله أن الملائكة لا يبدأون بشيء وانما ينتظرون أمر الله تعالى في التكوين وهم في حالة فزع ورهبة وخوف من الله تعالى حتى اذا ازيل الفزع عنهم بورود الامر منه تعالى قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وباشروا بامتثال الامر.
و(كم) للتكثير اي هناك كثير من الملائكة شفعاء بين الله تعالى وخلقه في التكوين ولكن لا يشفعون الا بعد اذنه تعالى. و(في السماوات) صفة للملائكة و(لا تغني شفاعتهم) خبر عنهم. وتوهم بعض المفسرين أن مقتضى منطوق الجملة أن هناك كثيرا منهم لا تغني شفاعتهم الا باذنه تعالى ويفهم منه أن هناك قليلا منهم لا تتوقف شفاعته على اذنه وهو باطل قطعا فاضطر الى القول بأن (كم) هنا للتعميم لا للتكثير. وهذا التوهم لا اساس له بل التكثير للملائكة الشفعاء وهم بأجمعهم لا تنفع ولا تغني شفاعتهم الا بعد الاذن والرضا من الله تعالى فلا حاجة الى تأويل.
والاذن والرضا وان افترقا فقد يأذن الانسان استجابة لضغوط من دون رضا النفس وقد يرضى بأمر قلبا ولا يأذن به لمصلحة ولكنهما اذا اُسندا الى الله تعالى يُعبّران عن أمر واحد كما هو واضح اذ لا يتصور في حقه تعالى حالة نفسية نعبر عنه بالرضا فكل ما يعبر عنه بالرضا ليس الا ما أذن فيه وانما عبر بهما لتوازن اللفظ وتعادل اواخر الآيات.
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى... عود الى خرافة الاعتقاد بانوثة الملائكة للرد عليهم من جهة عدم الاستناد الى حجة بعد ما ورد من النقض عليهم بانه تقسيم جائر. والمراد بالذين لا يؤمنون بالآخرة المشركون في الجزيرة العربية وقد تكرر التعبير عنهم بذلك في الكتاب العزيز كما في سورة الانعام: 150 والنحل: 22و60 والاسراء: 10و45 وغيرها وانما عبر عنهم بذلك تنديدا بهذه الصفة لان انكارهم للآخرة وكفرهم بها مع أنهم يعترفون بالله تعالى وبأنه خالق السماوات والارض أمر مستغرب ومستنكر جدا اذ يستلزم عدم الحكمة في الخلق.
وقيل ان التعبير به هنا للاشارة الى أن الاعتقاد بانوثة الملائكة من الفظاعة والشناعة بمنزلة انكار الآخرة او أنه معلول له لان من يعتقد بها يستعظم الحكم على الامور الغيبية التي لا سبيل الى معرفتها خوفا من العقاب فمن يسميهم بذلك لا يؤمن بالآخرة ولا تنافي بين الوجهين.
وقوله (تسمية الانثى) مفعول مطلق مبين للنوع لقوله (ليسمّون) والتسمية بمعنى جعل العلامة والسمة اي يعبرون عن الملائكة تعابير تنبئ عن اعتقادهم بانوثة الملائكة ومن ذلك تسميتهم للاصنام التي يعتقدون انها تمثل الملائكة بأسام أنثوية كما مر. وأتى بكلمة الانثى مفردة مع ان الملائكة جمع لان المعنى يسمون كل ملك منهم تسمية الانثى كما في الكشاف ولعل الاولى ان يقال ان (الانثى) اسم جنس فيكون المعنى يسمونهم تسمية الاناث.
ولعل بعض الناس يستغرب من اهتمام القرآن بهذا الامر وتكراره له وكذلك اهتمام الانبياء ورسالات السماء طيلة القرون بذلك ولكن السبب ان من اولويات الدين تثقيف الناس وتعليمهم حقائق الغيب نوعا مّا فمن الامور المغيبة عنهم حقيقة الملائكة وهم يسمعون عنهم كثيرا دون ان يعرفوا عنهم شيئا ونجد التعرض لهم في الكلمات المنقولة عن الامم السالفة كما قال تعالى في حكاية كلام قوم نوح عليه السلام (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ)[7] ونقلا عن نساء مصر (مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)[8] وجاء عن لسان فرعون تعريضا بسيدنا موسى عليه السلام (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ)[9] ورسالة السماء تبين للناس ان الملائكة عليهم السلام ليسوا كالبشر والحيوانات حتى يكون فيهم ذكر وانثى وتحاول حسب افهام الناس القاصرة تعريفهم بهذه الحقائق البعيدة عن اذهانهم وتنبيههم على عدم محاولة تطبيق ما يجدونه في الطبيعة على حقائق الغيب.
وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ... الضمير في (به) يعود الى كون الملائكة اناثا المفهوم من قوله في الآية السابقة (ليسمّون الملائكة تسمية الانثى) و(من) للتأكيد على انهم ليس لهم علم بذلك ولو جزئيا. ومن اين لهم العلم به وحقيقة الملك امر غيبي؟! مضافا الى أن العقل والمنطق يرفضان هذا التفكير الساذج اذ لا يمكن ان يكون لله ولد (تعالى الله عن ذلك) ولا يتخذ ولدا لعدم حاجته والملائكة ليسوا مما فيه المذكر والمؤنث مع انه لا وجه لترجيح الانوثة لو فرض الاتخاذ.
والمراد بالظن كما قلنا هو الاعتقاد المستند الى الاوهام والخرافات وليس بمعنى الاعتقاد الراجح كما اصطلح عليه في المنطق. وهذا من موارد حمل اللغة على الاصطلاح العلمي وهو من موارد ابتلاء العلماء في حقول شتى.
وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا... الحق هو الواقع الثابت في الكون ولا يمكن الوصول اليه الا عن طريق المعرفة والعلم ولا شك أن الخرافات والعقائد الساذجة غير المستندة الى دراسة وبحث لا يمكن أن تكشف عن الواقع بل تُضِلّ الانسان وتغويه سواء في ما يتعلق بالحياة الدنيا أم الآخرة بل هي بالنسبة لما وراء ظواهر الحياة الدنيا من حقائق الكون أبعد عن الواقع لانها من الغيب الذي لا يصل اليه الانسان بالطرق المتعارفة للدراسة والبحث فكيف بالاوهام والخرافات فلا بد فيها من الاستضاءة بما بعثه الله تعالى من الهدايات بل لابد فيها ايضا من تجلية النفس وتصفيتها من الرذائل لتتمكن من استيعاب تلك الحقائق.
[1] الواقعة: 58
[2] الطور: 39
[3] الاعراف: 71
[4] يوسف: 40
[5] الانبياء: 28
[6] سبأ: 23
[7] المؤمنون: 24
[8] يوسف: 31
[9] الزخرف: 53