أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى... يبدأ من هنا التنديد بمن يمتنع من الانفاق في سبيل الله او يقلل منه لعدم ايمانه بالآخرة او ضعف ايمانه. والمراد بقوله (افرايت) فرض موضوع ليحكم عليه بحكم كما تقول لاحد ارايت فلانا الذي فعل كذا ــ تريد ان تذكره بعلامة ليتذكره السامع ــ فانه كذا وكذا واستعمال هذا التعبير في هذا المعنى كثير في القرآن الكريم كقوله تعالى (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ..)[1] والمعروف في تفسير هذا التركيب انه بمعنى (اخبرني) وما ذكرناه اوضح.
والفاء في (افرايت) لترتب هذا السؤال والاستغراب على ما سبق من الكلام. والاستفهام في قوله (أعنده علم الغيب) للتعجيب كما هو المعروف اذ لا يسند التعجب الى الله تعالى او لانشاء التعجب كما هو الصحيح وهذا لا يستلزم اسناد حالة التعجب اليه تعالى بل يعني أن هذا أمر عجيب في نفسه.
والتولي ــ كما مر ــ هو الاعراض والظاهر ان المراد به هنا هو نفس التولي في قوله تعالى (فاعرض عن من تولى عن ذكرنا..) وقوله (واعطى قليلا) اي واعطى قليلا من المال للفقراء او في سبيل الله. والاكداء المنع والقطع. والاصل في الكدي الصلابة. والكُدية: الارض الصلبة. يقال حفر فأكدى اذا وصل الى ما لا يمكن حفره. فالمراد انه اعطى قليلا من المال ثم امتنع كالحجر.
وهذا الامتناع ينبع من نفس ما مر هناك من انه لا يريد الا الحياة الدنيا ولا يختص الامر بالكفار والمشركين فان التولي كما يصدق مع الاعراض عن الايمان بالله تعالى واليوم الآخر يصدق ايضا مع الاعراض عن بعض ما يأمره به ربه كما هو الحال في كثير ممن هو حسب الظاهر من المؤمنين. بل هذا العنوان اقرب الى المسلم لان الكافر لا يطلب منه الاعطاء ولا يقبل منه عمل سواء كان قليلا ام كثيرا بل المطلوب منه اولا الايمان.
وقوله (أعنده علم الغيب فهو يرى) اي يرى المستقبل. ومن هنا يبدأ الاستغراب فان تركه للانفاق ليس الا من اجل مستقبله في الدنيا مع أنه لا يعلم الغيب فلا يعلم الى متى سيعمر. وهذا امر غريب حقا وهو أغرب اذا صدر من الذين يؤمنون بالآخرة حيث نجد أكثر همهم في الدنيا والانسان كلما طال به العمر واقترب من الموت زاد بخلا وطمعا وكأنه يطمع في الخلود حتى ان بعضهم ليس له ذرية او ليست الذرية بحاجة الى ماله ومع ذلك تجده على حافة الموت يمتنع من الانفاق في سبيل الله تعالى وغاية ما يفعل أن يوصي بثلث أمواله تصرف في ما بعده. وقل من يُعمل بوصيته.
وقيل ان المراد بعلم الغيب علمه بالآخرة وأن العذاب هناك هل يمكن ان يتحمله أحد باعطاء المال ام لا بناءا على صحة ما ورد من القصص في شأن نزول الآيات. والصحيح كما في الميزان أن هذا الامر مذكور في قوله تعالى (ألا تزر وازرة وزر اخرى) فالاولى تفسير هذه الجملة بما مر.
وقد وقع البحث في شأن نزول الآيات فقال في الكشاف (روي أن عثمان كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد اللّه بن سعد بن أبى سرح وهو أخوه من الرضاعة: يوشك أن لا يبقى لك شيء فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا وإني أطلب بما أصنع رضا اللّه تعالى وأرجو عفوه فقال عبد اللّه: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء. فنزلت. ومعنى تَوَلَّى ترك المركز يوم أحد فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل). ونسبه في مجمع البيان الى ابن عباس والسدي والكلبي وجماعة من المفسرين.
واعترض عليه بعضهم بأن عثمان منزه عن ذلك وعن هذه النظرة الى يوم القيامة وأنه كان يتبرع بماله ولا يمنعه شيء عن ذلك. ولكن لا وجه للاعتراض بناءا على أن السورة مكية فمثل هذه المفاهيم لم يعلم بها الاصحاب الا عن طريق الآيات القرآنية. نعم يبعد ذلك من جهة أن ترك عثمان لمركزه يوم أحد في المدينة والسورة مكية.
وفي المجمع وغيره ايضا انها نزلت في الوليد بن المغيرة وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على دينه فعيّره بعض المشركين وقالوا تركت دين الأشياخ وضلّلتهم وزعمت أنهم في النار قال إني خشيت عذاب الله فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله ففعل فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ثم بخل ومنعه تمام ما ضمن له فنزلت.. ولكن لم ينقل في التاريخ أن الوليد آمن بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم طرفة عين!!!
وقيل نزلت في العاص بن وائل في قصة مشابهة وقيل في ابي جهل وقيل غير ذلك كل ذلك في قصص يبدو عليها باجمعها الاختلاق والضعف مضافا الى أن اصل فكرة دفع المال لتحمل عذاب الآخرة ليس مما يمكن اسناده الى عاقل خصوصا اذا كان ذلك باقتراح من الشخص نفسه فالظاهر أن بعضهم لم يظهر له معنى الآيات واضحا ومتناسقا خصوصا في قوله تعالى (ألا تزر وازرة وزر اخرى) فاضطر الى اختلاق هذه القصص.
ثم ان ظاهر قوله تعالى (واعطى قليلا وأكدى) تأنيبه على الاكداء والمنع وعلى قلة العطاء مع أن مقتضى هذه القصص أن يؤنَّب على اصل الاعطاء من اجل تحمل عذاب الآخرة كما قالوا. بل يعتبر هذه الجملة على هذه القصص زائدة لا دخل لها في الذم وانما الذم على تصور أن أحدا يمكنه تحمل العذاب من غيره.
والصحيح أن الآيات لا تختص بمورد وأن المراد بها إما هو من أعرض عن الايمان بالله فيكون خاصا بالمشركين او عن امتثال أوامره تعالى وترك الانفاق الا قليلا فلا يختص بهم بل يشمل من كان كذلك من المؤمنين وهو الاولى كما انه لا يختص التنديد والاستغراب بمن يبخل نهائيا ولا ينفق في سبيل الله شيئا بل يشمل من يقل منه الانفاق ويتبين بما ذكرنا أن محط الاهتمام في الآية هو التنديد بالامتناع من الانفاق في سبيل الله تعالى وهذا الصق بمن امن في الظاهر. وسيأتي البحث عن تناسق الآيات وتناسبها.
وربما يستبعد ما ذكرناه من التعميم بأن النفاق لم يكن في مكة والسورة مكية والمؤمنون فيها كانوا في غاية الاخلاص.
ولكنه غير صحيح كما ذكرناه مرارا فهناك آيات عديدة تدل على وجود النفاق في مكة ومنها ما يقبله النافون في مواضع اخرى ويغفلون عما التزموا به في موضعه منها قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ)[2] ومنها قوله تعالى (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ)[3] ومنها قوله تعالى (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ)[4] ومنها قوله تعالى (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا..).[5] على ما اوضحنا ذلك في تفسير هذه الآيات وهي باجمعها نازلة في مكة.
وطبيعة الحال تقتضي ان يبدأ النفاق من مكة فان القوم كانوا يعرفون الرسول صلى الله عليه واله وسلم ويعرفون قدره وشأنه بل يعلمون بأنه سيكون رسولا وقد سمعوا اخباره من علماء اهل الكتاب وراوا معجزاته واياته ومنها استسقاء جده عبدالمطلب عليه السلام به فعدم ايمانهم به لم يكن من عدم قناعة بل بغضا وحقدا وحسدا ولذلك فطبيعة الحال تقتضي ان لا يكتفوا بمحاربته بل يدسوا بين صفوف المؤمنين من يمكر به وبدينه وهكذا فعلوا وكان هدفهم الاول القضاء عليه ثم القضاء على دينه ان لم يتمكنوا منه ثم تحريف حقائق دينه مهما امكن والظاهر انهم عن طريق النفاق بلغوا بعض ما ارادوا ولذلك لا نجد في تاريخ الاسلام بعد وفاته صلى الله عليه واله وسلم اثرا ظاهرا للمنافقين المعروفين بل هدأت ثورتهم وخمدت نيرانهم وهو امر مستغرب جدا فان المتوقع منهم ان ينتهزوا فرصة وفاته صلى الله عليه واله وسلم وغيابه في قيادة المجتمع ليعيثوا في الارض فسادا فما لهم سكتوا بل كأنّهم ذابوا وغاروا في الارض؟؟!!
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى... الغرض من هذه المقدمة التنبيه على أن الحقائق المتعلقة باليوم الآخر ليست غريبة على أفكار القوم فهي مذكورة في الصحف السماوية السابقة وهم قد سمعوا بها وتناولتها ثقافة البشر وتداولتها الحكماء والعلماء من كل قوم والمراد بصحف موسى عليه السلام التوراة وانما عبر عنها بالصحف لانها كانت بصورة مجموعات مدونة على الالواح كما ورد في قوله تعالى (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ).[6]
ولعل تقديم ذكر موسى عليه السلام من جهة أن كتابه كان موجودا بين ظهرانيهم ويقال ان في احد اسفارها ورد أن الابن لا يتحمل وزر ابيه وكذلك العكس. ولعل ذكر ابراهيم عليه السلام من بين الرسل من جهة أنهم كانوا يتباهون بأنهم من ذريته بل يدّعون أنهم على سنته ومن أتباعه. ولعل توصيفه بالتوفية ــ مضافا الى رعاية قوافي الآيات ــ للتنبيه على أنه عليه السلام كان يبالغ في أداء الحق فيوفّي كل شيء حقه كاملا ومن ذلك بذله للمال وانفاقه في سبيل الله. وللمفسرين في ذلك اقوال غريبة.
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى... (أن) مخففة من مثقلة واسمه ضمير الشأن المقدر والوازرة صفة للنفس وهي مقدرة ايضا اي لا تزر نفس وازرة وزر نفس اخرى والوزر الثقل وهو كناية عما يرتكبه الانسان من آثام ولا يقصد بالوازرة خصوص النفس الآثمة بل المراد النفس بقول مطلق وانما أطلق عليها الآثمة باعتبار انها تتحمل المسؤولية. فبناءا على ما أوردوه من قصص في شأن النزول ــ كما مر ــ يكون المعنى واضحا حيث ان الانسان المذكور توهم أن بامكانه التخلص من آثامه بدفع المال والآية ترد عليه بأن اثم كل انسان يحمل عليه ولا يحمله غيره.
ومن هنا يتبين أن السبب في جعل هذه القصص هو توهم أن هذه الآية لا تناسب الموضوع المذكور فيها وهو (الذي تولى واعطى قليلا واكدى) حيث إنه لم يرد في قيوده ما يدل على أنه توهم أن وزره يتحمله غيره فاضطروا الى اختلاق هذه القصص ليقولوا انها واردة في قضية خاصة كان شأنها ذلك. ومثل هذا الجعل كثير في الروايات الواردة في شأن نزول الآيات.
واما بناءا على ما ذكرناه فالمراد تنبيه الانسان بوجه عام أن اثمه لا يتحمله غيره دفعا لتوهم أكثر الناس أن اثم الاتباع على المتبوعين والاسياد والائمة والمشايخ والملوك والعظماء بل والآباء والاسلاف فهذه طبيعة الانسان يبحث عن من يمكنه أن يلقي عليه اثمه بل هو في الواقع يبحث عن أي عذر يبرر له الوصول الى أهوائه فيحاول بشتى الوجوه الضعيفة والسخيفة أن يوجه ما يرتكبه من اثم حتى لو كانت جريمة واضحة كما قال تعالى (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ).[7] والوزر المذكور في موضوع الآيات هو التولي والاعراض عن الايمان بالله تعالى او امتثال أوامره كما مر والامتناع من الانفاق في سبيل الله تعالى.
فالآية الكريمة تنبه على أن كل انسان يتحمل وزره ولا يمكنه ان يلقي وزره على غيره. وكانت فكرة تحمل الخطايا موجودة في اوهامهم كما هي موجودة في اوهام غيرهم حتى العامة من المسلمين وكما يعتقد النصارى أن الله تعالى بعث المسيح عليه السلام ليقتل ويصلب ليغفر الله تعالى به آثام اتباعه وبذلك فهم لا يؤاخذون بما يرتكبونه. تبا لها من عقيدة زائفة!! ومن المسلمين ايضا من يعتقد جواز أن يُتّـبع رجل الدين متابعة عمياء وأن عليه الوزر في كل ما يعملون وهو ايضا معتقد خاطئ.
ويلاحظ بالمناسبة أن هناك روايات تدل على أن الانسان اذا وقع عليه ظلم من أحد ولو من جهة اغتيابه فان الله تعالى يسجل في صحيفة اعمال المظلوم بعض اعمال الظالم ان كانت له حسنات وان لم تكن له حسنة سجّل بعض معاصي المظلوم في صحيفة الظالم فيستغرب الظالم يوم القيامة مما يجده في صحيفته ولم يعمله فيخبره الله تعالى أنه من فلان الذي ظلمته كتب في صحيفتك ومحي عن صحيفته. ولعله يظهر من هذه الآية ما ينافي صحة هذه الروايات ان لم يكن لها تأويل والله العالم.
وينبغي أن يعلم أن هذا لا ينافي ما ورد في الكتاب العزيز والروايات الكثيرة أن من سنّ سنة سيّئة فعليه وزر من عمل بها الى يوم القيامة كما يفهم ذلك من قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)[8] فان الاثقال التي يحملها الذين كفروا مع أثقالهم هو أثقال الذين يتبعونهم ويضلّون بسببهم وان كان العمل منهم الا ان تضليل الآخرين يسبب أن يكون اعماله وزرا على عاتق المضل ايضا قال تعالى (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ).[9]
والروايات في ذلك عن طرق الفريقين كثيرة نكتفي بواحدة منها فقد روى الصدوق بسند معتبر عن الامام الباقر عليه السلام (أيّما عبد من عباد الله سنّ سنّة هدىً كان له أجر مثل أجر من عمل بذلك من غير أن ينقص من اجورهم شيء وأيّما عبد من عباد الله سنّ سنّة ضلال كان عليه وزر من فعل ذلك من غير أن ينقص من أوزارهم شيء).[10]
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى... السعي: المشي السريع. وهو هنا كناية عن بذل الجهد للوصول الى هدف. وهذا هو الامر الثاني مما نبهت عليه الكتب السماوية من الاصول الثابتة. وهو أن الانسان لا يكسب شيئا يوم القيامة الا ما كان له فيه سعي وجهد. و(ما) بناءا على هذا موصولة اي ما سعى فيه وهو ذات العمل. ويحتمل ان تكون (ما) مصدرية اي ليس له الا سعيه فالمعنى أن الذي يجده الانسان يوم القيامة هو نفس الجهد الذي بذله لا نتيجته وهي العمل فربما يسعى الانسان للوصول الى خير او شر ولا يصل اليه فهو يجد هناك سعيه وجهده.
ومهما كان فهذه الآية ايضا تنافي ما ورد في الروايات المذكورة آنفا من تسجيل اعمال الظالم في صحيفة المظلوم كما تنفي ايضا ما يمنّي الانسان نفسه من الفوز يوم القيامة لانتسابه الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بولادة او مصاهرة او الى سائر الانبياء عليهم السلام كما توهم بنو اسرائيل بل ربما يتوهم أن صحبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كافية للفوز بل يكفي ان يكون الانسان من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم او غيره من الرسل عليهم السلام كما ادعى بنو اسرائيل أنهم شعب الله المختار الى غير ذلك من الاماني والاوهام فان هذا الاصل الذي ورد في كتب السماء تنفي كل ذلك وتقرر أن الانسان لا يكتسب يوم القيامة الا ما سعى فيه.
واللام في قوله تعالى (للانسان) يفيد نوعا من التعلق والمراد به هنا ما يملكه الانسان ملكية حقيقية لا ترتبط بالاعتبارات من قبيل الملكية المتعارفة في هذه الحياة فان هذه الاعتبارات خاصة بالحياة الاجتماعية في الدنيا ولكن العمل يعتبر كجزء للانسان لا ينفصل عنه اينما ذهب.
ولكن هناك اشكال على مفاد هذه الآية فقد ثبت في الشرع في عدة موارد أن الانسان يثاب بعمل غيره كمن يستناب له في الحج والصلاة وسائر العبادات، او يستغفر له، او يتلى له القرآن، ومن يكون له من بعده ولد صالح يعبد الله تعالى فيثاب الاب بعمل ولده، ومن يبقي بعده ما يكون صدقة جارية، ومن يسنّ سنة حسنة حيث ان له اجر من عمل بها. وكذا ما ثبت بالكتاب والسنة من أن الانسان تنفعه الشفاعة. وقد مر في تفسير قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)[11] أن الله تعالى يدخل الجنة اكراما للمؤمن والديه وزوجه واولاده المؤمنين وكل هذا من موارد الثواب من دون عمل.
والجواب أن مقتضى هذه الآية أن الانسان لا يملك شيئا الا عمله فلا يستحق ثوابا من غير عمل وهذا لا ينافي أن الله تعالى بفضله يمنّ على بعض عباده بما لا يستحقه بالعمل بل الآيات صريحة في أن المحسن لا يجزى بمقدار عمله بل يجزى أضعافا مضاعفة (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[12] كل ذلك بفضله ومنّه تعالى بل الواقع أن ما يعبر عنه بالاستحقاق ليس الا ما جعله الله تعالى جزاءا للانسان بفضله وكرمه والعبد لا يستحق على الله شيئا.
وأجاب عنه في الميزان بأن ما يحصل للانسان في هذه الموارد نتيجة عمله ايضا قال رحمه الله: (وأما الانتفاع من شفاعة الشفعاء يوم القيامة لأهل الكبائر فلهم في ذلك سعي جميل حيث دخلوا في حضيرة الإيمان بالله وآياته وكذا استفادة المؤمن بعد موته من استغفار المؤمنين له والأعمال الصالحة التي تهدى إليه مثوباتها هي مرتبطة بسعيه في الدخول في زمرة المؤمنين وتكثير سوادهم وتأييد إيمانهم الذي من آثاره ما يأتون به من الأعمال الصالحة وكذا من سن سنة حسنة فله ثوابها وثواب من عمل بها).
وهذا لا بأس به بالنسبة لمن سن سنة حسنة لان لتسنينه السنة الحسنة تأثيرا في عمل من بعده وكذا في الصدقة الجارية واما استغفار المؤمنين والاعمال التي تهدى له فيبعد استثناؤها بمجرد دخوله في زمرتهم فان ذلك لا يوجب استناد العمل اليه وكذلك الشفاعة فان الثواب الذي يحصل للانسان بالشفاعة لا علاقة له بدخوله في زمرة المؤمنين وان كان ذلك شرطا في شمول الشفاعة له بل حتى في المورد الاول ايضا ليس له الا ثواب التسنين بالذات واما ثواب من عمل بها فلا يستحقه وانما يؤتاه بفضل من الله تعالى وفي الصدقة الجارية ليس له الا ثواب بناء المسجد مثلا واما استخدامه بعد موته فلا يستند اليه.
وهناك اجوبة اخرى ضعيفة بل بعضها سخيفة فذهب بعضهم الى ان الآية منسوخة بالاخبار الواردة في هذا الباب وبعضهم الى تخصيصها بالاخبار المذكورة مع أن سياق الآية يقتضي أن هذا الحكم من الاصول الثابتة في الشرائع مما لا يمكن تخصيصه فكيف بالنسخ. وذهب بعضهم الى أن ذلك من خصائص الامم السابقة ولا يشمل الامة المرحومة مع أن الآية تخاطب هذه الامة وتنبه على أن هذا اصل في شرع الله تعالى وأن الحكم عام للانسان وقال بعضهم ان المراد بالانسان الكافر وبعضهم قال ان اللام بمعنى على!!.
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى... اي سوف يشاهد ما سعى فيه وهو عمله يوم القيامة كما قال تعالى (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا..)[13] وظاهر التعبير اي البناء للمجهول يفيد أن هناك من يراه غيره ايضا فربما يراد به الملائكة او شهداء الاعمال او غيرهم من عامة الناس ايضا والمقصود أن سعيه لن يذهب سدى ولن يغيب عن الانظار حتى لو أتى به في خفاء.
والسعي يعم العمل الصالح والسيئ والآيات تصرّح أن كل أعمال الانسان تحضر وتشاهد وأنه يجزى بكلها ولكن لا يبعد بمقتضى السياق أن يكون المراد هنا خصوص العمل الصالح لقوله تعالى (وأن ليس للانسان الا ما سعى) فالذي له هو العمل الصالح واما السيئات فهي عليه.
ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى... (ثم) للتراخي ويدل على تأخر مرحلة الجزاء عن مرحلة عرض الاعمال والمحاسبة، و(يجزاه) اما ان يكون بمعنى يجزى به فالجزاء الاوفى مفعول ثان والمفعول الاول الضمير العائد الى الانسان نفسه اي يجزى الانسان بعمله الجزاء الاوفى او يكون المفعول الثاني هو الضمير المتصل في (يجزاه) العائد الى السعي اي يجزى الانسان نفس السعي والعمل، والجزاء الاوفى مفعول مطلق مبين لنوع الجزاء فهو كقوله تعالى (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ).[14] والاوفى بمعنى الاتم والاكمل فلا ينقص من عمله شيء. وهذا بالنسبة للعمل السيئ واضح لو شملته الآية واما العمل الصالح فلعل المراد بالاوفى فيه الاكمل بالنظر الى سعة فضله تعالى ولطفه لا بالنسبة الى ذات العمل فان جزاء الاحسان اضعاف العمل بفضله تعالى.
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى... وهذا ايضا مما ورد في الصحف السماوية والمنتهى مصدر بمعنى الانتهاء وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر وقد فسر المنتهى بثلاث وجوه:
الاول: أن المراد نهاية أمر الانس والجن حيث يحشرون اليه تعالى ويحاسبون فهو بمعنى قوله تعالى (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)[15] فيكون ذكر هذه الجملة بعد التأكيد على أن الانسان مجزيّ بعمله لبيان موضع الجزاء وأنه يتحقق بعد رجوعهم الى الله تعالى. ولعل في التعبير بـقوله (ربك) مع ان الجملة منقولة عن الصحف السابقة تهديدا للمناوئين للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث ان الآيات موجهة اليهم وفي ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين.
الثاني: ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله من أن المراد انتهاء كل الامور في كينونتها وبقائها وتدبير امورها اليه تعالى فهو الموجد لكل شيء والمبقي له ومدبّر جميع اموره فاليه ينتهي كل شيء. وهذا هو الظاهر من الآية بقرينة سياق الآيات التي بعدها حيث تتعرض لتدبير الامور لا لما يحصل في الآخرة فحسب وهذا المعنى يشمل المعنى الاول فان من الامور التي تنتهي اليه تعالى مصير العباد والآية تشبه في المعنى قوله تعالى (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ)[16] وقوله تعالى (أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).[17]
الثالث: ما ورد في عدة من الروايات منها ما هو معتبر عند كثير من العلماء كرواية سليمان بن خالد عن ابي عبد الله عليه السلام (في قول الله عزّ وجلّ "وأنّ الى ربك المنتهى" قال اذا انتهى الكلام الى الله عزّ وجلّ فأمسكوا)[18] ولا شك في صحة هذا المعنى في حد ذاته الا أنه بعيد عن ظاهر الآية ولكن لا يبعد أن يكون من باطن القرآن وكثيرا مّا نجد في الروايات الاستدلال بمثل ذلك من القرآن الكريم مما لا نفهمه من ظاهر اللفظ. والله العالم.
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى... من هنا يبدأ السياق ببيان بعض ما ينتهي امره اليه تعالى من باب ذكر الامثلة وكل ذلك مما ورد في الصحف. واختلف في تكرار الضمير اي قوله (هو) وانه هل هو تأكيد لاسم أنّ او هو ضمير الفصل ومهما كان فالاتيان بهذا الضمير يفيد الحصر وأن ليس غيره من يضحك ويبكي ولا ينافي ذلك وجود عوامل طبيعية او غير طبيعية لكل حادث في الكون فان المراد أن الفاعل الحقيقي الذي باذنه يتحقق كل شيء وما من حركة ولا سكون الا بارادته هو الله تعالى وهذا المعنى من شؤون الربوبية وليس فيها توسط ولا ينسب الى غيره وان نسب ذات الفعل الى غيره بمعنى آخر كما ينسب الخلق والايجاد ايضا. وانما أتى بفعل الماضي مع أن الامر مستمر لان المراد به اصل وجود الضحك والبكاء وما يثيرهما وهذا الامر مما سبق تكوينه.
ولعل البدء بذكر الضحك والبكاء واستنادهما الى الله تعالى لانهما من الامور الاعتيادية التي يغفل عادة من استنادها اليه تعالى وانما يبحث فيهما عن الدوافع الذاتية والخارجية فالآية تنبه على أن مثل ذلك ايضا ينتهي الى الله تعالى فكيف بالخلق والاحياء والاماتة؟! او المراد أن كل الحوادث المضحكة والمبكية تتحقق بتقديره تعالى فيكون التعبير كناية عن كل ما يحدث للانسان في الحياة الدنيا من الحوادث وأنه تعالى هو الذي يسعد الانسان ويفرحه بما يبعث فيه البهجة والسرور والضحك وهو الذي يبتليه بالمصائب المؤلمة مما يحزنه ويبكيه.
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا... الكلام في هذه الآية كسابقتها ولكن استناد الاحياء والاماتة اليه تعالى أوضح فلا يدّعيهما احد الا غبي كنمرود. والمراد ليس خصوص الاحياء بعد الموت وان ذكر بعده فان ذلك مذكور في قوله تعالى (وان عليه النشأة الاخرى) بل المراد كل اماتة واحياء سواء في الانسان او غيره من الحيوان او النبات.
ومسلسل الاحياء والاماتة لا ينتهي ولا يتوقف في الطبيعة كما هو واضح. والاحياء هو السابق في جميع الموارد لان الموجودات الحية قبل ان يهبها الله الحياة اجسام لا حياة فيها وان لم يطلق عليها انها اموات ولعله انما اخر هنا في الذكر لرعاية اواخر الآيات او لان الموت في الغالب مقدمة لحياة اخرى والأحياء غالبا يشغلون موضع أحياء سابقين. والاماتة مستندة الى الله تعالى حتى لو تسبب في مقدماتها سبب خارجي من قتل ونحوه مع أن تلك الاسباب ايضا تستند اليه تعالى.
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى... وهذا ايضا من شؤون الخلق والربوبية وصحف السماء تنبه على ذلك وانه لَأمر بديع وعجيب أن الله تعالى خلق الانسان واصناف الحيوان وبث فيها الحياة وجعلها باجمعها قسمين ذكرا وانثى لبقاء النسل. ومن العجيب تناسب القسمين. ولو كان ذلك عشوائيا كما يدعي المبطلون لامكن ان يبقى في صنف من الحيوان قسم واحد او يندر القسم الآخر فيفنى الصنف كله او لا يبقى منه الا القليل فمن حكمته وتدبيره تعالى جعل الزوجين من كل صنف متناسقين ابقاءا على النسل.
والنطفة: القليل من الماء. وتُمنى اي تُراق. ومنه تسمية وادي (منى) حيث تراق فيه دماء الذبائح وقيل (تمنى) اي تُقدّر فالمعنى اذا قدر للنطفة ان يخلق منها الانسان او الحيوان في اشارة الى أن تكوّن الجنين من النطفة بحاجة الى عوامل اخرى والى بيئة مناسبة. ولعل في ذكر النطفة اشارة الى ان خلق الزوجين على اختلافهما واختلاف افرادهما يتم من نطفة وماء قليل تأكيدا على عظمة الخالق حيث أودع كل هذه الاختلافات في هذه القطرة والنطفة القليلة بل في جزء صغير منها وجعلها بحيث تتناقلها الاجيال وتتوارثها نسلا بعد نسل.
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى... ومما تظافرت على تنبيهه كتب السماء الحياة الاخرى ولعل في ذكر اعادة الحياة بعد ذكر الخلق من النطفة اشارة الى أن من أودع كل هذه الاسرار في جزء غير محسوس من النطفة قادر على انشائه النشأة الاخرى بعد موته فهو أهون من هذا الخلق.
والنشأة في الاصل بمعنى الارتفاع والعلو ولذلك يعبر بها عن التربية ويقال للشاب النشء او الناشئ وفي هذا التعبير اشارة الى ان تلك الحياة ليست وجودا بعد عدم بل هي مرحلة اكمل من المرحلة السابقة تحصل بتربية الانسان حتى يبلغها. والتعبير بأن ذلك عليه تعالى لافادة أن ذلك مقدور له فهو الذي يتعهد به وهو القادر على كل شيء وليس بمعنى أن ذلك واجب عليه كما توهم مع أن الوجوب ايضا ليس بمعنى أنه تعالى مكلف به فلا يوجد من يفرض عليه امرا وليس مسؤولا عن شيء (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)[19] بل بمعنى أنه تعهد بذلك ووعد وحيث انه لا يمكن أن يتخلف عن عهده ووعده اذ لا يتخلف عن العهد الا الجاهل او العاجز فكأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه.
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى... أغناه الله اي جعل له الغنى. وأقناه اي جعل له القنية بكسر القاف وضمها. والغنى هو ما يخرج الانسان عن الفقر والحاجة الى الناس والقنية في الاصل بمعنى الملازمة والمخالطة وتطلق على ما يتخذه الانسان لنفسه من الاموال كالدار والحيوان ونحوهما مما يستأثر بها لنفسه ويلازمها فلا يبيعها ولا يؤجّرها وعليه فالفرق بين الاغناء والاقناء أن الاول يحصل باعطاء ما يكفيه بل ربما يحصل بغنى النفس وهو أعظم من غنى المال ونحن نلاحظ أن من البشر من يحتاج الى مساعدة الغير ليحصل على ما يناسب شأنه من المال والاثاث ولكنه يقنع بما لديه ويترفع عن اظهار الفقر ويلبس من الثياب ما يظهر للآخرين غناه فضلا عن عدم السؤال وذلك غنى النفس وفي نهج البلاغة (القناعة مال لا ينفد) وفيه ايضا (لا كنز اغنى من القناعة ولا مال أذهب للفاقة من الرضى بالقوت..) وفيه ايضا (وسئل عليه السلام عن قوله تعالى فلنحيينه حياة طيبة فقال القناعة). وأما القنية فتتحقق بجمع المال والاستئثار بالنفائس. وقيل: ان القنى بمعنى الرضى فان كان كذلك فيمكن أن يكون المراد بالاول غنى المال وبالثاني غنى النفس فيكون معاكسا للتأويل الاول.
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى... قيل ان هذه الجملة لا يمكن ان تكون معطوفة على ما سبق اذ لم يرد ذكر الشعرى في الكتب السابقة لان الداعي الى ذكرها عبادة العرب لها ولم تكن الاقوام السابقة تعبدها. وهذا غير صحيح لان كتب السماء باجمعها تصرّح وتؤكد على انه تعالى رب الكون بما فيه الشعرى وغيرها فهذا المعنى موجود في جميع الكتب.
والشعرى نجم مضيء جدا ويقال انها اكثر النجوم ضياءا في ما نراه ونحس به وهي أقرب النجوم المضيئة الينا بعد الشمس ومع ذلك فان نورها يصل الينا بعد حوالي تسع سنين من اشعاعه. ولمعانها ضعف لمعان الشمس 25 مرة. وكان بعض العرب يعبدونها ويعتقدون أن ما في الكون متأثر بها كما يعتقد كثير من البشر بشأن النجوم المختلفة ويقال ان المصريين القدامى ايضا كانوا يهتمون بها ويعتقدون فيها عقائد خرافية حول فيضان النيل وغير ذلك فالاهتمام بذكرها هنا للتنديد بمن يعبد المخلوق المربوب ويغفل عن رب الكون تعالى شأنه الذي هو رب الشعرى وكل ما في الكون مما تعلمون وما لا تعلمون.
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى... ومما نبهت عليه الصحف هو الاعتبار بما جرى على الاقوام السالفة كعاد وهم قوم هود عليه السلام والعرب كانوا يعرفونهم ويرون آثارهم ويتناقلون قصصهم وتوصيف القوم بالاولى باعتبارهم قبيلة وتوصيفها بكونها اولى القبائل يمكن ان يكون باعتبار قدمهم او باعتبار أن هناك قوما آخرين يسمون بعاد ممن تأخر عنهم. وقد ورد ذكر قصة عاد وما جرى عليهم في عدة مواضع من القرآن الكريم.
وأهلك الله بعدهم قوم ثمود وكانوا ايضا في الجزيرة العربية وهم قوم صالح عليه السلام. وقوله تعالى (فما أبقى) اي ما أبقى منهم أحدا والمراد الطاغون الكفرة منهم واما المؤمنون من عاد وثمود فقد نجاهم الله تعالى من العذاب كما قال في قصة قوم عاد: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا..)[20] وفي قصة ثمود: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ..).[21]
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى... عطف على عاد، وقوم نوح عليه السلام من أقدم الاقوام البشرية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم. واختلف في قوله (انهم كانوا هم اظلم واطغى) فقيل ان الضمير يعود الى قوم نوح عليه السلام وان المراد أنهم أظلم وأطغى من عاد وثمود وان الوجه في ذلك ان نوحا عليه السلام بقي فيهم مدة طويلة جدا وهي تسعمائة وخمسون عاما فلم يؤمن منهم الا قليل كما قال تعالى (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)[22] وهذا يدل على غاية طغيانهم واستكبارهم كما ورد صريحا في ما بثه عليه السلام من الشكوى في سورة نوح.
وقيل ان الضمير يعود الى الاقوام الثلاثة وهو الصحيح فان الجملة المبدوة بـ (ان) في مقام التعليل ولا وجه لتخصيصه بقوم نوح وأما توصيفهم بكونهم أظلم وأطغى فقد قيل إنهم كذلك بالنسبة الى المخاطبين وهم كفار قريش وهو غريب فان ذلك ينافي الحكمة من ذكرهم وهي التحذير من الابتلاء بما نزل عليهم فانه اذا ثبت أن العذاب انما استحقوه لكونهم أظلم وأطغى فلا موجب لخوف المخاطبين لانهم لم يبلغوا تلك المرتبة من الظلم والطغيان والمفروض أن الجملة في الآية في مقام التعليل فالظاهر أن الصيغة جردت عن معنى التفضيل وليست في ذلك مقايسة بينهم وبين غيرهم بل المراد أنهم بلغوا الغاية في الظلم والطغيان فاستحقوا العذاب والغرض ابهام الحد الموجب للعذاب وفي ذلك ايضا حكمة فانه اذا بيّن الحد الموجب له لم يحاول المخاطب الا تجنب الوصول الى ذلك الحد.
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى... الافك هو الصرف والقلب، والمؤتفكة اي المنقلبة، والمراد بها القرية المؤتفكة. وقد ورد التعبير به بصورة الجمع في قوله تعالى (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ..)[23] وقوله (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ..)[24] وفسرت بقرى قوم لوط عليه السلام حيث قلبت وهو كناية عن التدمير الكامل ويقال انها كانت ثلاث قرى متقاربة قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ)[25] ولعل الافراد هنا باعتبار الجنس وقوله (اهوى) اي اسقطها بعد قلبها كما قيل ويمكن ان يكون بمعنى الاهلاك.
فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى... الفاعل لقوله (فغشّاها) هو الله تعالى والضمير يعود الى القرية المؤتفكة وقوله (ما غشّى) مفعول ثان ومفعول (غشّى) مقدر اي غشّاها ما غشّاها. والغشاء: الغطاء وهو كناية عن الشمول للجميع كأنه غطاء جمعهم تحته والمراد به العذاب اي غطاها الله تعالى وشملها بما غطاها من العذاب بحيث لم يفلت منهم احد. ويلاحظ التهويل المستفاد من التعبير حيث عبر اولا عن شمول العذاب بالتغشية كأن العذاب القي على القرية كغطاء جامع ثم أبهم العذاب ولم يصرح به لمزيد من التهويل نظير قوله تعالى عن قوم فرعون (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ)[26] وقد ورد ذكر هذا العذاب في الآية الآنفة الذكر وفي غيرها من الآيات.
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى... المراء هو الجدال والشك. والتماري على ما قيل ينبغي ان يكون بين اثنين مع ان الآية خطاب للواحد ولكنه نزع عن هذا المعنى فصار بمعنى التشكيك ولكن لا يبعد ان يكون التفاعل هنا بمعنى التظاهر بالشك والجدال فان كثيرا من البشر يظهر الشك وهو متيقن بالحق قال تعالى (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)[27] والخطاب موجه للانسان او لكل من يسمع او يتلو الآية وقيل انه خطاب للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من باب اياك اعني واسمعي يا جارة وهو بعيد لا يناسب مقام الرسالة.
والآلاء جمع (إلى) بمعنى النعمة وربما يتساءل: ان الذي سبق في الآيات ذكر ما نزل على الامم السالفة من العذاب فكيف اعتبر نعمة؟! قال المفسرون انه يعتبر نعمة بلحاظ انه يوجب الاعتبار لمن تأخر عنهم ولكن الصحيح أن الاشارة في الآية الى النعم الالهية التي نشعر بالتنعم بها والمراد بالآية تهديد الانسان بعد نزول العذاب على من كفر بالنعم فيخاطبه: بأي آلائه تجحد وتكفر؟! ألا تخشى ان يصيبك ما اصابهم؟!
[1] الكهف: 63
[2] العنكبوت: 10- 11
[3] الحاقة: 49
[4] المعارج: 36- 38
[5] المدثر: 31
[6] الاعراف: 145
[7] القيامة: 14- 15
[8] العنكبوت: 12- 13
[9] النحل: 25
[10] ثواب الاعمال ص 132
[11] الطور: 21
[12] البقرة: 261
[13] ال عمران: 30
[14] ال عمران: 25
[15] فاطر: 18
[16] هود: 123
[17] الشورى: 53
[18] توحيد الصدوق ص456
[19] الانبياء: 23
[20] هود: 58
[21] هود: 66
[22] هود: 40
[23] التوبة: 70
[24] الحاقة: 9
[25] هود: 82
[26] طه: 78
[27] النمل: 14<