سورة النصر مدنية بلا ريب وورد في بعض الروايات انها اخر سورة نزلت وقلنا في تفسير سورة العلق انه غير صحيح وقد نزل بعدها آيات كثيرة.
واولها العلامة رحمه الله بان المراد انها اخر سورة نزلت بكاملها. وهو تأويل غير وجيه لان الرواية تقول اخر ما نزل من القران!!
ومهما كان فموضوع السورة تبشير الرسول صلى الله عليه واله وسلم وبتبعه المؤمنين بنصر كاسح وفتح كامل يستتبع دخول الناس في الاسلام افواجا.
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ...
(اذا) ظرفية قد تفيد معنى الشرط كما هنا.
وقوله نصر الله اشارة الى ان النصر ليس الا من عنده تعالى (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)[1] وكل شيء من عنده ولكن هناك من الامور ما يتوهم الانسان انه يحصل بتعبه وجهده غفلة عن ان هناك من العوامل ما لا يمكنه التغلب عليها لولا التوفيق من الله تعالى. مع ان المخلوق لا حول له ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
والحاصل ان اضافة النصر الى الله تعالى في الآية لتنبيه المؤمنين على ان لا يركنوا الى قوتهم وشوكتهم فكل شيء منه تعالى.
والمراد بالفتح فتح مكة ويقال ان السورة نزلت قبله وبعد صلح الحديبية. وهذا من الاخبار الغيبية التي وردت في القران الكريم.
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا...
المراد بدخولهم في دين الله اي في طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه واله وسلم وذلك بقبول الاسلام نظاما اجتماعيا وتسليمهم للاوامر الحكومية التي يصدرها الرسول صلى الله عليه واله وسلم وليس بمعنى ايمانهم وقبولهم للعقيدة الحقة ولذلك كان فيهم المنافقون والذين في قلوبهم مرض.
وهذا نتيجة طبيعية للنصر والفتح العظيم. فان مشركي العرب علموا بعد هذا الفتح ان ما جاء به الرسول صلى الله عليه واله وسلم حق وانه رسول من الله فآمنوا به ودخلوا في دينه.
قال في مجمع البيان (قال الحسن: لما فتح رسول الله صلى الله عليه واله وسلم مكة قالت العرب أما إذا ظفر محمد صلى الله عليه واله وسلم بأهل الحرم وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان أي طاقة فكانوا يدخلون في دين الله أفواجا أي جماعات كثيرة بعد أن كانوا يدخلون فيه واحدا واحدا أو اثنين فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام).
والافواج جمع فوج وهو الجماعة الكثيرة. والناس هكذا يتأثرون بالقوة الظاهرة وهذا ما رأيناه في زماننا ايضا بوضوح في انتصار الثورة الاسلامية المباركة في ايران وغيرها مما أنجزه العلماء ورجال الدين طيلة تاريخ الشيعة قبل الثورة وبعدها فلم نجد من اغلب الناس اقبالا عليهم لعلمهم ودينهم وتقواهم وانما خضعوا لهم لمّا رأوا القوة فيهم.
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا...
هذه الجملة جواب قوله (اذا جاء).
ويبدو ان هذا التسبيح والتحميد والاستغفار لشكره تعالى على هذه النعمة العظيمة ولكنه يفيد معنى اخر كما فهمه العباس عم الرسول صلى الله عليه واله وسلم.
قال في مجمع البيان (قال مقاتل لما نزلت هذه السورة قرأها صلى الله عليه واله وسلم على أصحابه ففرحوا واستبشروا وسمعها العباس فبكى فقال صلى الله عليه واله وسلم: ما يبكيك يا عم فقال أظن أنه قد نعيت إليك نفسك يا رسول الله فقال: إنه لكما تقول فعاش بعدها سنتين ما رؤي فيهما ضاحكا مستبشرا. قال وهذه السورة تسمى سورة التوديع وقال ابن عباس: لما نزلت إذا جاء نصر الله قال: نعيت إلي نفسي بأنها مقبوضة في هذه السنة).
ولعل الوجه في دلالة السورة على النعي أنه صلى الله عليه واله وسلم لم يؤمر في اي فتح قبل ذلك بما امر به هنا فيفهم من هذا التخصيص ان هذا اخر نشاط في هذه الرسالة الكريمة وانه صلى الله عليه واله وسلم يبلغ بذلك الغاية المطلوبة من البعثة فاُمر بالتوجه الى الله تعالى والاستعداد للقائه فهذا التسبيح والتحميد والاستغفار مقدمات اللقاء وليست كسائر ما كان يقوم به دائما من الحمد والتسبيح والاستغفار.
والباء للمصاحبة اي سبح ربك مع حمده بحيث يكون تنزيهه تعالى عما لا يليق به مصاحبا لتمجيده والثناء عليه بما اثنى به على نفسه.
والاستغفار بمعنى طلب الغفران اي الستر فان الرسول صلى الله عليه واله وسلم وان كان معصوما بل هو اكرم مخلوق لدى الله تعالى كما يظهر بوضوح من آيات سورة النجم ولكن حقه تعالى لا يمكن ان يؤديه احد بل كلما كانت النعمة اكبر واعظم كان المطلوب من الانسان شكرا وثناءا وخدمة اجل واعظم فلا يمكن لاحد مهما عظم شأنه ان يدّعي انه اتى بكل ما له تعالى من حق عليه فلا بد له من الاستغفار.
وقوله تعالى (انه كان توابا) لبيان السبب في الامر بالاستغفار فعلله بانه تعالى توّاب اي كثير الرجوع على العبد مهما ذهب العبد بعيدا. و(كان) ليس بمعنى الماضي بل بمعنى الثبوت والدوام. والتوبة: الرجوع.
ومعنى كثرة رجوعه تعالى ان العبد كثيرا ما يغفل عن ربه ويشتغل بغيره فاذا رجع اليه تعالى رجع الله اليه بلطفه وعنايته فكثرة رجوعه تعالى بكثرة ابتعاد العبد.
بل لا يرجع العبد اليه الا بسبق رجوع من الله اليه بالرحمة فتوبة العبد دائما مسبوقة بتوبة من الله تعالى وتلحقها توبة اخرى منه ايضا لقبول توبته.
وهذا في العباد الصالحين والانبياء والمرسلين وقد وصفهم الله تعالى بانهم توابون اوابون فهم يكثرون من الرجوع الى الله بعدد اشتغالهم بغيره وان لم يكن محرما ولا مكروها بل ربما كان جزءا من وظائفهم الرسالية والقيادية ولكنهم يشعرون بالغربة اذا توجهوا الى غيره تعالى حتى لو كان في سياق طاعته.
وفي الحديث أن الرسول صلى الله عليه واله وسلم كان يجلس بعد فريضة الصبح متوجها الى القبلة مناجيا ربه الى طلوع الشمس لا يرجع الى الناس ولا يواجههم مع انهم اصحابه وخواصه وانما كان يجلس امير المؤمنين عليه السلام خلفه مواجها للناس فيستأذنون في حوائجهم لئلا يمنعوه صلى الله عليه واله وسلم من الاشتغال بربه وفي الحديث انه صلى الله عليه واله وسلم امرهم بذلك.[2]
واما سائر العباد فهم يعصونه تعالى باقبح المعاصي ويتوغلون فيها ويبتعدون عن ربهم حتى ان بعضهم ييأس من قبول توبته ثم يعودون الى ربهم ولو في اواخر العمر وبعد ان ضاقت بهم السبل وفقدوا طاقاتهم وابتعدت المعاصي عنهم رغما عليهم ولم يبق لهم تلك الميول والشهوات ومع ذلك فانهم يجدون عند ربهم عطفا وشفقة وقبولا.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد واله الطاهرين
[1] ال عمران : 126
[2] راجع مستدرك الوسائل ج5 ص 59 باب تاكد استحباب الجلوس بعد الصبح