سورة النازعات سورة مكية كاكثر سور الجزء الاخير من القرآن الكريم وموضوعها يوم القيامة فتؤكد اولا على البعث والنشور وتدعو المشركين الى الاعتبار بما حدث لفرعون مصر حيث طغى ولم يؤمن بالرسالة وباليوم الآخر ثم تندد باستكبار الانسان وتعلن أخيرا أن الفائز يوم القيامة من شكر ربه ولم يتّبع هواه وأن موعد البعث مجهول لا يعلمه احد.
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا... أقسم الله تعالى ببعض خلقه وقد ذكرنا فيما سبق أن القسم من الله تعالى لتأكيد المضمون لا لإثباته كما هو واضح. والمقسم عليه محذوف يدل عليه ما يأتي بعده اي قسما بهؤلاء لتبعثن يوم ترجف الراجفة.
وقد اختلف المفسرون قديما وحديثا في المراد بهذه الاوصاف اختلافا عجيبا ونحن ننقل عن مجمع البيان بعض ذلك:
(قيل في النازعات انها الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار عن أبدانهم بالشدة كما يغرق النازع في القوس فيبلغ بها غاية المدى. وقيل هي الملائكة تنزع نفوس بني آدم. وقيل انها النجوم تنزع من أفق إلى أفق أي تطلع وتغيب او تنزع من مطالعها وتغرق في مغاربها. وقيل النازعات القسيّ تنزع بالسهم. وعلى هذا فالقسم بفاعلها وهم الغزاة المجاهدون في سبيل الله).
(وقيل في الناشطات انها الملائكة تنشط أرواح الكفار بين الجلد والأظفار حتى تخرجها من أجوافهم بالكرب والغم. والنشط: الجذب، يقال نشطت الدلو نشطا نزعته او هي الملائكة تنشط أنفس المؤمنين فتقبضها كما تنشط العقال من يد البعير إذا حل عنها. وقيل انها أنفس المؤمنين عند الموت تنشط. وقيل انها النجوم تنشط من أفق إلى أفق أي تذهب).
(وقيل في السابحات هي الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلّونها سلّا رفيقا ثم يدعونها حتى تستريح كالسابح بالشيء في الماء يرمي به. وقيل هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين وهذا كما يقال للفرس الجواد سابح إذا أسرع في جريه. وقيل هي النجوم تسبح في فلكها. وقيل هي خيل الغزاة تسبح في عدوها. وقيل هي السفن تسبح في الماء).
(وقيل في السابقات انها الملائكة لأنها سبقت ابن آدم بالخير والإيمان والعمل الصالح. وقيل إنها تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء. وقيل إنها تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة. وقيل انها أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها وقد عاينت السرور شوقا إلى رحمة الله ولقاء ثوابه وكرامته. وقيل انها النجوم يسبق بعضها بعضا في السير. وقيل انها الخيل يسبق بعضها بعضا في الحرب).
(وقيل في المدبرات إنها الملائكة تدبر أمر العباد من السنة إلى السنة. وقيل المراد بهم جبرائيل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل يدبرون أمور الدنيا. وقيل إنها الأفلاك يقع فيها أمر الله تعالى فيجري بها القضاء في الدنيا).
والضعف والبعد واضحان في اكثر ما ذكر وذهب بعض المفسرين الى إمكان أن يكون كل ذلك مقصودا.
وقيل انه عنوان عام يشمل كل ما ينزع وينشط ويسبح ويسبق ويدبّر!!! وممن قال به الطبري في جامع البيان فقال بذلك الا في الاخير فان المراد بهم الملائكة.
ولا بد قبل البحث عن المراد من ملاحظة مفردات الآيات فالنزع في اللغة بمعنى القلع وجذب الشيء عن مقره.
والغرق على ما في معجم المقاييس يدل على انتهاء في الشيء يبلغ أقصاه. ولعل الاصل فيه الرسوب في الماء ثم استعمل في هذا المعنى بوجه عام ومنه استعماله في الرمي قال في العين (أغرقت النبل وغرّقته بلغت به غاية المدّ في القوس) ومن هنا يقال في من يبالغ في كلامه انه أغرق في الكلام. ويقال لمن غمرته الديون او المشاكل انه غرق فيها. وأغرقت الكأس: ملأته بالماء واغرورقت عيناه: امتلأت دموعا.
والنشاط ضد الكسل وهو معروف وعبّر عنه في العين بطيب النفس للعمل ونحوه.
والسبح: العوم وهو السير في الماء ويطلق مجازا على حركة النجوم قال تعالى (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)[1] ويطلق ايضا على جري الفرس وعلى توغل المهاجم البطل في اوساط الجيش.
ولكن لم يظهر من كتب اللغة وجه هذه الاطلاقات ولعل الوجه الجامع بينها هو كون السير سريعا مع وجود الموانع ففي سير النجوم موانع في الفضاء ربما لا تسمح بالاستمرار في السير ولكن الشمس والقمر والنجوم تسير في افلاكها بسرعة فيشبّه سيرها بالسبح في الماء وكذلك الفرس والفارس.
والسبق معروف وهو التقدم على الاقران.
والتدبير النظر في عواقب الامور ــ كما في العين ــ مأخوذ من الدَّبْر والدُّبُر وهو آخر الشيء.
والذي يقوى في النظر أن المراد بكل هذه الطوائف الملائكة بقرينة أن الاخيرة خاصة بهم والعطف بالفاء يقوي احتمال ان تكون الصفات الثلاث السبح والسبق والتدبير لطائفة واحدة تتوالى فيهم الصفات.
وحيث ان المروي عن اميرالمؤمنين عليه السلام في تفاسير العامة والخاصة هو ان المراد بكلها الملائكة فهذا الاحتمال أولى. ولو ثبتت النسبة لكان هو المتعين قطعا فلا أحد أعلم بالقرآن منه سلام الله عليه. ولكن ليست هناك رواية مسندة فضلا عن ان تكون صحيحة مضافا الى انه المروي عن ابن مسعود وابن عباس بل لم ينقل من احد من الصحابة غير ذلك وانما الاختلاف في التابعين ومن بعدهم.
وعليه فيمكن أن يكون المراد بالنازعات غرقا ملائكة الموت ويبعد الاختصاص بمن يقبض أرواح الكفار كما نسب الى الامام عليه السلام بل الظاهر أنهم ملائكة الموت عامة لو فرض كونهم المقصودين بها.
وبناءا عليه فالوجه في التعبير بالغرق ليس هو الشدة في النزع بل لعل الوجه النزع الكامل بمعنى توفّي الروح البشرية كما ورد في قوله تعالى (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)[2] وغيرها من الآيات.
والتوفي والاستيفاء هو أخذ الشيء بتمامه. ولعل القصد من ذلك الاشارة الى أن حقيقة الانسان هي روحه ونفسه الناطقة التي تتوفاها الملائكة حين موته تكريما للانسان ولا ينقسم الانسان في حقيقة أمره الى قسمين جسم وروح كما يتراءى لنا.
هذا ويحتمل أن يكون المراد بهم كل الملائكة الذين يتوسطون بين الله تعالى وخلقه وينفّذون أوامره التكوينية ويكون المراد بالنزع انتزاع الامر الالهي من الوسائط المتقدمة فان الملائكة منهم المطاع المقرب كما قال تعالى (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)[3] ومنهم غير ذلك وقال تعالى (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ).[4]
وبناءا على هذا الاحتمال فالتعبير بالنزع للدلالة على أنهم ينتظرون مشتاقين الى ما يتلقّون من أوامر فليس ما لديهم مجرد إطاعة فحسب بل ترقّب وانتظار وخشية كما قال تعالى (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)[5] وقال ايضا (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)[6]
والوجه في كون نزعهم غرقا وإغراقا في النزع أنهم يتلقونه كاملا من دون نقص فالاوامر التكوينية لا تحتمل التبعيض ولا التأخير.
وهذا الاحتمال أنسب بسياق الآيات التالية التي تشير الى مراحل تنفيذهم لأوامر الله تعالى فهم أولا ينتزعون الأوامر من مصادرها كاملة وهم نشطون ثم يسبحون ويسبقون ويدبرون.
ومهما كان فالظاهر أن الناشطات وما بعدها صفات لكل الملائكة الكرام والتعبير بالنشاط لبيان أنهم في تنفيذ أوامره تعالى نشطون لا يتكاسلون بل يعملون بطيب نفس كما ذكرنا في تفسير اللفظ.
و(نشطا) مفعول مطلق يؤتى به للتأكيد على أن المراد بالفعل هو حقيقة النشاط وليس تعبيرا مجازيا او مبالغة فانك لو قلت ضربت فلانا ضربا يفهم منه أنك لا تقصد بالضرب ايلامه بالكلام مثلا اذ يصح التعبير عنه بالضرب ايضا.
واما السبح فلعله باعتبار أنهم يتحركون لتنفيذ الاوامر الالهية ولا يهتمّون بكل ما يمانع تحقق الهدف كما يسبح السابح في الماء فلا يمانعه الماء وكذلك ما يسير في الهواء او الفضاء وهم يسبقون كل العوامل ويغلبونها ولا يمكن أن يسبقهم شيء.
وهم بهذه الحركة والنشاط يدبّرون الامور وفقا للارادة الالهية. و(أمراً) نكرة اي يدبّرون أمراً مّا من الامور والمقصود أن كل هذه المراحل تتحقق في تدبير كل أمر صغير او كبير.
والتدبير بمعنى أن ما يحدث في الكون ليس أمرا اتفاقيا كما يتصور الملحدون بل كل حركة وسكون مقصود ومدروس ومحقِّقٌ لهدف منشود ومؤثر في التدبير العام ولا مجال للصدفة في الكون كما يظنون.
ومن هنا يتبين أن الوجه في عطف السبق والتدبير على السبح بالفاء هو ترتّب هذه الصفات بعضها على بعض في تنفيذهم لارادة الله تعالى في تدبير الكون.
وأما تأنيث الاوصاف فانما هو باعتبار أن المراد جماعات من الملائكة نظير ما ورد في مبدأ سورتي الصافات والمرسلات فلا وجه لانكار بعضهم ممن لا يجيد العربية هذا التفسير استنادا الى أن الملائكة ليسوا إناثا.
هذا ما نفهمه من سياق الآيات والله العالم بحقيقة الحال.
ثم إنّ بعضهم لم يرجح اي احتمال في هذه الآيات وبرّر ذلك بقوله (ثم إن لنا في عمر بن الخطاب أسوة وقد قرأ سورة «عَبَسَ وَتَوَلَّى» حتى جاء إلى قوله تعالى: «وَفاكِهَةً وَأَبًّا» فقال: «قد عرفنا الفاكهة فما الأبّ؟ ثم استدرك قائلا: لعمرك يا بن الخطاب إن هذا لهو التكلّف! وما عليك ألا تعرف لفظا في كتاب الله تعالى؟!» وفي رواية أنه قال: كل هذا قد عرفنا فما الأبّ؟ ثم رفض عصا كانت بيده - أي كسرها غضبا على نفسه - وقال: «هذا لعمر الله التكلّف! وما عليك يا بن أم عمر أن لا تدري ما الأبّ» ثم قال: «اتّبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه» فهذه كلمات تنبعث عن الأدب أمام كلمات الله العظيمة أدب العبد أمام كلمات الرب التي قد يكون بقاؤها مغلّفة هدفا في ذاته يؤدي غرضا بذاته).[7]
وكان عليه أن يستبعد صحة الحديث فان الخليفة من العرب الاوائل ويبعد جهله لمعنى مفردات اللغة وأغرب منه أن يعتبر محاولة معرفة المعنى تكلّفا ثم الأغرب الحكم العامّ الذي أصدره الخليفة بسبب هذا الجهل وهو أن الواجب ترك ما لا يعلم معناه من القرآن وعدم السؤال عن أهل المعرفة!!!
هذا بالنسبة للقصة وأما كلام الرجل فالغريب فيه أن يتأسى الانسان بالجهل ويعتزّ به بل يعتبره من أدب العبد أمام الربّ مع ان الخليفة ما كان يتتبع المراد من جملة مبهمة كما هو الحال هنا وانما جهل معنى الابّ في لغة العرب حسب هذه الرواية فما كان اللازم لمعرفته الا السؤال عن خبير باللغة فهل يعتبر هذا خلافا للادب ام الامر بالعكس وأنّ الأدب يقتضي أن يحاول العبد معرفة ما جاء اليه من ربه قدر المستطاع؟!
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ... الظاهر أنّ (يوم) ظرف للفعل المقدّر وهو جواب القسم كما مرّ اي لتبعثنّ يوم..
والرجف: الاضطراب الشديد. والظاهر أن المراد بالراجفة الارض لأنها تضطرب بالصيحة او النفخة الاولى التي تتسبب في هلاك الأحياء جميعا ولعلها تتسبب في انعدام هذا النظام الكوني وتبدّل الارض والسماوات.
وقيل المراد بها نفس الصيحة والنفخة فيكون الاسناد مجازيا لانها لا تضطرب وانما توجب الاضطراب فهي مرجفة في الواقع وليست راجفة وانما قالوا بهذا التأويل ليعود الضمير في (تتبعها) اليها. ولكن لا مانع من عود الضمير الى المصدر.
والرادفة من ردف الشيء شيئا اذا تبعه وأتى بعده، فالظاهر أنّ المراد بها الحدث الرهيب الثاني الذي يتبع رجفة الراجفة وليست هي رجفة ثانية بل المراد بها النفخة الثانية التي بها يعيد الله تعالى الاموات الى حياة جديدة ونظام جديد كما قال تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ).[8]
وهذه التعابير كلها كناية عن فورية حدوث هذه التغيرات بمجرد الامر التكويني الالهي بل هو في الواقع مجرد ارادة كما قال تعالى (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).[9]
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ... (قلوب) مبتدأ مع انها نكرة وذلك لأن المراد بالتنكير الكثرة اي قلوب كثيرة واجفة في ذلك اليوم اي شديدة الاضطراب والاصل فيه الوجيف اي سرعة السير.
والجملة الثانية خبر آخر عن القلوب وبتقدير الاصحاب اي ابصار أصحابها خاشعة او يرجع الضمير الى القلوب باعتبار أن المراد بها واقعا النفوس.
وخشوع البصر: الاطراق الى الارض بحيث لا يرفع رأسه من البهت والحيرة والخوف.
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً... يعود السياق الى بيان حال الناس في الدنيا كأنّه بعد أن بيّن حالة اكثر الناس يوم القيامة ومع التأكيد بالأقسام المذكورة يذكر العجب من الناس أنهم يسألون او يتساءلون باستغراب او باستهزاء (هل يمكن أن نعود أحياء بعد الموت خصوصا اذا أصبحت عظامنا نخرة بالية؟!).
والاتيان بالفعل المضارع (يقولون) للدلالة على استمرارهم في هذا الاستغراب او الاستهزاء وهو فعلا مستمر في جميع الاعصار بل الاستغراب موجود لدى كل البشر تقريبا حتى المؤمنين منهم الا من بلغ مرتبة اليقين وما أقلّهم؟! فهذا الاستغراب والاستفهام والتحير لا يختص بالمشركين في مكة كما يتصور بل هو شأن البشرية في مختلف الاجيال.
وقد اختلف المفسرون في معنى الحافرة. والمشهور أنها بمعنى الحالة الاولى أي هل نعود بعد الموت الى الحياة؟!
وقال في الكشاف في بيان وجه التعبير بالحافرة عن الحالة الاولى: (فإن قلت: ما حقيقة هذه الكلمة؟ قلت: يقال رجع فلان في حافرته أي في طريقه التي جاء فيها فحفرها أي أثّر فيها بمشيه فيها، جعل أثر قدميه حفرا... وقيل حافرة كما قيل عيشة راضية، أي منسوبة إلى الحفر والرضا أو كقولهم نهارك صائم، ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته، أي طريقته وحالته الأولى..).
وفي معجم المقاييس (رجع فلان على حافرته اذا رجع على الطريق الذي أخذ فيه ورجع الشيخ على حافرته اذا هرم وخرف) اي عاد الى طفولته.
وقيل إن المراد بالحافرة الارض المحفورة اي القبر اي نردّ أحياء في القبور؟! وهذا القول ينسب الى مجاهد.
وأظن أنه أولى من التأويل الاول والمفروض أنه لا بد في القولين من كون الحافرة بمعنى المحفورة فانها في التاويل الاول ايضا تطلق على الحالة السابقة باعتباره اثرا محفورا في الارض فحمل الكلمة على القبر أولى وأنسب بالظرفية ولو اريد ما ذكروه لكان الأولى أن يقال الى الحافرة اي الحياة.
مضافا الى أن هذا التعبير وان قيل بوروده في بعض الاشعار وكلمات العرب الا أنه ليس تعبيرا متعارفا فصيحا يحمل عليه القرآن ولا هو من ابتكاراته والحمل على الارض المحفورة أقرب.
وقيل إنّ هذه الجملة يقولونها يوم القيامة بعد أن يجدون أنفسهم أحياء.
وهو بعيد لا يناسب ما بعدها فإن سياق الآيتين التاليتين لا تناسب يوم القيامة.
والعظم النخر هو البالي، من النخير اي الصوت الذي يخرج من المنخرين. ومنه استعير النخر للخشب البالي الذي فيه ثقوب يخرج منها الصوت اذا هبّ فيها الريح.
وقد تكرر هذا الكلام من منكري المعاد لاستبعاد عود الحياة الى العظام البالية والقرآن يردّ دائما على ذلك بأن الله تعالى قادر على كل شيء.
قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ... هذا جواب عن السؤال السابق فهم يتساءلون في أنفسهم ثم يجيبون على السؤال. والكرّة: الرجعة.
والمذكور في التفاسير أن هذه الجملة استهزاء منهم اي اذا رجعنا أحياء بعد الموت فهو رجوع خاسر لنا لأننا لم نحسب له حسابا. وتوصيف الرجوع بالخسران اسناد مجازي فان الوصف لصاحب الرجوع. وكونه استهزاءا مبني ايضا على كون الكلام خاصا بالمشركين او منكري المعاد.
ولكن لا يبعد ان يكون مجموع الكلام سؤالا وجوابا مما يدور في خلد البشر بصورة عامّة فالانسان قد اُخبر عن طريق الانبياء بالبعث بعد الموت ولا تجد انسانا لم يسمع به فهو في اي مكان واي زمان وعلى اي دين يجد نفسه أمام استفهام كبير: هل حقا هناك حياة بعد الموت؟!
خصوصا بعد أن مضى على تواجد الانسان على هذا الكوكب آلاف القرون والله يعلم كم سيمضي عليه الى ذلك اليوم.
وهل سيحيا كل هذا البشر بعد أن تحولت أجسامهم الى تراب ثم الى مواد اخرى خرجت من الارض؟! فهذه الدائرة لا تقف على مدار القرون المتمادية.. الارض تبتلع كل ما عليها من بشر وحيوان ونبات وجماد وتخرجها بصورة اخرى (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا).[10]
ويبقى السؤال يشغل بال الانسان حتى لو كفر بكل الاديان وأقنع نفسه بأنه لا موجب للخوف والحذر فكل هذا من أساطير الاولين ومن مختلقات رجال الدين ولكنه يبقى في قرارة نفسه متوجسا خائفا اذ لا يوجد دليل قاطع على نفيه، ويجيب نفسه دائما (لو صحّ هذا الخبر فانا خاسر لأني لم أحسب له الحساب الكافي!!)
وهذا اعتراف من الانسان بوجه عامّ ايضا وهو شعور حقيقي في دخيلة كل فرد من البشر يترسخ فيه الخوف من المستقبل الغامض ولذلك يتوجه الانسان الى ما يسلبه الشعور وينقذه من الخوف ليعيش في سعادة وهمية على الارض. والله تعالى خالقه وربه يدعوه الى الايمان ليعيش في النشأتين في سعادة حقيقية.
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ... الفاء تفريع وتعليل لنفي العجب المستفاد من السياق اي لا عجب من رجوعكم الى الحياة ثانية فانه يتم بارادة من الله تعالى ولا يتوقف على شيء الا زجرة واحدة.
وضمير (هي) للقصة او يعود الى الكرة فهي ــ اي سببها ــ ليس الا زجرة، او الى الرادفة وهي النفخة الثانية. والاول اولى والمعنى انه ليس هناك شيء الا زجرة واحدة.
والزجرة واحدة الزجر وهو في اللغة بمعنى النهي والمنع والنهر وحثّ الحيوان للتحرك. والمراد هنا المعنى الاخير إمّا بمعنى حثّ الاجسام الميتة على التحرك وإمّا بمعنى حثّ الارض على ان تخرج ما فيها.
ويحتمل ان تكون كناية عن الصيحة كما ورد في آيات اخرى باعتبار أن الزجر في الحيوان انما يتم بصوت.
ومهما كان فهي في الواقع تعبير عن الفورية في تحقق الكون الجديد بمجرد ارادة من الله تعالى.
والساهرة ــ كما في العين ــ وجه الارض العريضة البسيطة. ولعل القصد منه أنهم يخرجون من باطن الارض الى ظاهرها.
وقد قيل في وجه تسمية وجه الارض بالساهرة أن الحيوان عليها نومه وسهره ولكنه غير واضح.
وفي معجم المقاييس (سميت بذلك لأن عملها في النبت دائما ليلا ونهارا ولذلك يقال: خير المال عين خرّارة وارض خوّارة تسهر اذا نمت وتشهد اذا غبت) وهو افضل ما قيل في ذلك. والارض الخوارة اي لينة في مقابل الارض العزاز اي الصلبة من الخور وهو الضعف. و(اذا) الفجائية للدلالة على فورية الامر.
[1] يس: 40
[2] السجدة: 11
[3] التكوير: 21
[4] الصافات: 164
[5] سبأ: 23
[6] الانبياء: 28
[7] في ظلال القرآن (تفسير الآية الكريمة)
[8] الزمر: 68
[9] يس: 82
[10] سبأ: 2