هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى... تكرر في القرآن الاستشهاد بقصة موسى عليه السلام تخويفا وتحذيرا للمشركين لأنهم كانوا يعرفونها حيث سمعوا بها من اهل الكتاب وفيها ايضا تسلية للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم والمؤمنين لان الله تعالى اهلك فرعون فكيف بهؤلاء؟! وانقذ بني اسرائيل من ذلك الطاغية فكيف بكم؟!
والحديث كل امر حادث والاصل في معناه كون شيء لم يكن فيما سبق ومن هنا يطلق على الكلام لانه يحدث شيئا فشيئا.
والاستفهام في الآية ليس على حقيقته كما هو واضح فاما ان يكون للتقرير اي ألم يأتك حديث موسى.. او يكون تمهيدا لذكره وتنبيها على اهميته حتى لو كان مذكورا فيما سبق من الآيات النازلة.
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى... ظرف لتحقق ما ينبئ عنه الحديث. والوادي كل منخفض بين الجبال. و(طوى) اسم للوادي المذكور. والقداسة: الطهارة. والوجه في قداسة الوادي أن الله تعالى تجلّى فيه وكلّم موسى عليه السلام. والتعبير بالنداء من جهة أنه عليه السلام ما كان يرى مصدر الصوت فيعتبر بعيدا عنه.
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى... هذه الجملة مقولة بتقدير كلمة القول بيانا للنداء كأنّه قال فقال له.. وجملة (انه طغى) تعليل لارساله عليه السلام الى فرعون. والطغيان التجاوز عن الحد وقد تجاوز فرعون حدود العبودية فادعى انه ربّ واله كما تجاوز الحد في الظلم والاعتداء على حقوق الناس.
وفرعون على ما هو المعروف اسم يطلق على مجموعة من ملوك مصر القدماء ولكن الظاهر انه في الاستعمال القراني اعتبر علما لهذا الشخص فوقع منادى معرفة في قوله تعالى (وقال موسى يا فرعون) وفي التفاسير والتاريخ العربي يذكر لهذا الرجل اسم عربي يقال انه الوليد بن مصعب وهذا خطأ واضح يتبع خطأهم الاخر وهو ان فرعون اسم لملوكهم مطلقا كما يقال لملوك الفرس كسرى ولملوك الروم قيصر.
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى... (هل لك) تعبير متعارف للحثّ على شيء كأنّ التقدير فيه (هل لك رغبة الى أن تتزكّى). و(تزكّى) اي (تتزكّى) حذفت احدى التاءين تخفيفا.
والزكاة: الطهارة. والمراد طهارته من دنس الطغيان والشرك. والبدء بهذا التعبير لايحائه بأن الامر يبدأ منه وأنه لا يريد أن يفرض عليه أمرا انما يتبع ذلك رغبته في التغيير والتكامل.
وهذا تطبيق لقوله تعالى (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).[1]
وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى... اي هل لك الى أن أهديك الى ربك؟ والهداية التقدم للارشاد الى شيء. والانسان حيث يجد ما حوله من النعم فلا بدّ من أن يبحث عن ربّه الذي خلقه وأنعم عليه.
وفرعون كان وثنيا يعتقد بأن الله خالق الكون ولكنه يرى أن هناك اربابا يديرون الكون وكان من معتقد المصريين أن الآلهة اختاروا هذا الرجل ليكون ربا لمصر فأراد موسى عليه السلام أن يعلمه أنه ليس ربّا بل له ربّ خلقه وأنعم عليه فيجب أن يخشاه ويخضع له.
والفاء في قوله (فتخشى) تدل على ترتب الخشية على معرفة الرب. والخشية: الخوف.
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى... هنا حذف وتقدير لأن الجملات السابقة تخبر عن الامر الذي صدر لموسى عليه السلام لبعثه رسولا الى فرعون فالتقدير أنه ذهب اليه وأبلغه الرسالة فهدّده فرعون فأظهر له ما آتاه الله تعالى من الاعجاز كما ورد في موضع آخر (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ).[2]
والآية: العلامة. واختلفوا في اشتقاقها وأنّ أصلها أأية أم أيّة أم أوية وقال الخليل انها بمعنى الجماعة واطلاق الآية في القرآن بمعنى الجماعة من الحروف والكلمات وقيل انها باعتبار كون كل جملة او مجموعة من الجمل علامة على كون الكتاب من الله تعالى.
ومهما كان فالمراد بالآية هنا الاعجاز الذي أثبت أن موسى عليه السلام رسول من الله تعالى.
والمراد بالآية الكبرى مجموع الامرين انقلاب العصا حية واخراج اليد بيضاء تلمع نورا او خصوص الاول.
والتوصيف بالكبرى في قبال سائر الآيات التي ظهرت على يده عليه السلام فكان من المحتمل ان توصف بانها طبيعية واما هاتان الآيتان فلم يكن لفرعون توجيه لهما الا دعوى انهما من السحر.
وأما ما قيل من أن المراد كل ما أظهره من الآيات وهي تسع فبعيد لما سيأتي من أنه بعد إراءة الآية حشر الناس ونادى بانه ربهم الاعلى فهذا رد فعله تجاه أول لقاء له مع موسى عليه السلام.
فَكَذَّبَ وَعَصَى... يظهر من التعبير بالعصيان أنه اقتنع في ذاته بصدق موسى عليه السلام خصوصا بعد الاعجاز بل لا يبعد أنه اقتنع به من بدو الامر لأنه كان يعرفه عليه السلام حق المعرفة كما كان كفار قريش يعرفون الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم فتكذيبه هنا كان عن عصيان لا عن عدم اقتناع.
ويظهر من الفاء أن التكذيب ترتب على ظهور المعجزة من دون تريّث وتفكير.
والعصيان عدم الاطاعة والانقياد. ومعناه التمنع والتصلب في مواجهة الحق ومنه يظهر أن العطف هنا يقصد به التعليل اي أنه كذّب موسى عليه السلام ورسالته عصيانا وتصلبا في قبال الحق الواضح كما قال تعالى في نفس هذا الشأن (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا..).[3]
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى... تعبير عجيب!! (ثم) للتراخي اي انه بعد حين لا بالانفعال والاستعجال بل بعد التريّث والتدبير (أدبر يسعى) اي ولّى مدبرا وفي الطريق المخالف حال كونه يسعى.
والسعي: العدو او المشي السريع ويعبّر به عن الجد والجهد في العمل فالمراد أنه لم يكتف بعدم القبول والانصياع للحق بل صرف وجهه وأسرع في مشيه في الاتجاه المخالف.
فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى... الفاء للترتيب اي كان من ضمن سعيه وجهده أنه حشر الناس. والحشر هو الجمع مع سوق وبعث. وقيل: الحشر: اخراج بازعاج.
ومهما كان فهو يشير الى أنه لم يكن جمعا بمجرد الطلب والدعوة بل أجبرهم على الحضور لينادي فيهم بأنه هو ربهم الاعلى.
ومن الطبيعي أن خبر حضور موسى عليه السلام وإظهاره الآية الكبرى قد انتشر في الناس وأخذ منهم مأخذا بحيث خاف الطاغية أن يغلبه موسى عليه السلام في التأثير على عامة شعبه فأعلن هذا النداء ليردّ عليه بطغيان وجبروت ويفرض على الناس إرادته.
وهكذا دأب الطواغيت في كل عصر وفي مواجهة كل حق ومع الاسف نجد أن غالب الناس حتى المسلمين والمؤمنين ينصاعون لهذه الدعوات ويخضعون للطواغيت ويتركون الحق واذا رأوا داعية يدعو الى الحق اتهموه بأنه يشق عصا المسلمين فان قتل فهو قتيل العصا.
ومع أنه كانت له آلهة يعبدها كما قال تعالى (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ..)[4] الا ان الذي يظهر من هذا الاعلان انه لم يكن يظهر ذلك للناس بل كان يتظاهر امام الناس بانه هو الاله فحسب كما قال تعالى (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي..).[5] او انه اراد بقوله هذا إظهار أنه أعظم الآلهة لأنه الرب الأعلى من بين الارباب فإن الامور كلها بيده وهو الفاعل لما يشاء.
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى... الاخذ معروف وهو التناول باليد ويستعار به عن القهر والانتقام.
والنكال اسم مصدر بمعنى التنكيل وهو في الاصل بمعنى القيد واللجم ويعبّر به عن العذاب الذي يمنع الانسان من تكرار جريمته ويمنع غيره ايضا من نفس العمل ولكن قد يعبّر به عن التعذيب وان لم يترتب عليه المنع المذكور كما في نكال الآخرة.
وهو هنا مفعول مطلق للاخذ بتضمينه معنى التنكيل اي نكّله الله تنكيل الآخرة والاولى. او صفة لأخذ مقدر اي أخذه الله أخذا نكال الآخرة والاولى. او مفعول لاجله اي أخذه الله من أجل تنكيله في الآخرة والاولى.
والفاء تدل على أن هذا الاخذ ترتب على ما مرّ من تكذيبه وعصيانه وطغيانه ودعواه الربوبية.
والمراد بالاولى الحياة الاولى اي الدنيا ونكاله في الدنيا غرقه وغرق من معه من الجنود وما ترتب عليه من زوال نعمتهم وسلطانهم وحضارتهم كما قال تعالى (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)[6] وبذلك اصبح عبرة لمن بعده. ولعل تقديم الآخرة للمحافظة على قوافي الآيات.
وفي رواية ضعيفة أن المراد عقوبة على كلمته الاخيرة وهي قوله انا ربكم الاعلى وكلمته الاولى وهي قوله ما علمت لكم من اله غيري وفيها أن بينهما اربعين سنة.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى... تأكيد على أن في حديث موسى عليه السلام وفرعون الطاغية عبرة للناس والعبرة اي ما يعبر منه الانسان الى مفهوم آخر يتعظ به فالانسان اذا رأى انسانا آخر بنفس صفاته او بأعلى منه قوة اوشبابا اومالا اوعظمة ورأى كيف نزل به عذاب الله ونقمته يتعظ به ويبتعد عما يغضبه تعالى.
ولكن الاعتبار يختص بمن يخشى الله تعالى ويؤمن به فيخاف من غضبه وانتقامه سواء في الدنيا او في الآخرة اما الذي لا يخشى الله ولا يؤمن به وبالحياة الآخرة فلا يعتبر طبعا لأنه لا يعتقد بالآخرة بل لا يعتبر بما يراه في الدنيا ايضا لانه لا يرى فيما نزل به عذابا من الله تعالى وانما يراه امرا طبيعيا.
نعم ربما يخشى اصابته بنفس المرض او الحادثة ولكن ليس هذا هو المقصود بالاعتبار بل المقصود ان يخاف الانسان مما يراه أن يصاب بغضبه تعالى فالمراد بالخشية الخوف من الله تعالى والاعتبار من جهة ترقب نزول العذاب عليه ان سار على نفس النهج الذي اتّبعه فرعون وامثاله.
وقال في الميزان ان المعنى أن في هذا الحديث لعبرة لمن كان له خشية وكان من غريزته أن يخشى الشقاء والعذاب. والإنسان من غريزته ذلك ففيه عبرة لمن كان إنسانا مستقيم الفطرة.
ومردّ ما ذكره الى أن الخشية بمعنى الخوف بوجه مطلق ويقابله الانسان المتهور الذي لا يعتبر بما يحدث لغيره كمن نجده يرى حوادث السرعة بعينه في الطرق وهو مستمر على سرعته الهائلة.
ولكن الصحيح أن المراد الاعتبار بهذا الحديث وامثاله للتخوف من عذاب الله تعالى فلا بد من حمل الخشية على خشيته تعالى في مقابل من لا يعتقد به فلا يخشاه.
وقال بعضهم ان في هذا تعريضا بقريش فانهم كانوا لا يخشون الله تعالى فلا يعتبرون بسماع هذا الحديث.
ولكن الظاهر انه ترغيب لهم في الاعتبار لان المراد بالخشية كما اشرنا اليه اصل الاعتقاد بالله تعالى وبتأثيره في الكون وقريش ما كانت تنكر ذلك. ولذلك ورد الانذار والتحذير لهم من عذاب الدنيا في عدة موارد منها قوله تعالى (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ)[7] وقيل ان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم تلاها على الوليد بن المغيرة فاقشعرّ جلده.
[1] طه: 44
[2] الشعراء: 29- 33
[3] النمل: 13- 14
[4] الاعراف: 127
[5] القصص: 38
[6] الدخان: 25- 29
[7] فصلت: 13