أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا... المعروف أن هذه الآيات جواب على استبعاد الانسان اعادة الحياة بعد الموت كما مرّ في قوله تعالى (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً) فالجواب أن إعادة خلق البشر ليس أشدّ وأصعب من خلق السماء والمراد به بدء الخلق فإنه تعالى خلق الكون من العدم كما قال (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[1] اي الذي ابتدع خلق السماوات والارض من غير شيء وانما أراد ان يكون فكان وهذا بالطبع أعظم وأكبر من خلق الأجزاء الكونية وكذا من إعادة خلقها كما قال تعالى (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).[2] وقال ايضا (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ).[3]
ولكن هذا الاحتمال لا يناسب:
أوّلا التعبير بالشدة فانها بمعنى الصلابة والاستحكام والاصل فيه العقد القويّ كما في المفردات ومنه قوله تعالى (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي)[4] وقوله (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ..).[5] فالشدّة في الجسم بمعنى قوّة ترابط أجزائه بعضها ببعض مما يصعب تفكّكها. فالشدة هنا ليست بمعنى الصعوبة لتناسب هذا التفسير.
وثانيا لا يناسب القياس بالسماء وانما يقاس الإحياء بعد الموت بخلق السماوات والارض والمراد بهما الكون بأكمله فيقال إن تأسيس الكون من العدم أصعب من إعادة الحياة وأما خلق السماء فلا يناسب هذه المقارنة.
وثالثا لا يناسب قوله تعالى في نهاية عدّ المذكورات (متاعا لكم ولانعامكم) مما يدل على أن الخطاب لإلفات نظر الانسان الى ما خلقه تعالى للإنعام عليه.
ومن هنا يقوى في النظر أنّ الآيات جاءت بمناسبة ذكر فرعون ودعواه الربوبية وفي القوم من يسير بسيرته كأبي جهل فالسياق جاء للتنديد بالانسان واستكباره وطغيانه على ربه بتنبيهه الى خلق السماء والارض وما بينهما لتمتيع هذا الانسان الحقير وأنعامه لكي يعود الى نفسه ولا يشمخ بأنفه ويتواضع لربه.
وقد تكرر في القرآن الكريم التنديد بطغيان الانسان على ربه ومنه قوله تعالى (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ).[6]
ونحن نجد الاستكبار من البشر حتى ممن هو على ظاهر الاسلام والايمان حيث انه ربما يرفض من الحكم الشرعي ما لا يراه لصالحه وهذا من طغيان الانسان ولذلك ورد في كلام امير المؤمنين عليه افضل الصلاة والسلام (غَيْرَةُ الْمَرْأَةِ كُفْرٌ وَغَيْرَةُ الرَّجُلِ إِيمَانٌ)[7] وانما اعتبر غيرتها كفرا لانها ترفض من الحكم الشرعي تعدد الزوجات مثلا وهو صريح القرآن.
وكثيرامّا نسمع من الناس حتى المؤمنين منهم رفض الحكم الشرعي الوارد في القرآن الكريم الذي لا يمكن فيه الاسناد الى خطأ الفقهاء او الرواة. وكل هذا من طغيان البشر كما ان منه انتقاد الانسان لما خلقه الله من الفوارق الطبيعية وعدم رضاه بما قسمه الله تعالى ولم يكن له دخل في تحققه.
والحاصل أن هذه الآية تشبه قوله تعالى (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ)[8] وهناك ايضا ذهب المفسرون الى مثل ما ذكروه هنا ورفضنا هذا التفسير وقلنا بان المراد بمن خلقنا الملائكة المذكورون قبل هذه الآية وأن المراد بالاشدية في الخلق كون خلقهم أعظم وأعجب لا صعوبة الخلق كما قالوا وأن المراد بكون الانسان مخلوقا من طين لازب تحقير شأنه من حيث اصل الخلقة في مقابل خلق الملائكة وسائر شؤون العالم العلوي ليردعه من الكبر والخيلاء.
ومثله في هذه الآيات قوله تعالى (متاعا لكم ولانعامكم) فان في ضم الانعام الى الانسان نوع من التحقير الذي يستحقه الانسان المستكبر وان من دواعي عدم الايمان هو الكبر وعدم تسليم هذا الانسان الحقير لأوامر خالقه ونواهيه.
ولا أنسى أني سمعت أحد المعلقين على ايماننا بالشريعة في اذاعة تتبع بلاد الكفر انه قال أنا أرفض أن يحكمني أحد بما يراه من دون موافقتي وان كان هو الله.
والظاهر ان المراد بالسماء هو الجو الازرق الذي نراه محيطا بنا والسماء جهة العلو فكما تصدق على مجموعة الكواكب والنجوم كذلك على هذا الجو الازرق وسيأتي أن قوله تعالى ( أغطش ليلها وأخرج ضحاها) يناسب هذا المعنى.
والغلاف الجوي سماء بالنسبة الى الارض قال في العين (السماء سقف كل شيء) وقال ابن دريد في الجمهرة (سماء كل شيء اعلاه) فالغلاف الجوي سماء لنا لانه هو الذي نجده كالسقف قد رفع فوقنا كما قال تعالى (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا)[9] وقال (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ).[10] واما الاجرام الفلكية التي نراها فكوكبنا جزء منها وليست سقفا مرفوعا فوقنا.
والغلاف الجوي من أهم نعم الله تعالى على سكان الارض بل لولا هذا الغلاف لم يكن على هذا الكوكب اثر من الحياة. والمراد بأشدية خلق هذا السماء من خلق الانسان دوامها وشدة تماسكها فان الانسان قصير عمره بالقياس الى الطبيعة المحيطة به.
وقال أكثر المفسرين ان المراد بها الافلاك والكواكب والنجوم. وبناءا على ما ذكروه فالأشدية واضحة.
وقوله (بناها) جملة استينافية للانتقال الى ذكر نعمه تعالى على الانسان في هذه الحياة وأنه قدّر الكون سماءا وارضا ليتهيّأ كل ما أراده تعالى من مستلزمات الحياة على هذا الكوكب بحيث يتمكن الانسان والحيوان من الاستمتاع بهذه الحياة الى حين.
والبناء معروف وقيل انه خاص بما يرتفع على الارض ولكن الظاهر ان البناء يصدق على ما يكون تحت الارض ايضا فهو يتحقق بضم أجزاء متناسبة بعضها الى بعض ليتكون منها شيء آخر كدار او بستان ونحو ذلك وقد يعبر بالبناء في تأسيس الامور غير المحسوسة كبناء مُلك او قانون وغيرهما.
والظاهر أن المراد ببناء السماء بناءا على انها الغلاف الجوي تركيبه من مجموعة من الغازات التي تشكل حاجزا حولنا يحفظنا من الاشعة الضارّة المنبعثة من الشمس ومن النيازك والصخور المتناثرة في الفضاء، ويحفظ لنا الأبخرة المتصاعدة لتتحول الى غيوم تمطرنا بالماء الطهور للشرب والزرع ويحفظ لنا ما نحتاجه من الاوكسجين للتنفس، وغير ذلك مما يترتب على هذا الغلاف.
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا... السمك في الاصل: العلو والارتفاع. ويطلق تارة على السقف واخرى على البيت من اعلاه الى اسفله كما في الجمهرة وكذا في غير البيت فيقال مثلا سنام سامك اي مرتفع وهو المعبر عنه بالثِخَن.
والظاهر أن هذا هو المراد هنا بناءا على ما ذكرناه من ان المراد بالسماء الغلاف الجوي المحيط بالارض اي رفع ثخنها فجعلها سميكا وهذا السمك والحجم مهم في الغلاف الجوي لتترتب عليه الفوائد المذكورة آنفا. وأما بناءا على أن المراد بها مجموعة النجوم والمجرات فالمراد بالسمك السقف.
والمراد بالرفع على كلا الاحتمالين خلقها مرفوعة السمك كما هو الحال في قوله تعالى (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا).[11] اي خلقها مرفوعة ولم ترد الجملة معطوفة بالواو لأنها تبين كيفية البناء وليس أمرا آخر.
والتسوية: الاستقامة والاعتدال وتناسب الاجزاء. والمراد بها هنا وضع كل شيء في موضعه اللائق به بحيث يؤدي دوره بأحسن وجه في سبيل الايصال الى الهدف المنشود وهذا هو الامر المشهود في جميع جوانب الطبيعة التي خلقها الله تعالى سواء في أعظم ما خلقه حجما كالنجوم العظيمة والمجرات او اصغرها كالذرة.
ويلاحظ أن الغلاف الجوي مجموعة من الغازات المحيطة بالكرة الارضية بفعل جاذبيتها ومتشكلة من طبقات وكل طبقة من هذه الطبقات تؤدي دورا مهما في إبقاء الحياة على الارض ولو اختلت النسبة في هذه الغازات لاختلّت الحياة على الارض ولعل هذا هو المراد بالتسوية.
واما ان اريد بالسماء مجموعة المجرات والافلاك فلا شك أن هناك قوانين ونظم معقدة تتحكم فيها وتحفظها.
قيل: والفاء للتعقيب اي بعد أن رفعها سوّى أجزاءها ويمكن ان تكون للعطف اذ الرفع والتسوية يتحققان معا فان الرفع بمعنى خلقه مرفوعا وهو في نفس الوقت متساو الاجزاء.
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا... قيل إن هذه الآية عطف على (بناها) لا على (فسواها) لان إغطاش الليل وإخراج الضحى ليس من البناء. ولكن لا يبعد ان يعتبر منه اذ المراد به خلق كل مستلزماتها وتوابعها.
والغطش: الظلمة كما قيل اي أظلم ليلها والمراد بناءا على ذلك ايجاد ما يستلزم تتابع الظلمة والنور اي الليل والنهار فإغطاش الليل عبارة عن ايجاده.
والضحى ارتفاع النهار قال في العين (الضحو ارتفاع النهار والضحى فويق ذلك) اي بعده بقليل وقيل ان الاصل فيه البروز فالضحى وقت بروز الشمس وارتفاعها والمراد بيان هذه النعمة التي يغفل عنها الانسان لتكررها وهي تتابع الليل والنهار كما ورد ذكرها في مواضع متعددة من الكتاب العزيز ولولا ظلام الليل صعب على الانسان السكون والرقاد ولولا ضياء النهار صعب عليه العمل لكسب الرزق.
ولكن الكلام في اضافة الليل والنهار الى السماء مع انهما من عوارض الارض وان تحققا بالطبع بالنسبة لسائر الكواكب في المنظومة الشمسية بل وغيرها من الكواكب المنتشرة في الفضاء حيث انها مظلمة بالذات وتكتسب الضوء من الاجرام النيرة الا أن ما يمنّ به الله تعالى على الانسان هو تتابعهما على الارض.
قيل ان الوجه في اضافتهما الى السماء أنهما يحدثان بسبب سماوي وهو الشمس ولكن لا حاجة الى هذا التأويل اذا قلنا بأن السماء بمعنى الغلاف الجوي فانه هو موضع تعاقب الليل والنهار.
بل يمكن ان يقال ان الغطش ليس بمعنى شدة الظلمة بل بمعنى الغبش قال الزمخشري في الفائق (الغبش والغطش والغبس والغلس اخوات).
وقد ورد في الحديث حول صلاة الصبح (صلها بغبش) اي قبل ان يستنير الصبح وليس معناه الظلمة الحالكة.
وفي حديث آخر (كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم يغلّس بها) اي يصليها اذا اختلط الليل بضوء الصباح.
وفي العين (رجل اغطش اي في عينه شبه العمش) والعمش ضعف البصر وليس بمعنى العمى فالذي يناسبه في الجو هو الغبش بالمعنى المذكور لا بمعنى شدة الظلمة.
ومن الملفت أن هذه الحالة في الجو لا تحصل الا بسبب الغلاف الجوي ولولاه لأظلم الجو بمجرد غياب الشمس فورا وهو امر مزعج وتترتب عليه مشاكل في الحياة الطبيعية للانسان والحيوان كما أن بروز الشمس ايضا يكون بالتدريج بفضل هذا الغلاف كما أن انتشار الضوء ايضا منه ولولاه لرأينا السماء سوداء حتى في النهار فلا يبعد ان تكون الآية بصدد بيان هذه النعمة ومن هنا اضيفت الضحى الى السماء.
ولعل التعبير باخراج الضحى ايضا يدل على ذلك اي ان الضوء البارز الظاهر يخرج من خلال السماء وهو الغلاف الجوي ولولاه لكان الشمس تشرق فجأة فهذا الضوء الابيض اي الفجر ثم الحمرة ثم بروز الشمس ضعيفا الى ان يخرج الضحى كل ذلك من تأثير السماء بناءا على هذا المعنى ومن هنا نقول ان الظاهر انه هو المراد بالسماء في الآية الكريمة والله العالم.
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا... الدحو: البسط، ومثله الطحو في قوله تعالى (وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا)[12] فيحتمل أن يكون المراد اظهار اليابسة من الماء بعد ان كانت الكرة الارضية مغمورة بالمياه ويحتمل ان يكون المراد إعدادها لكل ما تتوقف عليه الحياة وأن البسط كناية عن هذا الاعداد والتمكين. وسنذكر من القرائن ما تدل على ان الثاني هو الاحتمال الراجح.
وقيل: المراد انه خلق الارض مدحوّة. وانما قيل ذلك لتوهم أن المراد بالدحو تسطيح وجه الارض وهو حاصل بمجرد تكوين الكرة واما بناءا على ما ذكرنا في معنى الدحو فلا حاجة الى ذلك.
وقوله (بعد ذلك) يدل على أن الدحو حصل بعد بناء السماء وتسويتها وإغطاش ليلها واخراج ضحاها ولا ينافي ذلك قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ..)[13] فان (ثم) هنا للتراخي في البيان بدليل قوله تعالى (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ..)[14] اذ لو كانت (ثم) للتراخي في الوجود لزم منه ان يكون تحقق الارض والسماوات بعد تقدير الاقوات في الارض!!
وهذه قرينة اخرى على ان المراد بالسماء في الآية 27 الغلاف الجوي المحيط بالارض لأن دحو الارض بمعنى إعدادها للحياة تحقّق بعد خلق هذا الغلاف ولكن لا علاقة لدحو الارض بأي معنى فرض بخلق الافلاك والنجوم.
ومنه يظهر ايضا أن الاحتمال الانسب في تفسير الدحو هو إعداد الارض من جميع الجهات لتحقق الحياة عليها والدحو بمعنى البسط كناية عن ذلك وأما الدحو بمعنى اظهار اليابسة فلا علاقة له بالسماء لا بهذا المعنى ولا بالمعنى الآخر كما أن الدحو بمعنى خلق الارض مدحوة كما قيل لا يرتبط ايضا بخلق النجوم والافلاك.
والحاصل أن تناسب التعبير في الآيات يقتضي ان يكون المراد بالسماء الغلاف الجوي وان يراد بدحو الارض إعدادها لتحقّق الحياة وتكوّن الاحياء عليها.
أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا... لعل عدم الاتيان بهذه الجملة معطوفة لأنه أحد مراحل الدحو بالمعنى الذي اشرنا اليه اي إعداد الارض للحياة فتكون هذه ايضا قرينة على صحة ما ذكرنا.
والمراد بالماء بقرينة المرعى الماء العذب وهذا الماء على ما يبدو ليس ساكنا في الارض ليخرج منها وانما هو من السماء ولعله الى هذا الامر يشير قوله تعالى (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ..).[15]
فالمراد بالاخراج إما باعتبار أن أصله من الارض حيث يتبخر منها ويعود اليها فيكون الاخراج إشارة الى كل هذه العملية وإمّا باعتبار أنّ المطر لا ينفع في الانبات في جميع الاماكن او في جميع الاوقات او الحالات الا بعد اسكانه في الارض وخروجه منها عن طريق العيون والانهار ونحوها. وإضافة الماء الى الارض لأن أصله منها.
والمرعى موضع الرعي وهو الكلأ الذي يرعاه الدوابّ وقد اختلف في اللغة في أنّ الاصل في هذه المادة الحفظ ثم تُوُسِّع فيها باعتبار أن الراعي يحفظ الدوابّ ثم اُطلق على فعل الدابة ايضا ولذلك يقال انها ترعى وترتعي او أن الاصل فيه هو أكل الدابة للاعشاب وحيث انه يلازم محافظة الراعي لها حين ارتعائها اطلق لفظ الرعي على الحفظ؟
ومهما كان فالمرعى محل رعي الحيوان ولكنهم قالوا ان المراد كل نبات يأكل منه الانسان والحيوان بقرينة قوله تعالى بعد ذلك (متاعا لكم ولانعامكم).
ويخطر بالبال أن هذا التعبير ايضا لا يخلو من تحقير للانسان فلم يذكر الله اخراج النبات بوجه عام ليشمل ما ياكله الانسان والحيوان وانما ذكر المرعى واعتبره متاعا لهما للاشارة الى أن الانسان في جهة حيوانيته وجسمانيته لا يختلف عن الانعام وذلك لكي يكسر كبرياءه واعجابه بنفسه كما ذكرناه في وجه الخطاب بهذه المجموعة من الآيات.
وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا... اي وأرسى الجبال عليها او تكون الالف واللام بدلا عن المضاف اليه اي وارسى جبالها.
والارساء: التثبيت يقال رست السفينة اذا ثبتت في البحر اما بوصولها الى الساحل او بالقاء المرساة في البحر.
وإرساء الجبال بمعنى خلقها راسية كما عبر عنها في غير مورد بالرواسي والاوتاد ومنها ما مر قريبا في سورة النبأ (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) ومر بعض الكلام حول هذا الامر في تفسيرها.
وفي ذكرها هنا إشارة الى ما لها من دور واضح في إعداد هذا الكوكب لتصلح للحياة ولعل أهمها في ما نعلم أنها مخازن المياه. ومعظم الأنهار في العالم تتغذى من المصادر الجبلية، وأكثر من نصف البشر يعتمدون على الجبال في الحصول على المياه.
وقد أثبت العلم الحديث أن للجبال ــ وهي تبلغ ربع مساحة سطح الارض تقريبا ــ امتدادا تحت سطح الأرض كحال الجذور عند النبات وأنها تساعد على تثبيت الأرض ومنعها من الميل والاضطراب وتحمي القشرة الأرضية ولولا هذه الجبال لما بقت الحياة على الأرض.
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ... مفعول لاجله اي فعل كل ذلك ليكون متاعا لكم ولانعامكم كما في مجمع البيان او باعتبار أن المتاع اسم مصدر بمعنى التمتيع كما قال الازهري في تهذيب اللغة.
والمتاع على ما يبدو من الاستعمال اللغوي كل ما ينتفع به لمدة وأمد محدود ومن هنا عبر عن كل ما في هذه الحياة في القرآن بانه متاع اي ان امده محدود وان كان طويلا نسبيا وهذا بلحاظ مقارنته بما في الحياة الآخرة.
وعليه ففي هذا التعبير ايضا إشارة الى أن كل ذلك ليس تكريما يستوجب هذا الكبر والطغيان وانما هو متاع لكم ولأنعامكم وقد مرّ أن في ذكر الانعام مع الانسان في التمتيع بالحياة الدنيا نوع تحقير له يقتضيه المقام.
والانعام جمع لا مفرد له وهو مأخوذ من النعمة يطلق في الاصل على الإبل لكثرة فوائدها لدى العرب حيث كانوا يعيشون في الصحراء ثُمّ اُطلق على الإبل والبقر والغنم.
[1] البقرة: 117
[2] الروم: 57
[3] الروم: 27
[4] طه: 31
[5] محمد: 4 صلى الله عليه وآله وسلّم
[6] فصلت: 15
[7] نهج البلاغة باب الحكم / الحكمة 124
[8] الصافات: 11
[9] الانبياء: 32
[10] الطور: 5
[11] الرحمن: 7
[12] الشمس: 6
[13] البقرة: 29
[14] فصلت: 9- 12
[15] المؤمنون: 18