فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى... حيث كان موضوع السورة البعث والنشور وابتدأها بالتأكيد عليه ونبّه على طغيان الانسان على ربه عاد هنا بالاستنتاج ممّا سبق أن الانسان سيتذكّر طغيانه يوم لا تنفعه الذكرى.
قيل: ان الفاء في اول الآية لتفريع ما يحدث يوم القيامة من التذكر والجزاء على كل ما ذكر قبله. ولكن الظاهر أنه تفريع على خصوص التمتع بالنعم في قوله تعالى (متاعا لكم ولانعامكم) فالمراد تنبيه الانسان على أن لا يغترّ بهذا المتاع فان أمده قصير وأن الذي يأتي بعده من أدهى الدواهي.
وقوله (اذا جاءت) ظرف يفيد معنى الشرط وجزاؤه قوله تعالى (فاما من طغى..).
والطامّة: الداهية التي تغلب ما سواها مما يصيب الانسان من نوائب الدهر وهي مأخوذة من طمّ الشيء اذا علا وغلب. وفي العين (طمّ البحر: غلب سائر البحور. وبحر طمطام. وطمّ البحر اذا زاد على مجراه ايضا). وتوصيفها بالكبرى يزيد شدتها تأكيدا وتفخيما ويدل على أنه لا شيء أكبر منها فهي أعظم داهية يصيب الانسان على الاطلاق والمراد بها يوم القيامة.
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى... ظرف لمجيء الطامّة وهذه الآية تنبّه على موضوع مهم جدّا وهو أنّ الانسان يتذكّر ذلك اليوم كل ما عمله. والسعي ــ كما مر ــ هو العدو او المشي السريع ويعبر به عن الجد والجهد في العمل.
والتذكّر يدل على أنه ينسى أعماله قبل ذلك وهو كذلك فانه ينساها في هذه الدنيا لا بعد انتقاله الى تلك الحياة وقلّما يذكر الانسان من عمله شيئا خصوصا اذا كان مما ينقص من قدره حتى عند نفسه ويوجب شعوره بالذل والخزي والعار فان الانسان يحاول ان يتناساه والسر في تذكّره ذلك اليوم انه يكشف عنه الغطاء ويخرج عن حجاب هذا الجسم فيجد الحقائق عارية واضحة.
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى... البروز: الظهور. والفعل مبنيّ للمجهول ولا شأن هنا لذكر فاعله فالمهم انها تبرز وتظهر. والجحيم: النار شديدة التأجج.
وقوله (لمن يرى) تعميم يشمل جميع الخلق وقيل انها تبرز للكافرين دون المؤمنين وهو خلاف ظاهر اللفظ بل خلاف الواقع وقد قال تعالى (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)[1] فالكل يراها بل يردها ولكنه تعالى ينجي منها المتقين.
ويبدو من التعبير بالابراز والاظهار أن جهنّم موجودة بالفعل وأنها معنا وليست في مكان آخر بعيد عنا ولا نحضر عندها ذلك اليوم بل هي حاضرة معنا ولكنها مخفية عن الابصار وتظهر في ذلك اليوم كما هو الحال في سائر الحقائق التي تظهر لنا يوم القيامة.
ولعل هذا هو المقصود بقوله تعالى (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).[2] بناء على أن (يوم) ليس ظرفا للاحاطة والا لم يكن جوابا مناسبا للاستعجال فالجواب انها محيطة حالا ولكن سيأتي يوم يغشاهم فيه العذاب فيشعرون به.
وكذلك قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[3] فان ظاهر الآية أن ظرف أكلهم النار هو هذه الحياة حيث يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ويوم القيامة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم.
وايضا قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)[4] فان قوله وسيصلون سعيرا يقتضي ان أكلهم النار في بطونهم هو متحقق في هذه الحياة كما هو ظاهر اللفظ ايضا. وغير ذلك من الآيات.
فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى... هذه الآية جواب قوله (فاذا جاءت الطامة الكبرى) والفاء لربط الجواب بالشرط اي يترتب على إبراز الجحيم تقسيم الناس الى من تكون الجحيم مأواه ومن يدخل الجنة.
والمأوى: المنزل. وهو مأخوذ من الأَوْي اي العود والرجوع فان الانسان وغيره يرجع الى مسكنه اينما ذهب او من التأوي بمعنى التجمع وانضمام شيء الى شيء كما يقال تأوّت الطير اي تجمّعت فان المنزل مجمع سكانه.
والتعبير عن الجحيم بالمأوى من باب التهكم والاستهزاء اومن باب التأكيد على انهم لا مأوى لهم ولا ملجأ من العذاب الا العذاب وهو ليس بملجأ طبعا فمعناه نفي المأوى مؤكّدا او للتنبيه على أنّهم لا يفارقونها فليست الجحيم عذابا عابرا. واللام في المأوى بدل عن المضاف اليه ويفيد مع الضمير الحصر ايضا اي فان الجحيم مأواه ولا مأوى له غيرها.
وقد ذكر في تحديد شخصية من يأوي الى الجحيم أنه الذي طغى وآثر الحياة الدنيا. والطغيان هو التجاوز عن الحدّ في العصيان ــ كما في معجم المقاييس والمفردات ــ والاصل فيه التجاوز عن الحد في اي شيء فيقال طغى الماء في النهر مثلا اذا فاض الماء وخرج من جوانبه. وعصيان أوامر الله تعالى قبيح قليلا كان او كثيرا الا ان هناك حدا ربما يعذر فيه الانسان حيث انه ليس معصوما والله تعالى غفار الذنوب فالمراد بالطغيان تجاوز هذا الحد.
وقد ورد طغيان فرعون في الآيات السابقة كنموذج لأعلى مراتب الطغيان حيث ادّعى الربوبية ودون هذه المرتبة مراتب كثيرة من الطغيان يستحق الانسان عليها ان تكون الجحيم مأواه فكل من يرفض الانصياع لحكم من أحكام الله تعالى فهو طاغ وان كان مطيعا في سائر الاحكام وكان لا يستكبر عن عبادة الله تعالى بوجه عام كما نجده في كثير من الناس فهناك فرق بين العصيان وترك الاطاعة في مقام العمل وبين العصيان ورفض التسليم لامر الله تعالى ولو جزئيا فلا بد لكل أحد من مراقبة نفسه.
وأما إيثار الحياة الدنيا اي ترجيح ملذاتها على نعيم الآخرة او على رضا الله تعالى فهي صفة أكثر الناس حتى بعض المؤمنين فالمؤمن وان كان يعمل للآخرة ويتقي الله ولا يرتكب المعاصي ولكنه غالبا يقدّم الدنيا على الآخرة اذا تعارضتا ويزهد في الآخرة ويكتفي بأقل مقدار من الواجب تجنبا من دخول النار.
ولكن المراد من الايثار في هذه الآية من لا يهتمّ بالآخرة نهائيا بل ربما لا يعترف بها كما قال تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[5] وقال ايضا (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا).[6]
وهذا الايثار لا يختص بالكفار بل قد يكون مورده مؤمنا بالله تعالى كما قال خطابا للمؤمنين (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[7]
ومنه يظهر أن الحكم بكون المأوى هو الجحيم لا يختص بامثال فرعون بل ولا بالكفار فقد يكون من آمن ظاهرا من هذا القبيل ايضا وما له في الآخرة من خلاق اي من نصيب.
وقال تعالى في موضع آخر خطابا لهم ايضا (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).[8]
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى... وفي مقابل الطغيان وإيثار الدنيا يذكر صفتين لمن يسكن الجنة: الاولى انه يخاف مقام ربه والثاني انه ينهى نفسه عن متابعة الهوى.
والمقام اسم مكان من القيام اي موضع قيام الشخص ويطلق مجازا على المكانة الاجتماعية في البشر ويتوسع فيه فيطلق على الشأن والعظمة وهذا المعنى الاخير هو المقصود هنا.
ولعل في التعبير اشارة الى الفرق بين الخوف من مقام الرب تعالى والخوف من عقابه فالملائكة الكرام ايضا يخافون الله قال تعالى (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[9] وقال ايضا عنهم (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)[10] ولكنهم لا يخافون العقاب لانهم معصومون (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ).[11]
وكذلك المعصومون من البشر ومن وصلوا الى الغاية في معرفته تعالى وهم المقربون من الانبياء والائمة عليهم السلام فانهم يخشون ربهم ولكنها ليست خشية من العقاب بل من مقامه تعالى وعظمته لانهم يعلمون أنهم لا يقدرون على أداء حقه تعالى ويشعرون دائما بالتقصير.
ومثل هذه الآية قوله تعالى (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)[12] ويلاحظ أن المراد بهؤلاء المقربون ولذلك اختلف التعبير عن جنتيهم عن التعبير في الفريق الثاني وهم الابرار حيث عبّر عن جنتيهم بانهما دون هاتين (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ).[13]
وكذلك قوله تعالى (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ)[14] ولعله لذلك كرر ذكر الخوف مما يدل على الفرق بين خوف المقام وخوف الوعيد.
وفي إضافة المقام الى الرب ايضا عناية خاصة حيث تدل على أنّ الخوف من جهة الربوبية والله تعالى يربي الانسان من دون إكراه فهناك تفاعل بين الربوبية وبين قبول التربية فالخوف انما هو في حدود هذا التفاعل وأن الانسان هل عمل بواجبه في قبول التربية ام لا؟
وقيل في تفسير المقام وجوه اخرى:
منها أنه بمعنى مقام الانسان أمام ربّه يوم القيامة لقوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِين).[15]
ومنها أنه مصدر بمعنى قيام الله عليه كما هو قائم على كل نفس لقوله تعالى (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَت)[16] فهو كناية عن التقوى.
وقيل غير ذلك.
والنهي فسره في المفردات بالزجر اي منع نفسه من متابعة الهوى. ولعل الاصل فيه بلوغ الغاية والنهاية كما في معجم المقاييس وانما يقال النهي لمن يمنع باللسان لانه يحاول ان يوصل فاعل المنكر الى نهايته بان يكتفي بما حصل ولا يستمر.
والمراد منع النفس من متابعة الهوى. والهوى ميل النفس الى ما تشتهيه ولعله مأخوذ من الهُويّ اي السقوط لأن الاهواء ومتابعتها تجرّ الانسان الى السقوط في المجتمع ويوم القيامة.
فمن كان كذلك فان الجنة مأواه ومنزله وقد مرّ تفسير المأوى آنفا الا أنه هنا على وجه الحقيقة فانها مسكنهم الابدي وهم مخلدون فيها لا يبغون عنها حِوَلا.
[1] مريم: 71- 72
[2] العنكبوت: 54- 55
[3] البقرة: 174
[4] النساء: 10
[5] هود: 15- 16
[6] النجم: 29
[7] البقرة: 200- 202
[8] الانفال: 67- 68
[9] النحل: 50
[10] الانبياء: 28
[11] التحريم: 6
[12] الرحمن: 46
[13] الرحمن: 62
[14] ابراهيم: 14
[15] المطففين: 6
[16] الرعد: 33