سورة القدر لها فضل عظيم والروايات في فضل قراءتها وخصوصا في الصلاة كثيرة وهي سورة اهل البيت عليهم السلام وقد اختلف في كونها مكية او مدنية واغلب الظن انها مدنية من جهة الاهتمام فيها بالعبادة في ليلة القدر وانها افضل من الف شهر مما يناسب أجواء المدينة حيث تم الاستقرار وتأسيس المجتمع الاسلامي والتفرغ للعبادة واصلاح النفس وليس فيها ما يناسب أجواء مكة.
وقد ورد في شأنها روايات كثيرة نتبرك بذكر بعضها:
روى الكليني والصدوق رواية المعراج وما امر الله به نبيه صلى الله عليه واله وسلم في كيفية الصلاة والحديث طويل وفيه (فقال يا محمد اقرأ الحمد فقرأتها مثل ما قرأتها أولا ثم قال لي اقرأ انا انزلناه فانها نسبتك ونسبة اهل بيتك الى يوم القيامة).[1]
قال المجلسي رحمه الله في مرآة العقول (قوله تعالى "فانها نسبتك" اي مبينة شرفك وكرامتك وكرامة اهل بيتك او مشتملة على نسبتك ونسبتهم الى الناس وجهة احتياج الناس اليك واليهم فان نزول الملائكة والروح بجميع الامور التي يحتاج الناس اليها اذا كان اليك واليهم فبهذه الجهة هم محتاجون اليك واليهم).
وفيما ذكره تكلف واضح والاقرب ان يكون المراد بالنسبة الامر المنتسب اي ان هذه السورة منتسبة اليك والى اهل بيتك بمعنى انها تشتمل على فضيلة لك ولهم الى يوم القيامة لان نزول الملائكة لا تكون الا عليهم وهو مستمر الى يوم القيامة في كل ليلة قدر كما سياتي توضيحه ان شاء الله تعالى .
وروى الصدوق بسنده عن اسماعيل بن سهل قال كتبت الى ابي جعفر عليه السلام (علمني شيئا اذا انا قلته كنت معكم في الدنيا والآخرة قال فكتب بخط اعرفه: أَكْثِر من تلاوة انا انزلناه ورَطِّب شفتيك بالاستغفار)[2]
والروايات كثيرة في فضل قراءتها في الركعة الاولى من الصلاة وقراءة التوحيد في الثانية كما ورد الامر بقراءتها في موارد عديدة ورويت لها آثار حسنة ومنها استحباب قراءتها على قبور المؤمنين.
روى الشيخ الطوسي بسنده عن ثابت ابي المقدام قال (مررت مع ابي جعفر عليه السلام بالبقيع فمررنا بقبر رجل من اهل الكوفة من الشيعة فقلت لابي جعفر عليه السلام جعلت فداك هذا قبر رجل من الشيعة قال فوقف عليه ثم قال اللهم ارحم غربته وصل وحدته وآنس وحشته وأسكن اليه من رحمتك رحمة يستغني بها عن رحمة من سواك والحقه بمن كان يتولاه ثم قرأ انا انزلناه في ليلة القدر سبع مرات)[3]
وروى الكليني بسند معتبر عن محمد بن احمد قال (كنت بفيد (اسم موضع) فمشيت مع علي بن بلال الى قبر محمد بن اسماعيل بن بزيع فقال علي بن بلال قال لي صاحب هذا القبر عن الرضا عليه السلام قال من اتى قبر اخيه ثم وضع يده على القبر وقرأ إنا أنزلناه في ليلة القدر سبع مرات امن يوم الفزع الاكبر او يوم الفزع)[4] الترديد من الراوي.
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ...
الضمير يعود الى القرآن وان لم يذكر لانه معلوم من السياق وظاهره أن القرآن باجمعه نزل في ليلة القدر كما يدل عليه ايضا قوله تعالى (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَة..)[5] لان الضمير يعود الى الكتاب المبين.
وأصرح منه قوله تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ..)[6] والمراد بنزوله في الشهر نزوله في ليلة القدر بقرينة آيتي سورة الدخان والقدر كما انهما بضميمة هذه الآية تدلان على ان ليلة القدر من ليالي شهر رمضان فلا وجه لاحتمال كونها النصف من شعبان ولا اقل من أن ليلة القدر التي نزل فيها القرآن كان في شهر رمضان لما سيأتي من احتمال كونها متغيرة.
انما الاشكال في انه كيف يوفّق بين نزول القرآن في ليلة واحدة كما صرّحت به الآيات وبين الواقع التاريخي الواضح وهو ان القرآن نزل في غضون ثلاث وعشرين سنة؟
وقد حاول العلماء الجمع بينهما بوجوه ذكرنا تفاصيلها في تفسير سورة الدخان ومجمل القول فيها كما يلي:
الوجه الاول: أن المراد نزول اول آية من القرآن في ليلة القدر وذلك لان تحديد تاريخ الامور التدريجية انما يتم بملاحظة وقت ابتداء تحققها لا نهايتها فاذا نزل جيش مثلا في مكان واحتاج استقرار جميعهم الى مدة طويلة كشهر مثلا فان تاريخ نزولهم يعتبر يوم ورود طلائعهم ومقدمتهم وهكذا سائر الامور التدريجية.
نعم ربما ينافي ذلك ما اتفقت عليه الامامية من أنّ البعثة كانت في السابع والعشرين من شهر رجب وان لم نجد له دليلا واضحا فان الروايات التي تشتمل على ذلك كلها ضعيفة الا انه من الشهرة بمكان يكاد يوجب الوثوق.
وعلى تقدير الثبوت يمكن أن يكون هذا اليوم اي السابع والعشرين من شهر رجب هو اليوم الذي اوتي الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم فيه النبوة ولا ملازمة بين ارسال الرسول وانزال الكتاب فان موسى عليه السلام ارسل رسولا ولم يؤت التوراة الا بعد سنين طويلة.
فلا منافاة بين كون البعثة في رجب وان تكون ليلة القدر وقت نزول اول مجموعة من ايات القرآن الكريم والمشهور انها مطلع سورة العلق وقد تبين انه لا دليل عليه بل سياق الآيات يأبى عن ذلك كما مر في تفسيرها.
الوجه الثاني: ان القرآن نزل جملة واحدة الى البيت المعمور في شهر رمضان وهو بيت في السماء محاذ للكعبة المشرفة كما في الحديث ثم نزل تدريجا في غضون ثلاث وعشرين سنة.
وورد ذلك في بعض الروايات ولكن السند ضعيف.
ومن المستبعد جدا ان يمنّ الله تعالى علينا بنزول القران في البيت المعمور خصوصا انه جعل ذلك منشأ لكرامة شهر رمضان وليلة القدر.
بل يبدو من قوله تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..)[7] أن تشريع الصوم في شهر رمضان من اجل الشكر لهذه النعمة العظيمة لانه تعالى رتّب وجوب الصوم في الشهر على نزول القران فيه ونحن لا نشعر بنعمة في نزول القران الى البيت المعمور.
بل ربما يظهر منها أن النزول فيه كان معلوما لدى عامة المسلمين في ذلك العصر اذ لم يرد بصورة الاخبار به بل بصورة التوصيف مما يدل على أنهم كانوا يعرفونه بهذا الوصف ولا شك أنهم ما كانوا يعرفون نزوله في البيت المعمور.
وهنا اشكال آخر وهو ان القرآن المنزل تدريجا لا يمكن جمعه في زمان قبل ذلك مطلقا لان الآيات نزلت بشأن الحوادث الواقعة ولا يمكن التعبير عن هذه الحوادث قبل حدوثها باللفظ الماضي.
وهناك وجوه اخرى من هذا القبيل وقد ذكرنا الجواب عنها في تفسير سورة الدخان وقلنا إن نفي هذا الوجه كاثباته لا يستند الى دليل قطعي.
الوجه الثالث: ما ذكره العلامة الطباطبائي قدس الله سره في تفسير قوله تعالى (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن..) وقد نقلناه بالتفصيل في تفسير سورة الدخان.
وملخصه أن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنما عبّرت عن ذلك بلفظ الانزال الدال على الدفعة دون التنزيل الدال على التدرج والسر فيه ان الكتاب له حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي وهو بهذا المعنى نزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دفعة واحدة ثم نزلت الآيات بالتفصيل تدريجا في غضون سنين وهذه الحقيقة ليست فيها تفاصيل وآيات وسور وقال ان هذا الكتاب الذي نراه ونقرأه بالنسبة لتلك الحقيقة بمنزلة اللباس من المتلبس واستدل على ذلك بعدة من الآيات.
وناقشنا هذه النظرية في تفسير سورة الدخان بالتفصيل وقلنا بالنهاية انها وان لم يكن لها دليل فنحن لا ننفيها أساسا وتبقى هي ايضا مجرد احتمال.
الوجه الرابع: ما ذكره جمع من العلماء ايضا وارتضاه سيدنا العلامة قدس سره حيث انه بعد التاكيد في الجزء الثاني من الميزان على الوجه المذكور ورفضه احتمال النزول جملة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عدل في تفسير سورة الدخان وفي ذيل قوله تعالى (فيها يفرق كل أمر حكيم) فقال:
(ولعل الله سبحانه أطلع نبيه صلى الله عليه واله وسلم على جزئيات الحوادث التي ستقع في زمان دعوته وما يقارن منها نزول آية او آيات او سورة من كتابه فيستدعي نزولها وأطلعه على ما ينزل منها فيكون القرآن نازلا عليه دفعة وجملة قبل نزوله تدريجا ومفرقا ومآل هذا الوجه اطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القرآن في مرحلة نزوله الى القضاء التفصيلي قبل نزوله على الارض واستقراره في مرحلة العين وعلى هذا الوجه لا حاجة الى تفريق المرتين بالاجمال والتفصيل كما تقدم في الوجه الاول).
ومراده بالوجه الاول ما نقلناه منه آنفا.
وعلى ذلك فيكون هذا توجيها آخر وهو ان القرآن نزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم تفصيلا لا اجمالا ودمجا ولكن في ضمن اعلام الله تعالى له بتفاصيل ما سوف يقضي به من حوادث تستتبع نزول الآيات فيكون بذلك قد اطّلع على الآيات ضمنا.
وهذا الوجه لا بأس به ايضا وان كان نزول كل هذه التفاصيل في ليلة واحدة امر مستبعد في العادة.
وعليه فكل من الوجوه الاربعة محتملة في المقام وبكل منها يمكن توجيه الآيات المذكورة ورفع التنافي بينها وبين النزول التدريجي والحمد لله.
ولكن الوجه الاول أقرب.
وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ...
استفهام لانشاء التعجب او كما يقال للتعجيب ولبيان عظمة هذه الليلة بصيغة نفي المعرفة بحقيقتها وقد كرر ذكر اسمها مع امكان ارجاع الضمير تأكيدا على الاهتمام بها.
والخطاب للرسول صلى الله عليه واله وسلم او لكل سامع وقارئ والجملة سؤال عن الامر الذي يوجب دراية المخاطب ومعرفته بشأن هذه الليلة والقصد منه نفي ذلك اي لا يوجد هنا ما يوجب درايتك بحقيقتها ومعنى ذلك انها اعظم من ان يحيط بها الانسان بذاته لولا ما نزل بشأنها من الله تعالى.
وقد قيل: (ما في القرآن "ما ادراك" الا وقد أدراه وما فيه "ما يدريك" الا ولم يبينه).
والسر في فعل الماضي والمضارع فالذي لم يدره سابقا سيعلمه بهذا البيان واما ما نفى عنه المعرفة مستقبلا فلا يمكن معرفته كموعد يوم القيامة حيث قال تعالى (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا)[8] وقال ايضا (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ).[9]
ولم يرد (وما يدريك) الا فيهما وفي قوله تعالى (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)[10] وقد مر في تفسير سورة عبس وجه القول بذلك.
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ...
أعيد اسمها مرة اخرى ايضا مع امكان ارجاع الضمير لما مر من مزيد الاهتمام.
وربما يبدو اشكال لدى بعض الناس ان الف شهر تشتمل على عدة ليالي قدر فما معنى تفضيلها على الف شهر؟ وما معنى تفضيل زمان على زمان اساسا؟
يتبين من بعض الروايات التي سنذكرها ان شاء الله تعالى ان كونها خيرا من الف شهر بمعنى ان العبادة فيها افضل واكثر ثوابا من العبادة في الف شهر ليس فيها ليلة القدر.
وهذا وان كان وجها لفضيلة هذه الليلة الا أن السؤال يبقى على قوته لان هذه الفضيلة وكثرة الثواب تتبع ارادة الله تعالى ولطفه وعنايته ولا تتوقف على خصوصية في ذات الليلة.
وربما يقال بأن السر في عظمة هذه الليلة هو نزول القرآن فيها وانها بذلك اصبحت من ايام الله تعالى والزمان يتميز بما يحدث فيه.
ولكن الظاهر من قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ..)[11] أنها بذاتها ليلة مباركة وأن اختيار انزال القرآن فيها من أجل كونها مباركة قبل نزوله.
ولعل السر في عظمتها والاهتمام بشأنها هو أنها ليلة تقدير الامور كما يظهر ذلك من الآية التالية على ما سياتي ان شاء الله تعالى فاختصاص الزمان من جهة وقوع امر مهم فيه وهو التقدير.
ومقتضى سياق هذه الآيات ومطلع سورة الدخان أن انزال القران في هذه الليلة باعتبار انها ليلة مباركة وانها ليلة تقدير الامور المهمة. ولهذا سميت ليلة القدر لان القدر بمعنى التقدير لا لما قيل من أن القدر بمعنى الفضل والشرف وغير ذلك مما قالوا.
وقد ورد في فضل هذه الليلة روايات كثيرة في كتب الفريقين ويدل على فضيلتها قبل كل شيء ما ورد في هذه السورة من فضلها وفي سورة الدخان ايضا حيث وصفت بانها ليلة مباركة ولم يوصف بها اي زمان في القرآن.
ويفهم وجه التسمية بالقدر ايضا من قوله تعالى (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[12] فان الفرق بمعنى الفصل وقلنا في تفسير الآية ان المراد إمّا هو الحكم الفصل بمعنى تثبيت الامور وقضائها قضاءا حتميا قطعيا وإمّا هو تفصيل الامور الحكيمة بمعنى بيان تفاصيل المقضيّات والمقدرات فيها.
وتوصيفها بالحكمة إمّا من جهة انها مقتضى الحكمة واما من جهة انها يمتنع فيها التغيير والتبديل.
والجملة تعليل لانزال القرآن في ليلة القدر بلحاظ أنها ليلة الحكم الفصل وانجاز الامور المهمة والحكيمة.
روى الكليني قدس سره بسند صحيح عن الفضيل وزرارة ومحمد بن مسلم عن حمران أنه سأل أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزوجل: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة..) قال: نعم ليلة القدر وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الاواخر فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر قال الله عزوجل: (فيها يفرق كل أمر حكيم) قال: يقدّر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل خير وشر وطاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق فما قدر في تلك السنة وقضى فهو المحتوم ولله عزوجل فيه المشيئة قال: قلت: (ليلة القدر خير من ألف شهر) أيّ شيء عنى بذلك؟ فقال: العمل الصالح فيها من الصلاة والزكاة وأنواع الخير خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ولولا ما يضاعف الله تبارك وتعالى للمؤمنين ما بلغوا ولكن الله يضاعف لهم الحسنات)[13] وورد في بعض النسخ اضافة (بحبنا).
ويظهر من هذه الرواية أن وجه التسمية بليلة القدر أن كل شيء من امور السنة يقدّر في هذه الليلة من خير وشر وطاعة ومعصية ومولود واجل ورزق وان هذه المقدرات التي تتنزل بها الملائكة في تلك الليلة هي من المحتوم.
واما قوله عليه السلام (ولله عز وجل فيه المشيئة) فمعناه أنه تعالى ليس محكوما بما يقدره ويقضيه فله أن يغير ما يشاء وان كان لا يغير ما قدره في هذه الليلة وابلغه وليه في الارض اي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم او الامام عليه السلام ولكن عدم تغييره ليس بمعنى انه ملزم بما قدّر.
واستثناء المشيئة لا ينافي الحتمية كما انه تعالى استثنى خلود اهل النار والجنة فيهما بالمشيئة ايضا قال تعالى (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ..).[14]
ثم ان التقدير وحتمية القضاء لا ينافيان اختيار الانسان وارادته ايضا فان ارادته جزء من الاسباب ولم يقدّر الله تعالى ان هذا الامر يقع حتى لو لم يتحقق السبب بل قدّر انه يتحقق السبب فيتحقق الامر ومن السبب ارادة الانسان واختياره.
قال العلامة الطباطبائي رحمه الله (قوله عليه السلام "فهو المحتوم ولله فيه المشيّة" اي انه محتوم من جهة الاسباب والشرائط فلا شيء يمنع من تحققه الا ان يشاء الله ذلك).
والحاصل أن فضل هذه الليلة منوط بأنها ليلة التقدير وانشاء القضاء الحتم الذي لا يرد ولا يبدل كما ورد في بعض ادعية هذا الشهر المبارك.
ولكن هذا الامر بذاته يثير سؤالا وشبهة من جهة ان الله تعالى لا يمكن ان يكون مترددا في امر فما معنى حتمية القضاء؟ وما الذي يقابله؟ وقد ورد التعبير بالقضاء الحتمي في روايات كثيرة.
ثم ما معنى تقدير الامور في ليلة والليل صفة لزمان خاص على قسم خاص من الكرة الارضية وهي باجمعها نقطة صغيرة في غاية الصغر في هذا الكون المادي وهذا الكون باجمعه يعتبر ارضا لتلك السماوات العلى التي هي مقر الملائكة ومصدر التدبير؟ فما معنى تقدير الامور المهمة في الكون في ليلة ارضية؟
ويلاحظ ان هذه الليلة نهار في نصف اخر من الكرة الارضية فكيف يكون التقدير لهم؟ وما علاقة الارض بتقدير السماء؟ ولماذا حدّد التقدير بليلة والله تعالى قد قدّر من الازل وهو يقدّر ويدبّر من دون تحديد بمكان وزمان؟
وهذه الاسئلة بصور مختلفة تتوارد على الاذهان وتذكر في بعض الكتب والتفاسير ايضا ويتحاشى القوم من البحث عن الجواب!!!
والجواب أن ليلة القدر ليلة إبلاغ الامام على الارض بما سيحدث في حدود إمامته وهذا هو ميزة هذه الليلة وهذه الميزة تختص بموضع خاص من الكرة الارضية فيه الامام عليه افضل التحية والسلام ونحن لا نعرف قدره ولا نعرف دوره في الكون.
والروايات في هذا الشان كثيرة سياتي ذكر بعضها عند الكلام على من تنزل عليه الملائكة والروح في ليلة القدر ان شاء الله تعالى.
واذا كان امتياز هذه الليلة بالتقدير لا بنزول القرآن وكان معنى التقدير هو ابلاغ الرسول صلى الله عليه واله وسلم او الامام بما قضى الله تعالى وقدر وكان بدء انزال القرآن الكريم في هذه الليلة فلعل اول تقدير ابلغ به الرسول صلى الله عليه واله وسلم هو نزول القرآن فانه كان اماما قبل ذلك يوم بعث رسولا وهذا مما يؤيد كون المبعث في السابع والعشرين من شهر رجب.
وهناك اختلاف بين الشيعة وغيرهم في تحديد ليلة القدر فالعامة غالبا يعتبرون الليلة السابعة والعشرين من شهر رمضان المبارك ليلة القدر وان احتمل بعضهم غيرها وعند الشيعة مرددة بين التاسعة عشر والحادية والعشرين والثالثة والعشرين ولكن اكثر الروايات تحصرها في الاخيرتين.
نعم ورد في بعضها ان وفد الحاج يكتب في ليلة تسع عشرة وقد مر تفصيل القول فيها في تفسير سورة الدخان.
والحاصل انه لا يبعد ان يستفاد من الروايات تردد ليلة القدر بين الاحدى وعشرين والثالثة وعشرين ولكن لليلة تسع عشرة ايضا شأن وورد فيها الغسل واعمال اخرى ولا يبعد الاعتماد على ما يدل على ان وفد الحاج يكتب فيها.
وهناك روايات تدل على أن ليلة القدر احدى ليالي العشر الاواخر من دون تحديد ويبدو من ملاحظة الروايات المختلفة أن هناك تعمدا من قبل الائمة المعصومين عليهم السلام بإخفائها في العشر الاواخر بل في كل الشهر الفضيل وذلك حثّا للناس على أن يبتهلوا الى الله تعالى في كل هذه الليالي ولكن اهتم الأئمة عليهم السلام بالترديد بين الحادية والعشرين والثالثة والعشرين منها.
روى الكليني بسند صحيح عن حسان بن مهران عن ابي عبد الله عليه السلام قال (سألته عن ليلة القدر فقال التمسها في ليلة احدى وعشرين او ليلة ثلاث وعشرين). [15]
وقد مر في صحيحة الفضلاء آنفا أنها في كل سنة في شهر رمضان في العشر الاواخر.
وروى الشيخ بسند موثق عن زرارة عن ابي جعفر عليه السلام قال (سالته عن ليلة القدر قال هي ليلة احدى وعشرين او ثلاث وعشرين. قلت: أليس انما هي ليلة؟ قال: بلى. قلت: فأخبرني بها. فقال: وما عليك ان تفعل خيرا في ليلتين).[16]
بل في بعض الروايات أن الاخفاء كان من قبل الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم فقد روى الصدوق بسنده ــ وهو صحيح ــ عن زرارة عن ابي جعفر عليه السلام (أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم لما انصرف من عرفات وسار الى منى دخل المسجد فاجتمع اليه الناس يسألونه عن ليلة القدر فقام خطيبا فقال بعد الثناء على الله عزّ وجلّ أما بعد فإنّكم سألتموني عن ليلة القدر ولم أطوها عنكم لأني لم أكن بها عالما اعلموا أيها الناس انه من ورد عليه شهر رمضان وهو صحيح سويّ فصام نهاره وقام وردا من ليله وواظب على صلاته وهجر الى جمعته وغدا الى عيده فقد أدرك ليلة القدر وفاز بجائزة الرب عزّ وجلّ). وقال ابو عبدالله عليه السلام (فازوا والله بجوائز ليست كجوائز العباد) [17] اي انها ليست من نعم الدنيا.
وهذا الحديث يردّ على ما رواه العامة من انه صلى الله عليه واله وسلم كان يجهلها وذلك في عدة روايات بصور مختلفة وردت في صحاحهم.
ويدل الحديث بوضوح على أن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لم يبيّن موعد ليلة القدر لكي يهتم الناس بشهر رمضان وبالتعبّد فيه الى يوم العيد وأخفاها في كل الشهر ولم يحدّدها بالعشر الأواخر منه ويلاحظ أنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم أضاف الى الصوم وأعمال الليالي حضور الجمعة والعيد.
بل ورد إخفاؤها في كل السنة في صحيحة الحلبي قال قال ابو عبدالله عليه السلام (اذا كان الرجل على عمل فليدم عليه سنة ثم يتحول عنه ان شاء الى غيره وذلك أن ليلة القدر يكون فيها في عامه ذلك ما شاء الله ان يكون).[18]
ولعل المستفاد من هذه الصحيحة أن ليلة القدر ربما تتغير من سنة الى سنة وأنها غير متعين في الواقع بمعنى أن تعيين الليلة التي يقدر فيها الامور يعود اليه تعالى ولكن احتمال مصادفتها للحادية والعشرين والثالثة والعشرين من شهر رمضان وخصوصا الثانية اقوى منه بالنسبة الى سائر الايام كما أن احتمال وقوعها في العشر الاواخر منه اقوى من غيره.
ومما يقوّي احتمال عدم التعين انه لا خصوصية في الزمان خصوصا بملاحظة الكون العظيم حيث لا ترتبط شؤونه بالازمنة الخاصة التي تحدث بدوران الارض حول نفسها وهي جزء صغير في غاية الصغر من الكون وخصوصا بملاحظة اختلاف الليالي باختلاف الامكنة حتى لو اشتركت في جزء من الليل وبالاخص اذا اضيف الى هذا الكون المادي عالم الملائكة عليهم السلام والله العالم.
وبهذا الاحتمال يمكن توجيه ما ورد من ذكر خصائص طبيعية لليلة القدر مع انا لم نجد شيئا منها في هذه الليالي التي يحتمل كونها منها.
فقد روى الكليني بسند صحيح عن محمد بن مسلم عن احدهما (اي الامامين الباقر والصادق عليهما السلام ) قال سألته عن علامة ليلة القدر فقال (علامتها ان تطيب ريحها وان كانت في برد دفئت وان كانت في حرّ بردت فطابت).[19]
وقد ورد في روايات العامة ايضا ما يدل على علامات طبيعية خاصة بها ففي الدر المنثور عدة روايات في ذلك حيث قال:
(أخرج أحمد وابن جرير ومحمد بن نصر والبيهقي وابن مردويه عن عبادة بن الصامت انه سال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لَيْلَةِ الْقَدْرِ فقال في رمضان في العشر الأواخر فإنها في ليلة وتر في احدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين أو آخر ليلة من رمضان من قامها ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن أماراتها انها ليلة بلجة صافية ساكنة ساجية لا حارة ولا باردة كأنّ فيها قمرا ساطعا ولا يحل لنجم ان يرمى به تلك الليلة حتى الصباح ومن أماراتها ان الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها مستوية كأنها القمر ليلة البدر وحرم الله على الشيطان ان يخرج معها يومئذ).
ولو فرض تعيّن ليلة القدر واقعا فهل هي ليلة واحدة في جميع الآفاق ام تختلف حسب اختلافها؟
الظاهر أنّها تختلف حسب الآفاق بناءا على ما هو الصحيح من اختلاف بداية الشهر العربي باختلاف الافق فلا تكفي رؤية الهلال في بلد لسائر البلاد بل حتى لو قلنا بكفاية رؤيته في بلد لما يشترك معه في الليل او في معظمه كما قيل فانه ايضا يستوجب الاختلاف في الجملة.
وأمّا الاختلاف في الرؤية وفي ثبوتها واختلاف الانظار الفقهية في مناطات ثبوت الهلال فلا يوجب الاختلاف في واقعها فعلى من يحاول ان يدرك الاعمال المستحبة فيها ان يعمل في ليلتين بل اربع وقد ورد ذلك في بعض الروايات.
روى الكليني بسنده عن علي بن أبي حمزة الثمالي[20] قال: كنت عند أبي عبدالله عليه السلام فقال له أبوبصير: جعلت فداك الليلة التي يرجى فيها ما يرجى؟ فقال: في إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين قال: فإن لم أقو على كلتيهما؟ فقال: ما أيسر ليلتين فيما تطلب قلت: فربما رأينا الهلال عندنا وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك من أرض اخرى فقال: ما أيسر أربع ليال تطلبها فيها... الحديث.[21]
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ...
(تنزّل) في الاصل (تتنزل) حذفت احدى التاءين فهو فعل مضارع ويدل على استمرار النزول كل عام.
والظاهر أن المراد بالروح هنا جبرئيل عليه السلام وخصّ بالذكر مع أنه من الملائكة لشرافته وكرامته في السماء كما قال تعالى بشأنه (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ).[22]
وقيل الروح: الوحي. وقيل طائفة خاصة من الملائكة. وفي بعض الروايات انه مخلوق عظيم اعظم من الملائكة. وقد مر الكلام بالتفصيل حول حقيقة الروح ومناقشة هذه الروايات في تفسير قوله تعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا).[23]
والظاهر ان نزول الملائكة الى الارض وقيل الى السماء الدنيا.
وورد ذلك في بعض الروايات والسند ضعيف ومنها مرسلة الكليني وربما يتصور انها رواية صحيحة فقد روى في ذيل الصحيحة التي نقلناها آنفا في علامة ليلة القدر وانها يطيب ريحها (قال وسئل عن ليلة القدر فقال تنزل فيها الملائكة والكتبة الى السماء الدنيا فيكتبون ما يكون في امر السنة وما يصيب العباد... الحديث).
وهذه رواية مرسلة ولا يعلم من المقصود بقوله (قال وسئل) ومن الواضح انه ليس من تمام الرواية السابقة اذ الكلام فيها كان عن ليلة القدر فلا معنى لان يقال (وسئل عن ليلة القدر) مرة اخرى.
ولو صح النقل فهو لا ينافي النزول الى الارض لان المراد بالارض ليست الكرة الارضية بل عالم المحسوسات. والملائكة لا تنزل الى هذا العالم الا في حالات خاصة حيث يتمثلون كبشر لبعض الانبياء او غيرهم وانما تباشر اعمالا في عالمنا مع كونهم في عالمهم ويعبر عن عالمهم بالسماء لانهم ارفع مستوى من عالم المحسوسات والسماء تعبير عن العلو فنزولهم الى السماء الدنيا اي اقرب ما يكونون الى عالم المحسوسات وليس معناه انهم ينزلون من علو مادي كما يتوهم.
وبوجه عام نزول الملائكة له معنيان نزولهم من عالمهم الى عالم المحسوسات بالتمثل لبشر والآخر نزولهم بشيء الى الارض من خير وشر كما قال تعالى نزل به الروح الامين على قلبك.
واما قوله باذن ربهم فقد قالوا بان المراد انهم لا يتصرفون من قبل انفسهم بل باذن ربهم كما هو الحال في كل حركة منهم بل لو اريد الاذن التكويني فلا حركة بدون اذنه تعالى في الوجود.
والذي يفسر الاذن بهذا المعنى يتكلف في تفسير قوله تعالى (من كل امر) فتراهم يترددون بين كونها بمعنى الباء او لابتداء الغاية او للتعليل.
والصحيح ان ما يتنزلون به هو الاذن ومن كل امر متعلق به اي ان كل امر اي شيء له عدة احتمالات ووجوه يتنزلون بما ياذن به الله تعالى من تلك الوجوه.
وهذا هو القول الفصل في تحديد ما يجب ان يكون او لا يكون والاذن بناءا على ذلك مصدر بمعنى اسم المفعول اي ما ياذن به الله تعالى.
وهو بنفسه مفاد قوله تعالى (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[24] فالامر الحكيم ما يحكم به الله تعالى تكوينا. والفرق بمعنى الفصل اي يفصل هذا الحكم عن سائر المحتملات حيث يتحقق هذا الحكم ويسقط غيره.
انما الكلام هنا أن الملائكة والروح على من تتنزل في هذه الليلة ففي عصر الرسالة الشريفة كانوا يتنزلون على الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلّم ولكن هذا الامر مستمر بعده ايضا كما هو مقتضى الفعل المضارع فمن هو الذي تتنزل عليه الملائكة؟
عامة المفسرين يتحاشون البحث عن ذلك ومن تعرض له ذكر وجوها غريبة في توجيه تنزلهم بحيث لا يستوجب نزولهم على احد.
ففي روح المعاني (قيل ينزلون إليها للتسليم على المؤمنين وقيل: لأن اللّه تعالى جعل فضيلة هذه الليلة في الاشتغال بطاعته في الأرض فهم ينزلون إليها لتصير طاعاتهم أكثر ثوابا وقال عصام الدين: يحتمل أن يكون تنزلهم لإدراكها إذ ليس في السماء ليل، والجملة حينئذ مقررة لما سبق لا مبينة لمناط الفضل وفيه نظر لا يخفى... وقيل: المراد تنزلهم إلى السماء الدنيا – ثم قال – وهو خلاف المتبادر)
وفصل الرازي كعادته وذكر وجوها غريبة ونحن نلخصها:
(أحدها قال بعضهم ينزلون ليروا عبادة البشر وجدهم واجتهادهم في الطاعة وثانيها أن الملائكة استأذنوا أولا فأذنوا، وذلك يدل على غاية المحبة، لأنهم كانوا يرغبون إلينا ويتمنون لقاءنا لكن كانوا ينتظرون الإذن!! وثالثها أنه تعالى وعد في الآخرة أن الملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فههنا في الدنيا إن اشتغلت بعبادتي نزلت الملائكة عليك حتى يدخلوا عليك للتسلم والزيارة ورابعها أن اللّه تعالى جعل فضيلة هذه الليلة في الاشتغال بطاعته في الأرض فهم ينزلون إلى الأرض لتصير طاعاتهم أكثر ثوابا وخامسها أن الإنسان يأتي بالطاعات والخيرات عند حضور الأكابر من العلماء والزهاد أحسن مما يكون في الخلوة فاللّه تعالى أنزل الملائكة المقربين ليعلم المكلف أنه يأتي بالطاعات في حضورهم وسادسها كلما كان الجمع أعظم كان نزول الرحمة هناك أكثر كما في موقف الحج فكذا في ليلة القدر يحصل مجمع الملائكة المقربين فلا جرم كان نزول الرحمة أكثر).
ويردّ كل ما ذكروه ان العبادات من المؤمنين كثيرة ومتكررة فلماذا اختص نزولهم بهذه الليلة والمسلمون في الحج اكثر تعبا وعبادة.
مضافا الى أن نزولهم كما هو صريح الآية انما هو لانزال التقدير الالهي في كل أمر وليس لحضور العبادات والملائكة الكتبة يكتبون كل شيء من خير وشر في كل يوم وكل لحظة ومن كل احد ولا علاقة لذلك بليلة القدر فالنزول في ليلة القدر ليس الا لانزال التقدير ولكن لماذا ينزل التقدير على الارض او على السماء الدنيا كما قالوا وقد مر الكلام فيه؟
الجواب عند ائمة اهل البيت عليهم السلام
روى الكليني بسنده عن الامام الكاظم عليه السلام (ما من ملك يهبطه الله في امر الا بدأ بالامام فعرض ذلك عليه وان مختلف الملائكة من عند الله تبارك وتعالى الى صاحب هذا الامر)[25]
وروى الصفار في البصائر عن ابن بكير عن ابي عبدالله عليه السلام قال (ان ليلة القدر يكتب ما يكون منها في السنة الى مثلها من خير او شر او موت او حياة او مطر ويكتب فيها وفد الحاج ثم يقضى ذلك الى اهل الارض فقلت الى من من اهل الارض فقال الى من ترى). ويقصد نفسه عليه السلام.
ثم روى الصفار عدة روايات بهذا المعنى.[26]
ولعل بعض الناس يستغرب نزول الملائكة على الائمة عليهم السلام بما قدر الله تعالى في السنة من كل امر ولكننا في الواقع نجهل دور الامام في الكون فضلا عن دوره في المجتمع.
ويلاحظ أن الملائكة لما ارسلوا لانزال العذاب على قوم لوط عليه السلام بدأوا بالهبوط على بيت سيدنا ابراهيم عليه السلام ليخبروه بما امروا به ومعنى ذلك أنهم مأمورون باخباره قبل البدء بانزال العذاب وبشروه باسحاق عليه السلام قبل اخباره بذلك ولعله لتلطيف الجو قبل ان يعلن العذاب فانه عليه السلام كان رؤوفا بالناس.
قال تعالى (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[27] يلاحظ انه عليه السلام لم يدع على من لم يتبعه في اهم الامور عنده وهو التوحيد بل اوكلهم الى مغفرته تعالى ورحمته.
ويلاحظ ايضا في نفس هذه القصة انه اخذ يدافع عن قوم لوط عليه السلام قال تعالى (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ).[28]
والملفت في القصة هو اصل نزول الملائكة عليه السلام لاخباره بهذا الامر والظاهر انه ليس ذلك الا من جهة انه هو الرسول صاحب الشريعة وهو الامام فلابد من اعلامه بذلك.
ومن هنا يتبين اهمية دور الامام في الكون فضلا عن المجتمع.
ومن هنا ايضا يتبين الجواب عمن يسال عن حكمة وجود الامام الغائب عليه السلام وما هو تأثيره في الامة ودوره في المجتمع فان مقامه وتأثيره مجهول عندنا.
ومن هنا اعتبرت هذه السورة سورة اهل البيت عليهم السلام. وقد مر في حديث المعراج خطابه تعالى للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بان هذه السورة نسبتك ونسبة اهل بيتك الى يوم القيامة.
ومر ايضا ما روي في أن الملائكة تتنزل عليهم عليهم السلام وتخبرهم بما قدر في السنة والروايات في ذلك كثيرة.
وروى الصفار عن عمر بن يزيد قال قلت لابي عبدالله عليه السلام (ارايت من لم يقر بما ياتيكم في ليلة القدر كما ذكر ولم يجحده قال اما اذا قامت عليه الحجة من يثق به في علمنا فلم يثق به فهو كافر واما من لم يسمع ذلك فهو في عذر حتى يسمع ثم قال عليه السلام يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين).[29]
سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ...
الظاهر أن (سلام) خبر مقدم وهي مصدر بمعنى السلامة. واطلاق اللفظ على الليلة من باب المبالغة فكأنها هي بذاتها عين السلامة والبعد عن الآفات والبلايا.
ولكن يبدو الامر غريبا لاننا لا نجد فرقا بينها وبين سائر الليالي كما مر في علامة ليلة القدر بطيب الريح واعتدال الجو ولو قيل بانها ليلة غير محددة فالواقع انا لا نجد ليلة من بين كل ما يمر علينا من الليالي تتصف بهذه الصفة بصورة عامة فلا توجد ليلة يكون البشر كلهم في امان وسلام.
ومن هنا نجد المحاولات العديدة للتخلص من الاشكال:
فقيل ان المراد السلامة في الدين.
وهو ايضا غير حاصل للجميع كما هو واضح وحتى للمؤمنين خاصة فلا توجد ليلة يختلف فيها حال آحادهم.
وفي الميزان انه إشارة إلى العناية الإلهية بشمول الرحمة لعباده المقبلين إليه وسد باب نقمة جديدة تختص بالليلة ويلزمه بالطبع وهن كيد الشياطين كما أشير إليه في بعض الروايات.
وعليه فليست هي سالمة من كل الجهات الا ان الله تعالى لا يفتح باب نقمة جديدة تختص بالليلة وهذا بذاته لا يعتبر وصفا خاصا بها فالله تعالى لا يفتح في كل ليلة او كل يوم باب نقمة جديدة حتى تتميز هذه الليلة بعدم الفتح.
وقيل: المراد به أن الملائكة يسلّمون على من مروا به من المؤمنين المتعبدين.
وهذا وارد في كلام اكثر مفسري العامة. والتهرب فيه واضح فهذا امر لا يمكن ان يكتشف كما لا يمكن ان يكتشف خلافه ولكن لا نجد في ذلك ادنى فائدة للمؤمنين وليس هذا كالسلام عليهم يوم القيامة كما قال تعالى (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ).[30]
فان المراد هناك ان السلامة امر واقعي تلقيه الملائكة عليهم من كل باب ومن كل جهة فالجنة سالمة من العيوب والآفات تماما وليس بمعنى إلقاء السلام عليهم لفظا كما يتصور فلو كان المراد هنا نفس ذلك المعنى لزم ان تتعقبه السلامة التامة كما هناك ولا نجد هذا الامر في الدنيا في اي ليلة من لياليها.
وقيل: سالمة من تأثير الشياطين على المؤمنين.
وهذا نفس ما قيل من السلامة في الدين وقد مر الكلام حوله.
واما ما اشار اليه في الميزان من ورود ذلك في الروايات فلا بد من تأويلها لو صحت الرواية فقد ورد ان الشياطين مغلولة طيلة الشهر المبارك في الخطبة النبوية المعروفة ونحن نجد الشياطين شرقا وغربا يزيدون من نشاطهم في هذا الشهر بكامله.
وقيل: سلام متعلق بقوله (من كل امر) وقوله (هي حتى مطلع الفجر) جملة مستقلة وذلك لان الملائكة قد ينزلون للعقاب والعذاب وقد ينزلون للخير او لهما فهنا حدد انهم لا ينزلون الا بالسلامة.
ولكن هذا لا يرفع الاشكال فان السلامة من كل امر لا نجدها حتى لخاصة المؤمنين في اي ليلة من ليالي الدهر.
ومن الواضح ان الاشكال اوقع الجميع في حيرة اذ لا توجد ليلة من ليالي الدهر تعتبر ليلة سلام ووئام في الكون.
والجواب عند اهل البيت عليهم السلام:
روى الصفار بسنده عن داود بن فرقد قال (سالته عن قول الله عز وجل انا انزلناه في ليلة القدر وما ادراك ما ليلة القدر؟ قال نزل فيها ما يكون من السنة الى السنة من موت او مولود قلت له الى من؟ فقال الى من عسى ان يكون؟! ان الناس في تلك الليلة في صلاة ودعاء ومسالة وصاحب هذا الامر في شغل تنزل الملائكة اليه بامور السنة من غروب الشمس الى طلوعها من كل امر سلام هي له الى ان يطلع الفجر).[31]
فهذه الرواية تقول بان ليلة القدر سلام للامام عليه السلام الى مطلع الفجر ولو لم ترد الرواية ايضا لكان هذا هو الصحيح فحسب لان الملائكة والروح لا تتنزل على عامة الناس كما ذكرنا وانما تتنزل على الرسول صلى الله عليه واله وسلم وعلى الامام عليه السلام فهي سلام على الامام الى مطلع الفجر.
ولكن ما معنى السلام هل هو بمعنى السلامة في الدين فالامام معصوم عما يخدش سلامته في الدين دائما او السلامة في الدنيا بمعنى انه لا يصاب بشيء فيها فربما يقال ان سيد الائمة صلوات الله عليه اصيب فيها وتوفي فيها فكيف التوفيق؟
ولعل ليلة القدر في تلك السنة كانت في الثالثة والعشرين.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الامين وآله الميامين ائمة الخلق اجمعين.
[1] الكافي ج3 ص486 باب النوادر من الصلاة وعلل الشرايع ج2 ص316
[2] ثواب الاعمال ص 165
[3] التهذيب ج6 ص 105 باب شرح زيارة قبورهم
[4] الكافي ج3 ص229 باب زيارة القبور
[5] الدخان: 2- 3
[6] البقرة: 185
[7] البقرة: 185
[8] الاحزاب: 63
[9] الشورى: 17
[10] عبس: 3
[11] الدخان: 3
[12] الدخان: 4
[13] الكافي ج4 ص156 باب ليلة القدر ح6
[14] هود :107- 108
[15] الكافي ج4 ص156 باب ليلة القدر ح1
[16] التهذيب ج3 ص 58 باب فضل شهر رمضان ح3
[17] ثواب الاعمال ص64
[18] الكافي ج2 ص82 باب استواء العمل والمداومة عليه
[19] الكافي ج4 ص156 باب ليلة القدر
[20] وفي بعض النسخ علي بن ابي حمزة البطائني والظاهر انه الصحيح وعليه فالسند ضعيف
[21] الكافي: ج4 ص 156
[22] التكوير: 19- 21
[23] الشورى: 52
[24] الدخان: 4
[25] الكافي ج1 ص394 باب ان الائمة تدخل الملائكة بيوتهم
[26] بصائر الدرجات ص240
[27] ابراهيم: 35- 36
[28] هود: 74- 76
[29] بصائر الدرجات ص244 باب ما يلقى الى الائمة في ليلة القدر
[30] الرعد : 23 - 24
[31] نفس المصدر