مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)

إنّا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنّة... البلوى: الامتحان. والمراد هنا الامتحان بالنعمة. فالغرض من الآية تنبيه القوم بمناسبة ذكر المال والبنين بأنّ ما اُوتوا من النعمة اختبار لهم، كما قال تعالى بوجه عام (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً..)[1] وتحذير لهم بأنّهم اذا لم يعملوا بما أراد الله تعالى منهم فسيسلبهم النعمة كما سلبها من أصحاب الجنة، وقد سلب منهم ايضا.

والجنّة من جنّ اذا ستر. وهي البستان العظيم الذي يستر شجره الارض. وورد في روايات لم تثبت صحتها أنّها كانت في اليمن او في بني اسرائيل او غير ذلك، وأنّها كانت لشيخ كبير يساعد بثمرها المساكين كل عام، فلما انتقلت بموته الى أبنائه عزموا على الاستـئـثـار بكل ثمرها. وقيل: إنّ اهل مكة كانوا يعلمون بالقصة.

ولكن الظاهر أنه مثل، ولا يجب أن يكون الحديث عن مورد خاص، فهو متكرر في جميع الاعصار والامكنة بوجوه مختلفة، اختار الله تعالى ما هو الانسب للمخاطبين. والله تعالى كثيرا ما يضرب الأمثال، كالجنتين في سورة الكهف مثلا.

إذ أقسموا ليصرمنّها مصبحين * ولا يستثنون... الصرم: القطع. و(مصبحين) حال من أصحاب الجنة حين الصرم. والمراد بعدم الاستثناء عدم إبقاء جزء منها للمساكين. اي حلفوا في ما بينهم حينما شاهدوا ثمرها الكثير أنّهم سيصبحون غدا اليها ويقطعون ثمرها ويبيعونها ويقتسمون أثمانها ولا يعطون المساكين شيئا منها.

وقيل: معنى الاستثناء قول (إن شاء الله) لأنه بمنزلة أن تقول: (سأفعل ذلك الا أن يشاء الله). وهو بعيد لأنه ورد بصيغة المضارع. ولو اُريد ذلك لقال (ولم يستثنوا) مضافا الى أنّ الغرض من القصة ليس هو الحثّ على قول (إن شاء الله) بل المنع من الاستئثار بالمنافع الماديّة وعدم دفع حق السائل والمحروم منها.

فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون... الطائف كل ما يحيط بالشيء. وأتى به منكرا للتعظيم اي أحاط بجنّتهم أمر عظيم، كما قال تعالى (واُحيط بثمره) في قصة الجنتين.

وقوله (من ربك) لا يدل على أن ذلك كان عذابا خاصا بهم، وأنّه حدث بصورة معجزة. فكل أمر طبيعي ايضا من الله تعالى، فالمهم أنّ ما أناطوا به آمالهم اُحيط به وتلف الى آخره وهم نائمون غافلون عن مستقبل أمرهم.

فأصبحت كالصريم... صرم ــ كما مرّ ــ بمعنى قطع، اي فأصبحت الجنة كأنها قطعت أثمارها فلم يبق على الشجر شيء منها. والصريم فعيل بمعنى المفعول. وفسر الصريم بمعان اخر كالليل والرماد والرمل. ولا أراها مناسبة. ولم تبيّن الآية نوع العذاب فربما كان صاعقة محرقة أبدلت الجنة رمادا وربما كان مطرا شديدا او ريحا عاصفة او جليدا مبيدا للثمر فقط.

فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم ان كنتم صارمين... (أن) مفسرة للنداء. اي بعد ما أصبحوا وهم لا يعلمون بما طاف على جنّتهم تنادوا اي نادى بعضهم بعضا وهم يقولون (اغدوا على حرثكم). والغدو: الذهاب صباحا، اي لا تتأخروا واخرجوا في باكورة الصباح الى زرعكم وجنّتكم، ان كنتم صارمين اي قاطعين لثمرها، وهذا شرط محقق حسبما اتفقوا عليه. وهذا التنادي علامة فرحهم وابتهاجهم بهذا اليوم الذي سينعمون بما تعبوا عليه طيلة العام.

فانطلقوا وهم يتخافتون * أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين... (أن) هنا ايضا مفسرة لما كانوا يتخافتون به، اي يقوله بعضهم لبعض بخفوت، وهو الهمس في القول، مما يدلّ على سوء نية باتوا عليها ــ وهي بيت القصيد ــ فقد بيّـتوا النيّة وأكّدوا عليه صباحا حين انطلاقهم الى الجنة أن امنعوا المساكين من دخولها حين الصرم فلا يدخلها أحد منهم. ذكروا ذلك بصيغة النهي وبنون التأكيد للتأكيد على المنع الباتّ. وهذه الجملة تدلّ على أنّ دخول الفقراء فيها كانت عادة في ما سبق، ولعلها في عهد المورّث.

ويذكّرنا هذه الآية بحديث عن الامام الصادق عليه السلام قال الراوي: (قلت له: جعلت فداك بلغني أنك كنت تفعل في غلة عين زياد شيئا وأنا أحب أن أسمعه منك قال: فقال لي: نعم كنت آمر إذا أدركت الثمرة أن يثلم في حيطانها الثلم ليدخل الناس ويأكلوا. وكنت آمر في كل يوم أن يوضع عشر بنيّات، يقعد على كل بنيّة عشرة، كلما أكل عشرة جاء عشرة أخرى، يلقى لكل نفس منهم مدّ من رطب. وكنت آمر لجيران الضيعة كلهم: الشيخ والعجوز والصبي والمريض والمرأة ومن لا يقدر أن يجيئ فيأكل منها، لكل إنسان منهم مدّ، فإذا كان الجذاذ أوفيت القوّام والوكلاء والرجال أجرتهم، وأحمل الباقي إلى المدينة ففرّقت في أهل البيوتات والمستحقين الراحلتين والثلاثة والأقل والأكثر على قدر استحقاقهم، وحصل لي بعد ذلك أربعمائة دينار، وكان غلّتها أربعة آلاف دينار). [2]

هكذا كان أئمة أهل البيت عليهم السلام، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن بالله واليوم الآخر. وأين هذا من سيرة أعدائهم؟!.

وغدوا على حرد قادرين... اللطيف في هذا التعبير مقابلته لما قالوه في ما بينهم (اغدوا على حرثكم) فغدوا على حرد بدلا من غدوّهم على حرث. والحرد من حرَدَتِ السنة اي منعت خيرها، فالمعنى أنهم أصبحوا قادرين على نكد وحرمان. وفي التعبير بكونهم قادرين على ذلك مع تقديم الجار والمجرور مما يدل على الحصر تهكّم واستهزاء بهم حيث كانوا يريدون منع الفقراء من الانتفاع بما اكتسبوه فاصبحوا لا يقدرون الا على حرمان أنفسهم.

وهناك وجوه اخرى ذكروها في معنى الآية غير واضحة ولا حاجة الى ذكرها.

فلما رأوها قالوا انا لضالّون... من حسن عاقبتهم أنهم تنبّهوا لمجرّد رؤية العاقبة الوخيمة التي مُنيت بها جنّتهم فما أن رأوها حتى اعترفوا بأجمعهم أنهم قد ضلّوا الطريق الصحيح في التعامل مع ما أنعم الله به عليهم.

بل نحن محرومون... الظاهر أنّ مرادهم بذلك أنّ المحروم ليس هو المسكين الذي منعوه من دخول جنّتهم، بل المحروم هم حيث منعهم الله تعالى من كل الثمر.

قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبّحون... الوسطية بمعنى الاعتدال في التفكير واتّخاذ الموقف، فهذا القائل أعدلهم فكرا وأقربهم طريقا الى الصواب. ويتبين من الآية أنّ هذا الاخ كان قد أمرهم بالتسبيح لله تعالى قبل ذلك فرفضوا. وهنا عاد فذكّرهم بما قال لهم قبل نزول البليّة. و(لولا) للتحضيض.

 ولعلّ الحثّ على التسبيح باعتبار أنّ امتناعهم من دفع حق الفقراء يبتني على فكرة أنّ المال لهم وقد كسبوه بأيديهم فلا حقّ لأحد فيه كما قال قارون (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي).[3]

ومعنى ذلك رفض التسليم لأمر الله تعالى في ذلك. وهو في الواقع نفي لكون ذلك مما أنعم الله تعالى عليه. ولو كان مؤمنا بذلك كان يسلّم أنّ الواجب عليه دفع ما جعله الله تعالى حقا واجبا في ماله للفقراء. وهذا انكار لعموم ربوبيته تعالى ويجب أن ينزّه عنه.

ولو تأمّلنا لرأينا أن هذا هو لسان حال كل من يمتنع من أداء الحق الشرعي مهما كان، وان لم يصرّح به المسلم فهو في قرارة نفسه يعتقد أنه اكتسب المال بتعبه فهو أولى به.

قالوا سبحان ربنا إنّا كنّا ظالمين... وهذا من حسن نيتهم حيث تابوا واستجابوا دعوة اخيهم وسبّحوا ربهم فور تنبيههم واعترفوا بظلمهم حين قصدوا منع المساكين حقهم.

وجملة (إنّا كنّا ظالمين) قد تكون مستقلة للاعتراف بالذنب، وقد تكون تعليلا لإنشاء التسبيح، فمعناها أنّنـا نسبّحه تعالى مما كنّـا نتوهّم حيث اعتبرنا المال لنا بالاستقلال فإنّ هذا كان ظلما منا. والظلم كما قلنا مرارا لا يتوقف صدقه على وجود مظلوم، بل الظلم هو كل عمل او اعتقاد في غير محله. وقد مرّ تفسير التسبيح في المقام آنفا.

فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون... وهكذا طبيعة الانسان، يشترك جمع منهم في عمل، وربما يؤيّد كل منهم الآخر حينه، ثم اذا رأوا النتائج السيئة يلقي كل منهم اللائمة على غيره، ويحاول أن يبرّئ نفسه، وقلّ من يعترف بما عليه من الاثم.

واللوم درجة خفيفة من التوبيخ. ومعنى التلاوم أن بعضهم أقبل يلوم بعضا آخر. فيمكن أن يكون ذلك حالة الجميع فيقوم كل منهم بإلقاء اللائمة على الآخرين كما هو المشهود عند غالب الناس، او أن بعضا معينا منهم لام بعضا معينا آخر. ولعل الملوم هو من أصرّ على ذلك او من اقترحه. وطبيعة الحال تقتضي اختلافهم في ذلك.

قالوا يا ويلنا إنّـا كنّـا طاغين... يبدو أنّ هذه الجملة مما استخلصوه من الحادثة فاتّـفقوا على أنّ الاثم عليهم جميعا. ولعل الأوسط ايضا اعترف بأنّـه كان شريكا في الاثم فالمفروض منه أن لا يتبع ما اتّـفقوا عليه من منع المساكين ولا يشاركهم في ذلك، فاعترفوا جميعا بأنهم كانوا طاغين، وأي طغيان؟! طغيان على الله تعالى، فإنّ منع المساكين من حقهم الذي جعل الله تعالى لهم امتناع من الانقياد له وطغيان عليه. وهو في غاية القبح.

عسى ربّنا أن يبدلنا خيرا منها إنّـا الى ربّـنـا راغبون... نعمت النتيجة التي حصلوا عليها في النهاية، فالابتلاء وان كان صعبا الا أنّهم حققوا باجتيازه نجاحا باهرا حيث تجاوزوا عن الامور المادية، ورغبوا في ربهم وتحصيل رضاه.

ولعل قولهم (أن يبدلنا خيرا منها) لا يقصدون به جنّة خيرا منها في الدنيا بل يقصدون ثواب الآخرة، بدليل قولهم (إنّـا الى ربّنا راغبون) فهم عرفوا مقام ربهم، وآمنوا به، وتعلّقوا به، ورغبوا في رضاه. وهو غاية المنى.

كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون... عود الى مخاطبة المشركين وتهديدهم بأنّ عذاب الدنيا قد يكون بهذه المثابة فيتحوّل الانسان في ليلة واحدة فقيرا معدما. ولعذاب الآخرة أكبر لأنه لا ينتهي، ولا يموت الانسان فيستريح، ولأنّ الانسان يكشف له الغطاء فيرى فظاعة عمله، ويشعر بخبث ذاته، وهو أشدّ العذاب.

وجواب قوله تعالى (لو كانوا يعلمون) محذوف، اي لو كانوا يعلمون ما حقيقة عذاب الآخرة لتغيّرت أحوالهم، ولاستعدّوا له ولأهواله.  

وفي التنبيه على عذاب الآخرة إشارة الى ان الابتلاء بالخير قد لا ينتهي بعذاب الدنيا، بل ربما يبقى الانسان الى آخر عمره منعما مترفا ولكنه يعذّب في الآخرة، وهو أشدّ على الانسان لو كان يعلم حقيقة ما يحدث في تلك النشأة.



[1] الانبياء: 35

[2] الكافي ج3 ص569

[3] القصص: 78