إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
إنّ للمتقين عند ربهم جنّـات النعيم... لمّا بيّن عذاب المجرمين يوم القيامة أشار الى حال المتقين ايضا لبيان المقابلة، اذ يقتضي المقام ذكر حال من يقابلهم، وليكون الكلام آكد في خسارتهم، حيث إنّهم مضافا الى العذاب يخسرون نعمة عظيمة.
وقوله تعالى (عند ربهم) للاشارة الى أنّ أهمّ ما في تلك النعمة هو كونهم عند ربهم. ويمكن أن يكون بمعنى أنّه تعالى تعهّد لهم بذلك كما تقول (لك عندي الف) فإنّ ذلك يختلف عن قولك (لك ألف).
والتعبير بالرب للاشارة الى أنّ هذه العاقبة انما بلغوها بتربيتهم تربية لائقة أوصلتهم الى هذا المقام، وليس هناك توزيع للجوائز بالقرعة او الحظّ او الواسطة او المال.
وأتى بلفظ الجمع في ذكر الجنة تنبيها على أنّ لكل أحد جنته ومقامه. وفيه إشارة الى اختلاف الجنّـات باختلاف الدرجات. وإضافة الجنات الى النعيم يوحي بأن تلك الجنات لا تشتمل الا على النعمة، فالنعمة هناك لا يشوبها ألم ولا تستتبع شيئا من المنغّصات.
أفنجعل المسلمين كالمجرمين... تعليل لهذا الانعام وذلك لأنه لا يجوز منطقيا أن تكون عاقبة المسلم الذي أسلم أمره لله تعالى وانقاد لأوامره وأطاعه كعاقبة المجرم عنده تعالى. وقد مرّ غير مرّة أن الإجرام بمعنى القطع، وأنّ المراد به يختلف حسب الموارد، فاذا ورد في كلامه تعالى فلا يبعد أن يراد به الاثم الذي يوجب قطع علاقة الانسان بربّه كالشرك والتكذيب للرسالات عنادا واستكبارا حتى لو كان ذلك في بعض ما أتى به الرسول.
ومن هنا يتبين أنّ المسلم لا يراد به كل من تشهّد الشهادتين، بل من أسلم وجهه لله تعالى، فلا يشمل المنافقين، والذين في قلوبهم مرض، والذين يرفضون الانصياع لكل ما أتى به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ولو أمرا واحدا كالولاية.
ويبدو من سياق الآيات أنه كان من أفكار المشركين او أقوالهم أنه لو كان هناك معاد لكان لهم فيه الحظ الأوفى كما كان لهم في الدنيا، قال تعالى في حكاية كلام الكافر في محاورته للمؤمن في قصة الجنتين: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا)[1] وقال ايضا (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى).[2]
ومن الغريب أن يصدر مثل هذه الاقوال من بعض المؤمنين بتصور أنّ من أنعم الله عليه في الدنيا فليس ذلك الا لخصوصية فيه تقتضي مثله يوم القيامة. والقرآن مشحون بخلاف ذلك ومنها هذه الآيات.
ما لكم كيف تحكمون... استفهامان استنكاريان. ماذا حدث لكم اي من الخلل في التفكير؟ كيف تحكمون؟ وبأي مقياس تنظرون الى الجزاء؟ كيف يمكن أن يكون حال المسلم والمجرم واحدا فضلا عن أن يكون حال المجرم افضل من المسلم؟
وبذلك يتبين أن الحكم بلزوم مجازاة كل من الفريقين بما يناسبه من ضرورة العقل والمنطق، وأن الحكمة الالهية لا يمكن أن تسمح بغير ذلك.
أم لكم كتاب فيه تدرسون إنّ لكم فيه لما تخيّرون... لمّا ثبت أن هذا ليس من المنطق والحكمة ذكر وجوها اخرى يبتني عليها هذا التوهم الفاسد ليردّها:
فالاول أن يكون ذلك نزل في كتاب سماوي.
وفساد هذا التوهم واضح اذ لم ينزل عليهم كتاب ولا يدّعونه، فذكر مثل ذلك ليس الا لبيان أن ما يدّعونه في غاية البعد.
والضمير في قوله (فيه) يعود الى الكتاب اي تدرسون فيه. والدرس هو القراءة المتكررة بحيث توجب اندراس الكتاب. وقوله (إنّ لكم..) بيان لما يدرسونه. والضمير في (فيه) الثانية يعود الى يوم القيامة، و(تخيّرون) اي تتخيرون بمعنى تختارون. فحاصل الجملة: هل نزل عليكم كتاب من الله تعالى تقرأون فيه إنّ لكم كل ما تحبونه وتختارونه يوم الجزاء.
أم لكم أيمان علينا بالغة الى يوم القيامة إنّ لكم لما تحكمون... وهذا هو الوجه الثاني الذي يمكن ان يستندوا اليه وهو ايضا واضح الفساد، وهو دعوى أنّ لهم أيمانا على الله تعالى أن يعطيهم كل ما أرادوه وحكموا به.
والجمع في الأيمان قد يكون بمعنى أنّه تعالى قد حلف لكل واحد منهم بالوعد المذكور. ويمكن أن يراد بالجمع عدّة أقسام للتأكيد.
وقوله (علينا) صفة للأيمان، وكذلك قوله (بالغة) اي مؤكدة، وقوله (الى يوم القيامة) كناية عن التأبيد باعتبار أنّ من يتعهد بشيء في هذه الحياة الى يوم القيامة معناه أنهأنه أنه لا يرجع عنه، ولا يراد الاستمرار الى ذلك اليوم واقعا، اذ لا يبقى احد هذه المدة الطويلة.
وجملة (إنّ لكم لما تحكمون) هي الجملة المقسم عليها حسب الفرض. كل هذا استهزاء بتفكيرهم الساذج الخاطئ.
سلهم أيّهم بذلك زعيم... وجّه الخطاب الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وترك مخاطبتهم مباشرة، ابتداءا من هذه الآية، لعدم أهليتهم للخطاب بعد ما تبين سفاهتهم بما قالوه، فأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بأن يسألهم: من الذي تعهّد لهم من زعمائهم او غيرهم بأن مصيرهم أفضل من المؤمنين؟ فقوله (بذلك) بناءا على هذا الاحتمال اشارة الى اصل توقعهم بأن يكون مصيرهم أفضل من المؤمنين. والزعيم: الكفيل.
ويمكن أن يكون (بذلك) اشارة الى التعهد ولم يسبق ذكره ولكنه مدلول عليه بكلمة الأيمان. ومعنى الجملة من هو طرف هذا التعهد المزعوم منهم؟
وهذا ايضا استهزاء آخر بهم وبأفكارهم وبكبرائهم فانهم كلهم على شاكلة واحدة. وليس فيهم من يمكنه أن يتكفل بذلك او يكون طرفا للتعهد.
أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم ان كانوا صادقين... وهذا عدل لوجود زعيم يتكفّل لهم ذلك فالمعنى هل هناك كفيل منهم، أم أنّهم يستندون في ذلك الى شركائهم ويدّعون أنّهم يتعهدون به؟ والمراد بهم الآلهة التي يدعونها أربابا من دون الله تعالى.
وقوله (لهم) بمعنى أن الشركاء تختص بهم حسب معتقدهم، ولذلك أضافهم اليهم في الجواب. وفي الجواب يطالبهم بأن يأتوا بشركائهم يوم القيامة ان كانوا صادقين. وهم لا حول لهم ولا قوة في الدارين.
يوم يكشف عن ساق... يمكن أن يكون هذا ظرفا للجملة السابقة (فليأتوا..) ويمكن أن يكون متعلقا بمحذوف للتنبيه على الاهتمام به اي اذكر يوم..
والكشف عن الساق كناية عن شدّة الامر اذ يشمّر الناس ويكشفون عن سوقهم للفرار، او لإنجاز أمر مهم كإطفاء حريق مثلا. وهذا تعبير عن شدّة الأهوال يوم القيامة.
ولكن بعض المفسرين ذهب الى أنّ المراد بالساق ساق الله (تعالى الله عما يصفون) وذلك لروايات رواها القوم وبعضها في الصحاح.
ففي البخاري (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ فَيَبْقَى كُلُّ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا) [3]
ورواه ايضا في حديث آخر عن ابي سعيد وهو طويل يشتمل على أعاجيب كثيرة وفيه ايضا (..قَالَ فَيَأْتِيهِمْ الْجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا فَلَا يُكَلِّمُهُ إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ فَيَقُولُ هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ فَيَقُولُونَ السَّاقُ فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لله رِيَاءً وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا...) [4]
وقد روى السيوطي الحديث الاول عن مصادر اخرى وحديثا آخر أغرب بكثير عن عدة مصادر ومنها مستدرك الحاكم قال (وصححه)!!!
وفيه (قال: فينطلق كل إنسان منكم إلى ما كان يعبد في الدنيا ويتمثل لهم ما كانوا يعبدون في الدنيا، فيتمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويتمثل لمن كان يعبد عزيراً شيطان عزير، حتى يمثل لهم الشجرة والعود والحجر ويبقى أهل الإِسلام جثوماً فيتمثل لهم الرب عز وجل، فيقول لهم: ما لكم لم تنطلقوا كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا ربّاً ما رأيناه بعد، فيقول: فبم تعرفون ربكم إن رأيتموه؟ قالوا: بيننا وبينه علامة إن رأيناه عرفناه. قال: وما هي؟ قال: {يكشف عن ساق} فيكشف عند ذلك عن ساق فيخر كل من كان يسجد طائعاً ساجداً، ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون…) الى آخر الحديث وفيه كثير من الغرائب. [5]
ويحتار الانسان كيف يعلّق على مثل هذه الاحاديث؟! وكيف يعتبر القوم كل ذلك صحيحا؟! ولعل الاولى هو السكوت وإحالة ذلك الى ضمير القارئ، أما نحن فلا نعرف ربّنا بساقه، بل نعرفه بآياته.
ويقول بعض المفسرين إنّ هذه الاخبار ضعيفة. ولا أدري مع ذلك كيف يقال: إنّ كل ما في البخاري صحيح؟!
ويُدعون الى السجود فلا يستطيعون... لا يجب أن تكون الدعوة لفظا فلا حاجة الى تكلّف إسناده الى الملائكة كما في التفاسير، بل يبعد ذلك اذ لا يؤذن لهم في شيء من هذا القبيل، وإنّما الدعوة تأتيهم من شدة الموقف المدلول عليها بكشف الساق، فهول الامر يدعوهم الى السجود خشوعا وتوسّلا ولكنهم لا يستطيعون ذلك.
والظاهر أنّ عدم استطاعتهم باعتبار أنّ الانسان ليس له في تلك النشأة أن يختار ما يشاء، فلا يمكن أيّ فعل أو قول الا ما أذن الله به، قال تعالى (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ..)[6] وليس هناك اذن عام كما هنا، والله تعالى لا يسمح لهم بالسجود حيث لم يسجدوا في الدنيا كما يشير اليه في الآية التالية.
خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلّة... خشوع البصر: الإطراق الى الارض بحيث لا يرفع رأسه من البهت والحيرة والخوف. ورهق الشيءَ: غشيه. فقوله ترهقهم ذلّة بيان لحالهم، فهم مطرقون برؤوسهم لا يرفعونها، وقد غشيتهم الذلّة والانكسار، وهم كانوا يتكبرون في الارض ولا يخضعون لشيء. وهنا يتحقق الوعيد (سنسمه على الخرطوم). وتظهر من بيان حالهم كيفية منعهم من السجود فهم لا يستطيعون ذلك لما غشيهم وأصابهم.
وقد كانوا يدعون الى السجود وهم سالمون... اي في الدنيا حيث كانوا يتمتّـعون بالاختيار، ولا ترهقهم ذلة وانكسار، ورؤوسهم مرفوعة، وأجسامهم سليمة. وهذه الآية تشير الى السبب في منعهم هناك، وهو أنّهم امتنعوا من السجود يوم سلامتهم.