فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
فذرني ومن يكذّب بهذا الحديث... الفاء للتفريع. اي حيث تبيّن بطلان طريقتهم، وأنّهم يعادون الله تعالى، ويكذّبون رسالاته فذرني وإيّاهم، اي اتركني للانتقام منهم، ولا تشفع لهم، ولا تسأل عنهم، ولا تهتمّ بشأنهم. وهو تهديد ووعيد للمشركين، وتسكين وتطييب لخاطر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، فالذي يتكفل دفع الاعداء هو جبّار السماوات والارض.
والظاهر أنّ المراد بالحديث الذي يكذّبونه هو الحديث عن النشأة الآخرة وما يحصل للمشركين من الذلّ والعذاب. ويحتمل أن يكون المراد به القرآن الكريم.
سنستدرجهم من حيث لا يعلمون... بيان لما هدّد به في الجملة السابقة بأنّ طريقة انتقامه تعالى منهم هو الاستدراج، وأن ذلك يتمّ في المستقبل القريب على ما يدلّ عليه السين في (سنستدرجهم).
والاستدراج جرّ الشيء درجة درجة، والمراد أنّه تعالى ينعم عليهم أكثر فأكثر، ويوسّع عليهم من أنواع النعم. وكلما زادوا كفرا وبعدا عن الحق زادهم نعمة ليزيدوا كفرا واستحقاقا للعذاب، إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة.
وانما كان ذلك من حيث لا يعلمون لأنّه أتاهم من حيث النعمة وزيادتها ووفورها، وهم بالطبع لا يعلمون، بل لا يحتملون أن تكون هذه النعمة موجبة لشقائهم، فيتوغّلون في الاستمتاع بها غافلين عن عواقبها.
والروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام كثيرة في هذا الشأن.
فعن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة (أَيُّهَا النَّاسُ لِيَرَكُمُ الله مِنَ النِّعْمَةِ وَجِلِينَ كَمَا يَرَاكُمْ مِنَ النِّقْمَةِ فَرِقِينَ إِنَّهُ مَنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجاً فَقَدْ أَمِنَ مَخُوفاً وَمَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ اخْتِبَاراً فَقَدْ ضَيَّعَ مَأْمُولًا).
ذات اليد اي صاحبها وهو المال. وليس المراد أنّ كل صاحب مال مستدرج، بل المراد أنّ الغنيّ يجب أن لا يغفل ويخاف من كون السعة استدراجا. كما أنّ الفقير يجب أن يعتبر ذلك اختبارا وامتحانا، ولا يعتبره إهانة من الله تعالى، فإنّه إن اعتبره امتحانا أتى بما ينبغي له تجاه ذلك فيفوز برضوان الله تعالى، والا فقد ضيّع مأمولا اي فرصة كان يؤمّل أن ينتهزها ليبلغ رضوان الله تعالى.
وفي حديث عن الامام الصادق عليه السلام (إِنَّ الله إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً فَأَذْنَبَ ذَنْباً أَتْـبَـعَه بِنَقِمَةٍ ويُذَكِّرُه الِاسْتِغْفَارَ وإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرّاً فَأَذْنَبَ ذَنْباً أَتْبَعَه بِنِعْمَةٍ لِيُنْسِيَه الِاسْتِغْفَارَ ويَتَمَادَى بِهَا وهُوَ قَوْلُ الله عَزَّ وجَلَّ: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) بِالنِّعَمِ عِنْدَ الْمَعَاصِي).[1]
وفي حديث آخر عن عمر بن يزيد قال: (قَالَ قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله عليه السلام إِنِّي سَأَلْتُ الله عَزَّ وجَلَّ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالاً فَرَزَقَنِي وإِنِّي سَأَلْتُ الله أَنْ يَرْزُقَنِي وَلَداً فَرَزَقَنِي وَلَداً وسَأَلْتُه أَنْ يَرْزُقَنِي دَاراً فَرَزَقَنِي وقَدْ خِفْتُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجاً فَقَالَ أَمَا والله مَعَ الْحَمْدِ فَلَا). [2]
ومن هنا يتبين أنّ الاستدراج إنّما يكون في ما اذا كانت النعم تتوالى على الانسان وهو لا يحمد الله تعالى ولا يشكره على نعمه، بل يرى نفسه مستحقّا لها، ويظنّ أنّ الله تعالى أدّى واجبه تجاهه، اوينسب النعم الى العوامل الطبيعية والوسائط وينسى منعمه وربه، بل ربما ينسبها الى نفسه والى علمه وخبرته.
وليعلم أن الشكر والحمد ليسا بالقول فحسب، فربما يحمد الانسان ربه بلسانه لعادة تربّى عليها ولا يحمده بقلبه حيث لا يعرف قدره ولا يستشعر عظمته، او لا يحمده بفعله ولا يؤدّي ما يجب عليه في النعمة، ولكل نعمة حق على صاحبها يجب أداؤه.
فاذا رزق الولد ولم يهتمّ بتربيته التربية الصالحة التي تجعله عضوا مفيدا مؤثرا في المجتمع، لا في الشؤون المادية فحسب، بل الأهمّ من ذلك أن يربّيه تقيا ورعا يفيد الناس في ما هم غافلون عنه من شؤون الآخرة، او لم يهتمّ بالانفاق عليه او برعاية شؤونه الصحية سواء النفسية او الجسمية فهو لم يشكر ربه على نعمته. وهكذا كل إهمال في شأن تربية الاولاد.
واذا رزق جاها وسمعة وقبولا لدى عامّة الناس او لدى من بيده اُمورهم ولم يستخدمه في مساعدة ذوي الحاجات ممن يراجعونه ويطالبونه بالتوسط لما فيه الخير، وما يستحقونه، وما لا يضر احدا، ولا يخالف شرعا او قانونا، فلم يشكر النعمة.
ومن رزق مالا ولم يؤدّ الحقوق الواجبة بل والمستحبة ولم يساعد الفقراء، او أسرف في الصرف على نفسه وذويه، او أتلف المال وبذّره تبذيرا فقد كفر بنعمة ربه. وهذا محل ابتلاء كثير من الناس في كثير من المجتمعات.
والاستدراج لا ينتهي في الغالب الى عذاب الدنيا بل يبقى الكافر بربّه متنعما طول حياته، وانما ينتهي الى شقائه الابدي في الآخرة، والغالب من الناس لا يهتمّ بهذا التحذير، ويبقى فرحا بما اُوتي من النعم مع احتماله او علمه بما يترتب على تفريطه من الشقاء في الآخرة، جهلا منه بشدة العذاب، او استبطاءا منه فإنّ الانسان عجول لا يهتمّ الا بما يترتّب على فعله عاجلا.
وربما لا يهتمّ باحتمال عذاب الآخرة استبعادا منه كما نسمعه من كثير من الناس حيث يستبعدون ما تحدثت به كتب السماء من عذاب الله يوم القيامة ويرونه مخالفا للرحمة الالهية.
ثمّ إنّ الاستدراج ربما ينتهي الى عذاب الدنيا ايضا، بل التوغّل في النعمة والافراط في استخدام النعم والرفاه والبذخ هو بذاته يجرّ المجتمع الى ما لا يحمد عقباه كنتيجة طبيعية. ويبدأ تأثيره السيّء في المجتمع من الترهّل والركون الى الراحة وعدم التحرك علميا وجسميا ممّا يتسبّب في كثير من المضاعفات الخطيرة في الجسم والروح.
ولذلك نجد المجتمع الغنيّ الغارق في النعمة المادّيّة غير مؤهّل لمواجهة الصعوبات. واذا تعرّض بلدهم لأيّ هجوم معاد تفككت أجزاؤه، واضطر الى الاعتماد على دول اخرى حتى لو كانت أعداءا من جهة ثانية.
مضافا الى ما نجده من التخلّف في العلم حتى ما يحتاج اليه المجتمع في الحياة الدنيا، لعدم شعور شبابه بالحاجة الى التعلم لكسب المال فيفقدون الحافز الطبيعي لتحمّل مشقّة التعلّم. ونجدهم في الغالب يتوجّهون الى مختلف الطرق غير المشروعة لكسب المال، او تحصيل الشهادة من دون رصيد علمي. وتفشّي ذلك يعتبر من أخطر الظواهر الاجتماعية.
والحاصل أنّ وفور النعمة من دون الاهتمام بأداء الحقّ الواجب من جميع الجهات هو بذاته من المخاطر الاجتماعية، ومما يوجب الكسل وانتشار الفساد. ولعلّ ذلك ايضا مقصود في كلامه تعالى حيث يحذّر من الاستدراج.
واُملي لهم إنّ كيدي متين... الاملاء: الامهال. قال تعالى (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ).[3]
ومعنى الامهال أنه لا يعاجلهم بالعذاب او الهلاك قبل بلوغ الاجل، والله تعالى لا يخاف الفوت فالعالم كله في قبضته. وانما يمهل رحمة منه وإرفاقا حتى يفيق من يكون مستعدا للافاقة من البشر.
وكل هذا التحذير ايضا من رأفته ورحمته بعباده حتى لا يباغتهم بالعاقبة السيئة، ولكنّ الانسان مصرّ على التغافل والاشتغال بما يتلذّذ به، والتلهّي عن الامر الأهمّ وعن مستقبله المجهول.
والمراد بالكيد المكر والاحتيال ضدّ أحد، فكلّ ما يدبّره أحد ضدّك وانت لا تشعر به كيد. والله تعالى لا يريد الشرّ بأحد الا اذا استحقّه، ولكنّ الانسان حيث لا يشعر بما يتعقّب أعماله من توال مضرّة وفاسدة سواء في الدنيا ام في الآخرة، فيصحّ أن يعبّر عن هذا العمل بالكيد، مع أنّه تعالى حذّر الانسان، وبلّغه بأبلغ وجه، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، فليس هذا مكرا وكيدا في الواقع الا أنّه يشبهه من جهة غفلة الانسان.
والمتين: القويّ الشديد. ومعنى كون الكيد قويّا أنّه لا تمكن مقاومته، مضافا الى أنه لا يمكن العلم به فهو قويّ في تحقيق المراد وقويّ في الاختفاء. والجملة تعليل للاملاء اي انه يمهل لأنه لا يخاف الفوت فكيده قويّ لا يمكن التغلّب عليه.
ولعله أسند الاستدراج الى الجمع بقوله (سنستدرجهم) والاملاء الى المفرد بقوله (واُملي لهم) لأن الاستدراج يتمّ بصورة طبيعية فإنّ الانسان يتنعّم بالوسائل الطبيعية المهيّأة له. وضمير الجمع يدلّ على أنّ الفعل المسند الى الله تعالى يتمّ عن طريق الوسائط الطبيعية وغيرها فكأنّ هناك مجموعة من العوامل تحقّق المقصود.
ولكنّ الامهال بمعنى عدم التعجّل في إنزال العذاب، او الموت على الانسان قبل بلوغ أجله فهو أمر لا تتدخّل فيه العوامل الطبيعية، وإنما يسند اليه تعالى بدون واسطة.
أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون... معنى الآية ــ وقد تكرّر مثلها ــ أنّه لو كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم يطالب بأجر على رسالته لأمكن أن يكون ذلك مانعا من إيمانهم استثقالا من دفع المال، ولكنك لا تطلب مالا كما لم يطلب قبلك سائر المرسلين.
والمغرم: الدَّين. وهو يحصل اذا طولبوا بأجر لا يملكونه. ومثقلون اي مكلّفون بما يشقّ عليهم.
واحتار اهل التفسير في أنّ هذه الآية وتاليتها عدلان لأي جملة مما سبق؟ وهم غالبا يرجعونهما الى المجموعة السابقة حول اعتقادهم بأنّهم أحسن حالا من المسلمين يوم القيامة.
والظاهر أنّ هاتين الآيتين عدلان لقوله تعالى (فذرني ومن يكذّب بهذا الحديث..) فإنّ فيه تهديدا لمن يكذّب بالقرآن او باليوم الآخر، فكأنّه قال: أيكذّبونك استكبارا بسبب ما أنعمنا عليهم فان كان هذا هو السبب فسنستدرجهم... أم السبب في تكذيبهم أنّك تسألهم أجرا على رسالتك؟! والجواب طبعا واضح حيث إنّه صلى الله عليه وآله وسلّم كغيره من الرسل لم يطلب لرسالته أجرا منهم.
أم عندهم الغيب فهم يكتبون... وهذا سبب آخر لتكذيبهم، اي هل عندهم العلم بالغيب فهم يكتبونه، ولا حاجة الى أن يأتيهم أحد برسالة السماء ويخبرهم عن الغيب، فلذلك يكذّبونك استبعادا لرسالتك؟!
والجواب واضح ايضا فانهم لا يمكنهم دعوى علم الغيب، وانما يذكر ذلك للتأكيد على أنّه لا يوجد لتكذيبهم مبرر وعذر.
وتقديم الضمير في قوله (فهم يكتبون) تركيز على المسند اليه ليدلّ على أنهم هم الذين يكتبون ولا ينتظرون من يكتب لهم.
فاصبر لحكم ربك... في معنى الجملة احتمالان:
الاول: أنّ معناها اصبر على ما تقاسيه من أذى المشركين الى أن يأتي حكم ربك فيهم بالعذاب، فاللام في قوله (لحكم) بمعنى (الى).
الثاني: أنّ معناها اصبر على ما تلقاه من الشدائد لتلقّي أحكامه تعالى وشريعته ولتبليغه في المجتمع، فمتعلق الصبر محذوف وهو (على ما تلقاه من المكروه) واللام في قوله (لحكم..) للتعليل اي اصبر على ذلك لكي تنزل عليك أحكام الله تعالى.
ولا تكن كصاحب الحوت اذ نادى وهو مكظوم... صاحب الحوت هو يونس عليه السلام حيث ابتلعه الحوت، وبقي في بطنه الى أن أنجاه الله تعالى. اي اصبر على تحمّل المسؤولية وإبلاغ الرسالة الى الناس، ولا تكن مثل يونس عليه السلام حيث حاول التهرّب من الرسالة التي طُلب منه أن يتلقّاها.
وقد مرّ الكلام حوله في تفسير سورة الصافات، وقلنا خلافا لما في أكثر التفاسير أنّ الله تعالى أرسله عليه السلام الى قوم، ويقال إنّهم أهل نينوى، ولكنه خاف من ثقل المسؤولية، خصوصا لما سمع بطش ملكهم على ما يقال، فأخذ يعتذر كما اعتذر نوعا مّا موسى عليه السلام، ثمّ ركب البحر ليذهب بعيدا عن المنطقة على أمل أن يُـترك ولا يُطالَب بهذه المسؤولية العظيمة.
وهذا هو المراد بإباقه المذكور في سورة الصافات، اي إنه أبق من سيّده وربّه، ظنّا منه أنّ الله تعالى لا يقدر عليه اي لا يضيّق عليه، ولا يطالبه بالسفر بعيدا فكان أن التقمه الحوت بعد أن اُلقي في البحر.
ولكن المفسرين يقولون إنّه عليه السلام بعث الى القوم، ولما لم يؤمنوا به خرج من عندهم مغتاظا وأنّ هذا هو المراد بإباقه، ثم دعا عليهم فنزل العذاب، وتابوا قبل ان يصابوا فغفر الله تعالى لهم وغضب على يونس عليه السلام، حيث لم يصبر عليهم وتركهم قبل أن يؤمر بذلك، ثم تاب عليه بعد أن بقي في بطن الحوت مسبّحا.
وقد مرّ الكلام مفصلا حول ما هو الصحيح في قصته عليه السلام في تفسير سورة الصافات فراجع.
وذكرنا هناك أنّ العلامة الطباطبائي رحمه الله استدل بهذه الآية للرّدّ على هذا الاحتمال الذي قوّيناه، زعما منه أنه كان كاظم الغيظ على قومه فلا يصحّ أن يقال إنّ التقام الحوت كان قبل ذهابه اليهم.
وأجبنا عليه بأن المكظوم معناه انه محبوس النفَس. وهذا يشير الى أزمته في بطن الحوت، ومن الواضح أنّ التنفس هناك في غاية الصعوبة، بل غير ممكن عادة ولا ربط له بكظم
الغيظ، مع أنّه بعد أن دخل بطن الحوت جزاءا من الله تعالى لا وجه لبقاء غضبه على قومه وكظمه، ولو كان كما قال لكان الصحيح (وهو كاظم)، فإنّ (مكظوم) لا يفيد نفس المعنى.
والمراد بقوله تعالى (اذ نادى) نداؤه لربّه في بطن الحوت، وتسبيحه ودعاؤه في ذلك الضيق الشديد. ومعنى تعليق النهي بهذا الظرف حيث قال: لا تكن.. اذ نادى.. النهي عن العمل الموجب للوقوع في هذا المشكل، اذ لا معنى للنهي عن نفس النداء والدعاء.
لولا أن تداركه نعمة من ربّه لنبذ بالعراء وهو مذموم... التدارك والدرك: اللحوق. وصيغة التفاعل للتأكيد. والعراء: الارض بلا عشب ولا شجر. وهو عليه السلام نبذ بالعراء فعلا قال تعالى (فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ)[4] الا أنّ لحوق النعمة من ربّه منعه من أن يكون مذموما بل اجتباه الله تعالى وأرسله الى مائة الف او يزيدون.
وفي الميزان (لا يقال: إنّ الآية تنافي قوله تعالى: «فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»: الصافات: 144، فإنّ مدلوله أنّ مقتضى عمله أن يلبث في بطنه إلى يوم القيامة ومقتضى هذه الآية أنّ مقتضاه أن يطرح في الأرض العراء مذموما وهما تبعتان متنافيتان لا تجتمعان.
فإنه يقال: الآيتان تحكيان عن مقتضيين مختلفين لكل منهما أثر على حدة فآية الصافات تذكر أنه عليه السلام كان مداوما للتسبيح مستمرا عليه طول حياته قبل ابتلائه- و هو قوله: كان من المسبحين- ولو لا ذلك للبث في بطنه إلى يوم القيامة، والآية التي نحن فيها تدل على أن النعمة وهي قبول توبته في بطن الحوت شملته فلم ينبذ بالعراء مذموما).
وما ذكره رحمه الله في الجواب بعيد فان الظاهر من قوله (كان من المسبحين) تسبيحه في بطن الحوت لا قبل ذلك قال تعالى (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ..)[5] والمراد بالظلمات بطن الحوت فإنجاؤه مما فيه كان مترتّبا على تسبيحه هناك، ولكن الاشكال يرتفع بذلك ايضا، فتسبيحه هو السبب في نجاته. وتدارك النعمة هو السبب في اجتبائه وبعثه رسولا.
ويلاحظ أنّ تسبيحه عليه السلام يشابه تسبيح أصحاب الجنة المذكورين في هذه السورة فتسبيحه (سبحانك اني كنت من الظالمين) وتسبيحهم (سبحان ربنا انا كنا ظالمين) وكما كان تسبيحهم مثارا للسؤال كذلك تسبيحه عليه السلام، اذ يقع السؤال في أنه كان المفروض أن يستغفر ربّه من ذنبه فلماذا أبدله بالتسبيح، وما علاقة التسبيح بعمله؟
ولو تأمّلنا القصتين لوجدنا أنّ الموجب للتسبيح أمر واحد، وقد مرّ توضيح مرادهم بالتسبيح، أما هو عليه السلام فإنّ الصحيح في قصته كما ذكرنا هو أنّه بعث رسولا او اقترحت عليه الرسالة فاعتذر وهابه قبولها. وهو في الواقع مهيب جدا فرسالة السماء بنفسها مهيبة، ومسؤولية التبليغ وتحمّل ردّ فعل المشركين عويصة اخرى. وأهمّ شيء في الموضوع نفس الارتباط الوثيق بالسماء واستقبال الوحي الالهي فهو أمر صعب جدا.
ونلاحظ أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم كان اذا نزل عليه الوحي يغشى عليه، وكان يعرق جبينه عرقا شديدا حتى لو كان في الشتاء، وأنّ جسمه كان يثقل بحيث لا تتحمله الدابّـة التي يركبها. ولما بعث بالرسالة اعترته الرعدة ورجع الى داره وتدثّر بالرغم من أنّ الله تعالى ربّاه من أجل ذلك من صغره.
قال أميرالمؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة (وَلَقَدْ قَرَنَ الله بِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ..).
ويلاحظ ايضا أنّ موسى عليه السلام ــ وهو الرجل القويّ الشديد الذي قتل القبطي بوكزة، والذي فرّق الرعاة وهم جماعة بيده من دون سلاح ليسقي غنم المرأتين ــ لما دعي الى الطور ليكلمه الله تعالى ويمنحه الرسالة ارتبك، ولمّا ألقى العصا وتبدّلت حية هرب، وهو لا يخاف الحيّة وانما أربكته هيبة الموقف وسماع كلام الله تعالى.
ولذلك جاءه الخطاب (يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ)[6] ولم يقل إنّ الحيّة لا تؤذيك، ففراره لم يكن الا تهيّبا من الموقف.
وحقّ له ذلك. وما شأن هذا الانسان الصغير الفقير أن يخاطبه ربّ العالمين؟! ولكنّه تعالى أراد أن يربّي رسوله، وهويريد إرساله الى أكبر طواغيت الارض، ومن يدّعي الالوهية، وموسى عليه السلام كان ربيبا في حجره، وهو مطلوب الآن لدم عليه بل محكوم عليه بالقتل، وقد رجع في ثياب الرعاة ومعه عصا الرعي، ويريد أن يواجه الطاغوت الاكبر ويأمره أن ينزل عن عرشه، ويسجد لربّ العالمين، ويؤمن برسالته ويطيعه فهو رسول من ربّه، فلا بدّ من أن يحمل قلبا كالحديد.
وهكذا ربّاه الله تعالى. ومن الواضح أنّ من كلّمه الله جبّار السماوات والارض لا يهاب أحدا مهما تكبّر وتجبّر واُوتي من قوّة وسلطان, بل يصغر عنده الكون كله.
ومع ذلك فإنّ موسى عليه السلام أتى بالمعاذير لعلّ الله تعالى يقيله من قبول المسؤولية العظيمة, وأبى الله الا أن يذهب الى فرعون. ولمّا أصرّ على أن يرسل معه أخاه استجاب دعوته وأرسلهما معا, ومع ذلك اعتذرا معا و(قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى).[7]
والحاصل أنّ اعتذار يونس من قبول الرسالة ليس أمرا مستنكرا, ولكنّه أتى بأمر آخر, فكان لا بدّ من إزالة هذا الذنب ليستحق الرسالة, وهو ذنب في قاموس الرسل لا الناس بوجه عام. والرسل معصومون من الذنوب العامة, وليسوا معصومين من ذنوبهم الخاصّة بمقام المقرّبين.
والامر الذي أتى به هو فراره من ذلك المكان الذي اقترحت عليه الرسالة فيه بعيدا بركوب البحر, ظنّا منه أنّ الله تعالى لا يضيّق عليه بإرساله من مكان بعيد. ولا شكّ أنّ الانسان يجوز له أن يأتي بما يرفع عنه التكليف، ولكنّ هذا الفرار يحكي عن تصوّر في نفسه ولو بصورة مجملة لم يلتفت اليها تفصيلا من أنّه أولى بنفسه من ربّه، وهذا هو ذنبه.
وليعلم أنّ الرسل لا يمكن أن يعتقدوا أمرا مخالفا للواقع في شأن الربوبية، ولكنّ بعض الخواطر ربما يخطر ببال الانسان من دون أن ينتبه للوازمه، فلا يكون اعتقادا مخالفا للواقع الا أنّه ربما ينافي الرسالة. والله تعالى أراد أن يربّي يونس عليه السلام ويجتبيه للرسالة لما يعلم من قابليته وصفاء جوهره، فأمر الحوت بأن يلتقمه ليذوق العذاب، ويستغفر الله تعالى على ما بدر منه، ويسبّحه عمّا دار بخلده من أنه أولى بنفسه من ربّه.
ولعلّ من هذا الباب استبطاء الرسل نصرة ربّهم، حيث كانوا يضيقون بذلك ذرعا، ويرون بأعينهم كيف يتمادى الطواغيت وأعداء الله تعالى، فيتأثّرون ويستبطئون ما وعد الله تعالى به من النصر لرسله، وربّما لا ينتبهون الى لازمه وهو اعتقاد أنّهم قد كُذِبوا في إنجاز الوعد، ولكن الله تعالى ينسب اليهم ذلك لأنه مقتضى الاستبطاء، وهو ممّا ينبغي أن يتنزّه عنه الرسول قال تعالى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).[8]
فلا يبعد توجيه الآية الكريمة بأنّ المراد بالظنّ ما هو لازم ما طرأ عليهم من الاستبطاء وان لم يلتفتوا اليه ويعتقدوا به حتى ظنّا.
ومن ذلك ما طرأ على يونس عليه السلام، فهو ارتكب أمرا مباحا بأن حاول أن يبتعد عن المكان لكي لا يشمله التكليف بالرسالة، ولكنّ هذا يستلزم عقيدة مبطّنة لعلّه لم يلتفت اليها، فلم يكن معتقدا بها, وهي أنه أولى بنفسه من ربّه.
وهذا اعتقاد غير صحيح وتقييد لربوبية الله تعالى، فكان لزاما عليه أن يسبّح ربّه وينزّهه عن ذلك، وان لم يعتقد به بل كان من قبيل الخواطر ومن الانفعالات النفسيّة غير الاختيارية وممّا لا يلتفت اليه تفصيلا.
فاجتباه ربه فجعله من الصالحين... الاجتباء: الاختيار، وهو مترتّب على لحوق النعمة الالهية به عليه السلام، وهي قبوله بعد زوال ما طرأ عليه فاختاره للرسالة. ولعل المراد بالصلاح صلاحيته للقرب الى الله تعالى في مقام الانبياء والرسل.
وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لمّا سمعوا الذكر ويقولون انه لمجنون... (إن) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن. والزلق: الزلل والاندحاض على الارض. وقد وقع الكلام بين المفسرين في المراد بالإزلاق بالابصار فقال اكثرهم بأنّ المراد تأثير العين وأنّهم كانوا بسماع القرآن منه صلى الله عليه وآله وسلّم يعجبون من فصاحته وقوة منطقه بحيث يكادون أن يؤثّروا عليه بأعينهم فينزلق وينحرف عن مساره ويقع أرضا.
ولكنّ بعضهم وخصوصا المتأخّرين لم يستحسنوا ذلك، واعتبروا الاعتقاد بالعين وتأثيرها خرافة، وأوّلوا الآية بأنّ المراد أنّهم ينظرون اليك حين سماع القرآن نظر الحقد والعداء بحيث يكادون بنظرهم أن يهلكوك.
والآية تحتمل الوجهين فالمعنى الاول لا موجب لإنكاره. وتأثير العين مذكور في روايات كثيرة، ومعروف عند الناس، والشواهد عليه قطعية، بل الظاهر أنّه المراد بقوله تعالى (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله..)[9] وأنّ يعقوب عليه السلام كان يخاف على أولاده العين لكثرتهم وتشابههم وصباحة وجوههم. ويقال إنّ العلم الحديث ايضا لا ينفيه. ولا يهمّنا استبعاد بعض المعجبين بكل ما هو حديث، وإنكارهم لكل ما هو قديم.
وبناءا على هذا المعنى يكون المراد بالآية الاستغراب من قولهم (إنّه لمجنون) مع أنّهم من شدة إعجابهم بفصاحة القرآن وحلاوة كلماته وقوّة استدلاله وحكمته يكادون يزلقونك بأبصارهم. وهذان لا يجتمعان، اي الاعجاب به مع القول بأنّ صاحبه مجنون.
والمعنى الثاني ايضا غير بعيد، فإنّ الإنسان ربّما يبرز ما في ضميره بالنظر الى الشيء او الشخص. والنظرات تختلف في ما تدلّ عليه من رحمة وعطف، او شهوة ولذة، او حب وحنان، او بغض وكراهية، اوغضب واستنكار، الى غير ذلك.
وعليه فيكون القصد من الآية أنّهم من شدّة حقدهم وبغضهم يكادون بنظرهم المليء بالحقد والكراهية ينحّونك عن طريقك، او يسقطونك أرضا، او يهلكوك، وهم في نفس الوقت يقولون من الحقد ايضا (انه لمجنون).
وليس القصد أنّ نظرهم يوجب ذلك واقعا، بل القصد أنّ نظرهم مليء بالحقد والكراهية الى درجة بحيث يكاد يسقطك أرضا، لو كان النظر يؤثر مثل هذا التأثير.
ولكن الاول أنسب بالسياق، فإنّ الظاهر أنّ الآية في سياق الردّ على قولهم (إنّه لمجنون) وأنّها في هذا المقام بصدد الاستغراب من هذا القول الذي لا يجتمع مع إعجابهم بفصاحة كلامه الى حد الإزلاق بالعين. وأمّا بناءا على المعنى الثاني فلا مناسبة للجمع بين نظرهم المليء بالحقد وقولهم إنّه لمجنون.
وما هو الا ذكر للعالمين... تعقيب على رميه صلى الله عليه وآله وسلّم بالجنون لتلاوته القرآن الكريم عليهم بأنّ ما يتلوه ليس الا ذكرا للعالمين.
وهو ذكر لأنّه ينبّه الانسان الغافل على ما تنطوي عليه فطرته من الانجذاب نحو خالق السماوات والارض، وعلى ما يشعر به في قرارة نفسه من استبعاد أن يكون هذا الكون خلق عبثا وبدون هدف.
وهو ذكر لجميع البشر ولا يختص بقوم دون قوم. والاشارة الى كون الدعوة عالمية في ذلك الظرف العصيب، والنبي صلى الله عليه وآله وسلّم محاصر من قبل الاعداء، واصحابه مطاردون ومهددون ممّا يثير إعجابهم أكثر من قبل، كما يثير حقد الحاقدين ايضا.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين.