فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
فلا تطع المكذّبين... الفاء للتفريع، اي حيث ثبت أنّهم على ضلال وأنّك المهتدي فلا تطعهم. والطاعة: اللين اي لا تلن لهم جانبك وليس المراد المتابعة. وعبّر عنهم بالمكذّبين للاشارة الى مناط الحكم فإنّ تكذيبهم للرسالة ولمحتوى الرسالة يجعلهم في شقّة بعيدة عنك جدّا لا يمكن تجاوزها ولا الإغماض عنها، فليس هناك بينك وبينهم أيّ قرابة وصلة حتى لو كانوا حسب العلاقات الدنيوية من أقرب الأقربين. فالدين هو الفاصل العميق والأصيل.
وربما يتمسك بعض المتزمّتين في هذا العصر بمثل هذا النصّ للتشدّد في أمر الدين مع كلّ من يخالفهم في العقيدة، حتى لو كان مسلما فضلا عن الكفّار.
ولكن يجب أن يلاحظ أوّلا: أنّ هذا التشدّد والمنع من اللّين انما هو مع المكذّبين، وليس كل من لا يعتنق الدين مكذّبا فضلا عمّن لا يعتقد ببعض الجزئيات التي يراه المتعصّب جزءا من دينه.
ولذلك ما كانت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم هو التشدّد مع كل كافر بل حتى مع كل مشرك، وانما كان ذلك خاصّا بزعماء القوم الذين كانوا على ثقة بصحة ما أتاهم به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، ومع ذلك كانوا يكذّبون ويرفضون الانصياع للحق.
وثانيا: أنّ ذلك انما هو في الردّ على محاولة تأثيرهم على الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم للتنازل عن بعض العقيدة، ولم يكن ذلك يمنعه من محاولة التأثير عليهم بتلاوة الآيات وتحمّل أذاهم في هذا السبيل، ولم يواجههم بالسيف الا بعد ما قاموا ضدّه وقاتلوه.
بل لم يمنع ايضا من الصلح معهم والهدنة ومنع التقاتل اذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، كما حدث في صلح الحديبية وتمكّن المسلمون بذلك من نشر الدين والدعوة لمدة طويلة. ولذلك اعتبره الله تعالى فتحا مبينا، وأنزل في ذلك سورة الفتح.
ودّوا لو تدهن فيدهنون... الدهن وسيلة لتليين الاجسام، فاستعير الإدهان لتليين القلوب بانواع الحديث او بالمصانعة والتنازل. و(لو) مصدرية اي ودوا إدهانك فيدهنوا، وانما أتى بالفعل مرفوعا بتقدير مبتدأ، اي فهم يدهنون. والجملة جواب التمني المفهوم من قوله (ودّوا).
ويمكن أن يكون المراد بقوله تعالى (فيدهنون) أنّهم يدهنون ابتداءا، فالمعنى على هذا الاحتمال أنهم يدهنون برجاء أن تدهن لهم بعد ذلك، ولا يتمنّون أن يبدأ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بالادهان.
والآية تنبّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بأنّ القوم قد وقعوا في حرج شديد من هذه الدعوة، فلا يحبّون التنازل عن دين آبائهم ولا يحبّون أن يحاربوك، فهم يودّون أن يلينوا معك بشرط أن تلين لهم ولو قليلا. ومعناه أن يتنازل الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عن بعض العقيدة ويتنازلوا هم ايضا عن بعض ما يصرّون عليه ليتوافقوا جميعا في منتصف الطريق.
والله تعالى يأمره بأن يرفض ذلك، لأنهم مكذّبون للرسالة فلا يمكن التوافق معهم في شيء من العقيدة.
وفي التاريخ قصص كثيرة عن اقتراح المشركين نوعا من التنازل من الطرفين.
وقد ورد النهي عن مداهنة المشركين في سورة الاسراء ايضا ولكن بصورة اخرى ربما يتضح من ملاحظتها الوضع آنذاك، قال تعالى (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا).[1]
فيظهر من الآيات أن مقترحهم لم يقتصر على تعامله صلى الله عليه وآله وسلّم معهم بلين بل كانوا يطالبون بتغيير الآيات وتبديلها حتى يتّخذوه خليلا، كما ورد ايضا في قوله تعالى (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي..).[2]
ويظهر بوضوح أنّ العصمة وتثبيت الله سبحانه هو الذي منع الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من الركون اليهم حتى قليلا، وأنّ الركون حتى لو كان قليلا جدّا كان يستتبع ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة. وهذا هو شأن الرسل عليهم السلام، ولكن الله تعالى يعصمهم ويثبّت قلوبهم فلا يتمكّن الاعداء من بلوغ مآربهم.
وفي وجه نزول هذه الآيات ونظائرها احتمالان:
الاول: هو ما يبدو منها ويذكره عامّة المفسّرين او يظهر من كلامهم وهو أنّ لين الجانب وحسن الخلق الذي كان صفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بصورة طبيعية كان يقتضي نوعا من المداهنة، وأنّه ربما كان يحبّ ذلك خصوصا مع ما عرف به من صلة الرحم وحبّه لقومه، وأنّ التهديد والتشديد الواردين في الآيات انما وردا للتأثير على نفسيته الليّنة بطبيعتها.
الثاني: ولعله الصحيح أنّه صلى الله عليه وآله وسلّم بقدر ما كان رحيم القلب رؤوفا لينا كان في نفس الوقت صلب الايمان، لا تأخذه في الله لومة لائم، شديدا في ذات الله، لا يمكن أن تؤثّر في قلبه الكبير أضعاف هذه المحاولات.
بل إنّها في الواقع كانت محاولات يائسة وضعيفة ما كانت تؤثر في قلوب عامّة المؤمنين فضلا عن صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله وسلّم. ويلاحظ أنّ المؤمنين في مكّة كانوا يقاومون شتّى طرق التطميع والتعذيب ولا يتنازلون قيد أنملة عن الطريق الصحيح الذي أراده الله تعالى منهم، فكيف يمكن أن تؤثّر هذه المقترحات الواهية في قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم؟!
فالأصحّ أن يقال إنّ هذه الآيات بما تحمله من تهديد ووعيد للرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلّم انما قصد بها اعطاؤه الحجة والعذر المقبول ليواجههم به، ويؤيسهم من هذه المحاولات بحجّة أنّ الله تعالى لا يقبل منه أدنى مداهنة، وأنّه لو تنازل وركن اليهم ولو شيئا قليلا لعذّبه الله تعالى في الدنيا والآخرة ضعف عذاب غيره ممن يصدر منه ذلك التنازل.
ولا تطع كلّ حلاف مهين… مجموعة آيات تصف بعض المشركين بصفات مذمومة جدّا لتحقيرهم والاستهانة بهم وبمقترحاتهم.
والذي يبدو لي أنّ الغرض ليس هو النهي عن إطاعة شخص او اشخاص لهم هذه الصفات ليكون ذكرا لمناط الحكم، فمن الواضح أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ما كان يلين لهم خصوصا بعد النهي حتى لو لم يكونوا بهذه الصفات، فالغرض هو الاستهانة بهم وتحقيرهم، سواء اُريد بذلك شخص معين او مجموعة منهم.
وبما ذكرناه يتبيّن أنّه لا وجه للبحث عن أنّ المراد اجتماع هذه الصفات في واحد او أنّ الحكم يشمل من وجد فيه إحداها.
والحلّاف من يكثر منه الحلف. وهذا علامة أنّه كثير الكذب فلا يثق به أحد حتى يحلف، او أنّه يحلف على مواعيده للناس لعدم اعتمادهم على قوله من دون حلف فيحاول الاستيثاق بالحلف، او أنّه يحلف كثيرا ويحنث، فكثرة الحلف كناية عن كثرة الحنث.
والمهين من المهانة اي الحقير، وقد يكون توضيحا لكثرة الحلف فإنّ من يكون كذلك يكون حقيرا ايضا. وقيل المراد المهانة في الرأي.
همّاز مشّاء بنميم... الهَمز في الاصل هو الضغط والعصر، واستعير للاغتياب. وقيل: مطلق ذكر العيب. ومنه قوله تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)[3] واللَّمز ايضا ذكر العيوب. وقيل: إنّه يختص بغير الاغتياب. والهمّاز مبالغة فيه إمّا لكثرة اغتيابه، او لفظاعة مايقوله على الناس من خلفهم.
والنميم مصدر كالنميمة، وهو في الاصل الحركة الخفيفة. ويطلق على الوشاية والافساد بين الناس. والمشي به اي السعي من أجل ذلك. والمشّاء صيغة المبالغة، فالمراد أنّه يحاول بكل جهده الإفساد بين الناس، او أنّه يكثر ذلك.
منّاع للخير معتد أثيم...منّاع للخير مبالغة في مانع الخير، بمعنى أنه يمنع خيره عن الناس بشدّة، او لشدة بخله يمنع غيره من ايصال خيره الى الناس. قيل والمراد بالخير المال. ولكن التعميم اولى. وأفضل خير كانوا يمنعون وصوله الى الناس هو الهداية الى دين الحق.
والمعتدي: المتجاوز على حقوق الآخرين. والعدوان كان من شيم القوم بأجمعهم. وزادوا عدوانا حينما مال الناس الى الدين الحنيف، فلم يتأثموا من الضرب والقتل وكل ما كان بوسعهم لمنع انتشار الدين.
والاثيم من الاثم، وهو الخطيئة والذنب. والصيغة ايضا للمبالغة فالمعنى أنه كثير الاثم. ولعل المراد ما يكون إثما في عرفهم ومجتمعهم اذ لا يتوقع منهم أن يكونوا ملتزمين بالشريعة. وهناك آثام يرفضها كل البشر ولا يختص بدين ولا ملة.
عتلّ بعد ذلك زنيم... العتلّ مأخوذ من العتلة بفتحتين، وهي حديدة يحفر بها الارض، او هراوة غليظة من الخشب، فاستعير به عن الانسان الغليظ الجافي. وقوله تعالى (بعد ذلك) اي مع كل ما فيه من عيوب توجب الحقارة والذلة يعامل الناس بقسوة وجفاء. وليس في التعبير معنى البعدية زمانا كما هو واضح.
والزنيم: الدعي الذي لا أصل له، او يدعى لغير أبيه، او ينسب الى غير قومه. وكان هذا شأن كثير منهم لتفشي الزنا فيهم. ولذلك قيل: أريد بالزنيم الوليد بن المغيرة، لأنه ادّعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة من مولده.
وقيل أريد به الأخنس بن شريق لأنه كان من ثقيف فحالف قريشا وحلّ بينهم. وحتى بني اُميّة يقال عنهم ان اُميّة لم يكن ابنا لعبد شمس بل كان عبدا ألحقه بنفسه. والله العالم.
أن كان ذا مال وبنين... اي لأن كان.. وهو علة للاطاعة فإنّ توقّعه لأن يطاع ليس الا من جهة كونه ذا مال وبنين ولا ميزة له غير ذلك. ومن هنا قيل: إنّ المراد به الوليد بن المغيرة لقوله تعالى فيه (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا).[4]
ولكن الصحيح أنّ الامر لا يختص به فهم كثيرا ما كانوا يتباهون بالمال والبنين، وحتى الآن نجد عتاة العرب يبذلون كل الجهد لتكثير المال والبنين.
اذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين... الاساطير جمع اُسطورة، وهو مأخوذ من السطر بمعنى الكتابة، ويطلق غالبا على القصص الخرافية. وهذا التعبير مما تكرر نقله عن الذين واجهوا الرسل حيث كانوا يسمعون عن اُمم سابقة ما جاءت به رسلهم فيقولون إنّ هذا كلام قديم يشبه ما جاءت به الاساطير القديمة.
وهذه حجة واهية تبتني على أنّ كل فكر حادث في أيّ جهة وأيّ موضوع فهو أصحّ من القديم، لأنّ البشر يتكامل ويتطور. وليس كذلك في جميع الشؤون فالبشر يتكامل في شؤون دنياه، وأما ما يرتبط بالغيب وما تأتي به رسالات السماء فلا يتغير في أساسه، وإن تغيّر بعض الطقوس والاحكام تبعا لتغير الانسان واحتياجاته.
قال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ..).[5]
قال بعضهم: وهذا ايضا يدل على أن المراد بالآيات الوليد بن المغيرة لانه هو الذي قال هذه الجملة.
وهذا غير صحيح فهذه جملة تداولتها الامم كما قلنا وانما المحكي عنه أنّ القرآن سحر كما قال تعالى: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ).[6]
سنسمه على الخرطوم... الوسم العلامة، كانوا يَسِمون العبيد بالكيّ ليُعرفوا بعد الاباق، وفيه من المذلّة ما لا يطاق، فاذا كان الكيّ على الانف فهو غاية المذلة. والآية كناية عن الاذلال خصوصا مع التعبير عن الانف ــ وهو رمز الكبر والشموخ عند العرب ــ بالخرطوم، وهو أنف الفيل، ويعبر به عن أنف الخنزير ايضا.
والظاهر عدم اختصاص الوعيد بالآخرة فقد أذلّهم الله تعالى في الدنيا ايضا، حيث قتلوا في غزوة بدر على أيدي الفقراء ومن كانوا يرونهم عبيدا لهم، واُلقيت جثثهم في القليب، واضطر الآخرون الى الاستسلام يوم الفتح، وعفا عنهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وعبّر عنهم بالطلقاء.