مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة القارعة مكية كما يظهر بوضوح من مضامينها ولحنها. وموضوعها القيامة.

الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ...

القرع هو ضرب الشيء بالشيء بشدة ومنه قرع الطبول وتطلق القارعة على الحادثة والنازلة الشديدة كالزلزال قال تعالى (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ..).[1]

والمراد بها هنا ما يحدث من الشدائد يوم القيامة مما لا يتصورها الانسان كما قال تعالى (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ).[2]

وافتتاح السورة نظير قوله تعالى (الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ)[3] وقلنا هناك في اعراب الآيتين الاوليين انه يحتمل كون الآية الاولى مبتدأ والثانية خبره فالتقدير القارعة ما هي. وتكرار الاسم بدلا عن الضمير للتأكيد على لفظ القارعة ومعناها.

ويحتمل ان يكون الخبر مقدرا اي القارعة ستأتي حتما او نحوه.

ويحتمل ان لا يكون له خبر ولا مانع من إطلاق الكلمة الواحدة اذا أفادت وقد تفيد الكلمة الواحدة ما لا تفيده الجملة فاذا وقف من يريد اعلان السورة وخاطب السامعين بصوت عال: القارعة!!! ثم أتبعها بقوله ما القارعة؟! وما ادراك ما القارعة؟! فانه سيثير انتباها اعظم من ان يقول جملة.

ومثلها قوله تعالى (الرحمن) خصوصا بملاحظة ان العرب ما كانوا يعرفون هذا الاسم قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ).[4]

وبناءا عليه فقوله (ما القارعة) سؤال لانشاء التعجب او كما يقال للتعجيب مما يحدث ذلك اليوم وللتحذير منه والاشارة الى عظمته وأنه فوق إدراك الانسان وتصوره.

وكذلك الآية الثالثة والتعجيب فيها جاء بصيغة نفي المعرفة بحقيقة ما يحدث والخطاب للرسول صلى الله عليه واله وسلم او لكل سامع وقارئ.

والجملة سؤال عن الامر الذي يوجب دراية المخاطب ومعرفته بما سيحدث في تلك المرحلة من الكون والقصد منه بيان انه لا يوجد هنا ما يوجب درايتك بعظمة ذلك اليوم وما يحدث فيه وذلك لانه اعظم من ان يحيط به الانسان بذاته لولا ما نزل بشأنه من الوحي.

وروي عن ابن عباس انه قال: (ما في القرآن "ما ادراك" الا وقد أدراه وما فيه "ما يدريك" الا ولم يبينه).

والسبب يكمن في الفرق بين فعلي الماضي والمضارع فالذي لم يدره سابقا سيعلمه بهذا البيان ولو اجمالا واما ما نفى عنه المعرفة مستقبلا فلا يمكن معرفته كموعد يوم القيامة كما قال تعالى (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا)[5] وقال ايضا (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ).[6]

ولم يرد (وما يدريك) الا فيهما وفي قوله تعالى (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)[7] وقد مر في تفسير سورة عبس وجه القول بذلك.

يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ...

من هذه الآية يبدأ بيان بعض صفات القارعة. والظرف متعلق بمحذوف اي تتحقق القارعة يوم يكون الناس... لان القارعة اسم لما يحدث ذلك اليوم من الاهوال وليس اسما لنفس اليوم.

والفراش صغار الجراد التي تخرج من بيوضها وهي من أخطر الآفات للمزارع. والمبثوث اي المنتشر كما قال تعالى (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ).[8]

والتشبيه في غاية البلاغة فالناس ذلك اليوم من كثرتهم وحيرتهم وتحركهم يمينا وشمالا خوفا وتحيرا لا يشبههم شيء مما رآه السامعون في هذه الدنيا كما تشبههم صغار الجراد التي تنتشر بكثرة هائلة يركب بعضها بعضا وتتحرك من دون هدف ولا ترى طريقها.     

وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ...

العهن بمعنى الصوف الليّن. وهو في الاصل بمعنى اللين والسهولة كما ورد في معجم مقاييس اللغة. ومنه قولهم ( فلان يلقي الكلام على عواهنه) اي يتسامح في ما يقول ولا يتحدث عن تثبّت ويقين او لا يبالي بما يقول.

والنفش بمعنى الندف والمدّ. اي الصوف اللين المندوف.

وقيل المراد بالعهن الصوف الملوّن. وهو غير صحيح وإن اُطلق في اللغة عليه الا أنّه من جهة تأثير التلوين في ليونة الصوف. والاصل في هذه الكلمة كما قلنا اللين والسهولة وقد مرّت المناقشة فيه في تفسير سورة المعارج.

والمعروف في تفسير هذه الاية أنّ المراد انهدام الجبال ذلك اليوم ولكن الصحيح أنّ الارض يوم القيامة غير هذه الارض كما قال تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ)[9] وهذه الارض تزول ضمن زوال النظام الكوني وانهدام الارض. والجبال ليست بشيء يوم ينهدم كل هذه المجرات الهائلة.

وهذه الآية تصف يوم القيامة لا يوم انهدام الكون وبين اليومين فاصل لا يعلمه الا الله تعالى كما قال (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ).[10]

فالظاهر أنّ هذا تعبير كنائي عن أمرين:

احدهما عدم إمكان اللجوء الى الجبال فإنّ الانسان الساذج يتوهم انه كما يمكنه الفرار من بعض الحوادث الى المغارات والكهوف فكذلك سيلجأ اليها يوم القيامة.

ومن ذلك ما دار بين نوح عليه السلام وابنه الكافر (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ).[11]

والامر الآخر عدم إمكان التستّر ذلك اليوم فكل ما في الانسان مكشوف كما قال تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا).[12]

والمراد بهذا اليوم يوم القيامة لا يوم انهدام الارض، بقرينة قوله تعالى (يومئذ يتبعون الداعي..). وكذا قوله تعالى (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا).[13]

فالتعبير بنسف الجبال وتسييرها وكونها كالعهن المنفوش او كثيبا مهيلا وكون الارض قاعا صفصفا ليس فيها التواءات وتعاريج ولا ارتفاعات ووديان بل ليست كروية كما ربما يظهر من قوله تعالى (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ)[14] يراد بها عدم وجود الساتر وانكشاف كل شيء ذلك اليوم كما قال تعالى (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ..).[15]  

والظاهر ان التعبير معاكس للواقع ملازم له فإنّ الواقع أنّ الانسان يتحوّل وينكشف عنه الغطاء. والتعبير عن الشيء بما يلازمه في الجانب الآخر ليس بعزيز في باب الكنايات والاشارات. والقرآن الكريم مليء بالكنايات والاستعارات. والسبب بُعد الانسان عن حقائق تلك النشأة وعدم إدراكه لها على حقيقتها، بل عدم تمكّنه من إدراكها غالبا.

فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ...

الفاء للتفريع فانه حيث تبين ان الناس ينتشرون ويذهب كل الى سبيله كان لا بد من بيان التفصيل.

والمراد بثقل الموازين ثقلها بالعمل الصالح وهذا يفيد انه لا يكفي عدم الظلم وترك الشر. وهناك من الناس من يتباهى بذلك ويقول انه لا يصلي ولا يصوم ولا ولا.. ولكنه لا يضر احدا ولا يريد بالناس الشر فالآية تنبّه امثال هذا البشر بان ذلك غير كاف في النجاة ذلك اليوم بل لا بد من ان يثقل ميزانه بالعمل الصالح.

والموازين جمع ميزان ولعل الاتيان بالجمع للاشارة الى أنّ لكل نوع من العمل ميزانه الخاص به اي ما به يقدّر قدره. والوزن: القدر قال تعالى (فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا).[16] وهو تعبير عربي معروف يقال: فلان لا وزن له عندنا اي لا نقدره والتعبير بثقل الميزان كناية عن كثرة الحسنات.

والعيشة نوع من العيش يحدده الوصف بانها راضية وهذه الصيغة اي الفِعْلة تدل على النوع الخاص كالجلسة لنوع خاص من الجلوس والمشية لنوع خاص من المشي.

وتوصيف العيشة بأنها راضية من باب المبالغة فان الرضا صفة الانسان العائش واسندت الى العيشة مبالغة فكأنها هي الراضية مع انها في الواقع مرضية يرضى بها صاحبها.

وقيل ان العيشة فاعل الرضا ومعناه اللين. ولم اجد في اللغة هذا المعنى.         

وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ...

يمكن ان يكون الاُمّ كناية عن المأوى لان الطفل يأوي الى امّه. وهاوية: جهنم. وهي علم لها كما قيل ولذلك جاء بدون لام التعريف والاصل فيها الهوي اي السقوط. ويعبر بالهاوية عن كل مهواة لا يدرك قعرها. والمعنى أن مأواه جهنم.

ويمكن ان يكون المراد بالام اُمّ رأسه بحذف المضاف اليه وهاوية خبره ومعناه انه يهوي على راسه وحذف موضع سقوطه وتدل عليه الجملة التالية.

وقال جمع منهم ان المراد بالام امه الحقيقية وان هاوية خبرها والهوي الهلاك والعرب اذا ارادوا الاخبار عن هلاك الشخص يقولون ان امه هلكت. قال في الكشاف (لأنه إذا هوى أي سقط وهلك، فقد هوت أمّه ثكلا وحزنا).

وردّ عليهم العلامة رحمه الله بأن ذلك لا يصح لان الضمير في قوله وما ادراك ما هيه يبقى بلا مرجع.

والاشكال في محله ولا يدفعه القول بان الضمير يعود الى الداهية التي يدل عليها الكلام لانه حينئذ لا يناسبه الجواب بانها نار حامية.  

وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ...

الهاء للسكت أي وما ادراك ما هي الهاوية وكما مر كل ما كان في القران (ما ادراك) يأتي بعده ما يبين شيئا منه. وهنا أتى البيان بقوله (نار حامية) اي شديدة الحرارة قوية اللهب.

اعاذنا الله منها بحق محمد واله الطاهرين صلوات الله عليهم اجمعين والحمد لله رب العالمين.

 


[1] الرعد : 31

[2] الزمر : 47

[3] الحاقة : 1 - 3

[4] الفرقان : 60

[5] الاحزاب: 63

[6] الشورى: 17

[7] عبس: 3

[8] القمر : 7

[9] ابراهيم : 48

[10] الزمر : 68

[11] هود : 42 - 43

[12] طه : 105 - 108

[13] الكهف: 47

[14] الانشقاق : 3

[15] غافر : 16

[16] الكهف : 105